حوت (مقالة) الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش السوداني ق صحيفة وول استريت جملة من الفرضيات ومن النتائج التي تجلس قلقة في متن تاريخ لم يجف حبر وقائعه ولا جفت برك دمائه. وكان أجدر بسيادة الفريق وقد ارتأى أن يخرج (بضاعته) إلى الناس أن يحسن (الصنعة) ويؤسس حجته في الحرب والسلام على بيان ناصع واعتراف جرئ بالخطأ في تقدير المصلحة الوطنية المتحققة من (اصطحاب الدعم السريع) – المثقلة صحيفته بالوحشية – في ترتيب أوضاع السودان بعد الثورة، وهو اصطحاب لم يأت اعتباطا بل ألح عليه الفريق البرهان أيما إلحاح بحسب ما قال هو نفسه. إن ذم الدعم السريع بعد الحرب ورميه بعظائم الجرائم، ومعرفة من يسلحه ويوظفه هي وقائع أثبت في علم من (يخاطبهم) السيد الفريق البرهان منها في علم الحكومة المؤسسة، علمها على وارد صور الأقمار الاصطناعية (الغربية) وتقارير المنظمات الدولية والصحف العالمية. جرائم الدعم السريع في الحرب شاهدة بنفسها عليها وقد باتت في علم الكافة. مشكلة البرهان ومعضلته هي في بيان ( علاقته) بالدعم السريع قبل الحرب. هنا ستبدو لك شكايته عن تضخم الدعم وتطور أسلحته واستقلاله بقراره وبثرواته التي هي ثروات البلاد؛ ستبدو لك هذه الشكاية قولا تكذبه سيرة الرجلين منذ اسقاط البشير في أبريل 2019 إلى يوم انقلابهما معاً على حكومة عبدالله حمدوك في اكتوبر 2021. لو كنت محل البرهان لصرفت نظري عن الدعم السريع (قبل الحرب) وصوبت (مدفعيتي ) إلى الدعم السريع ( بعد الحرب). لأن الدعم السريع قبل الحرب كان (دعما للبرهان ما ينفك يزكي فضائله الوطنية للشعب السوداني. وهي تزكية لم تتخلف عنها القوى المدنية وعلى رأسها عبدالله حمدوك الذي صك وصف ( التناغم ) لهذه العلاقة الشتراء. وهي العلاقة (المتناغمة) عينها التي أراد حميدتي أن يعبر عنها بلغته في ضرورة أن تكون (عينيها وأضنيها) مع بعض. كان يمكن للفريق في سياق بيان سوء طوية الدعم السريع أن يقول إننا برغم ما نعلم من سيرة الدعم نشأة وأفعالا فقد حرصنا على إدماجه في البنية العسكرية للدولة لكنه (خاننا). والقول (بخيانة الدعم السريع ليس مما يسهل قبوله إذا ما تم عرضه كما قلنا على طبيعة علاقة الرجلين منذ لحظة اشتراط البرهان على حميدتي أن يكون رفيقه ( في القيام بالمهمة الوطنية) التي ما استقرت في يد الفريق ابن عوف إلا طرفا من نهار وليل. لقد كان الفريق البرهان في مقالته يمشي فوق حقل من الألغام ويقفز فوقها قفزا بحثا عن منطقة آمنة يضع عليها قدمه. إن ما حاولته ( مقالة البرهان ) من (التبرؤ ) من ( الدعم السريع) و وتوصيفه ( كحالة نمو سرطاني ) في جسد الجيش لم تعرفه قيادته بهذا السرطان إلا صباح الخامس عشر من أبريل 2023 يشكل تزييفا خطيرا للتاريخ. لأن بعض كبار قادة الجيش بل وحتى جنوده كانوا يرون الورم ويضعون أيديهم على رؤوسهم، بعضهم يمضي خطوة أبعد فيحذر فتكون النتيجة إبعاده، الشعب أكثره كان يرى الورم السرطاني ويرى جسد الجيش كيف يذوى فيضع يده على قلب الوطن خشية أن يتوقف يوما. تقارير الاستخبارات كانت ترى ما لا يراه غيرها. وقد اتهمت جهات كثيرة البرهان بأنه كان يتعامى عن قصد عن رؤية (الخطر الذي يمثله الدعم السريع) وأنه كان يذهب إلى درجة شخص وصف من يشكك في الدعم السريع بأنه منافق. يقول ذلك وجيش الدعم السريع اللجب يمتد أمام بصره أرتالا من ورائها أرتال وتزحم المدى ( أسلحته الحديثة معلومة المصدر ). وهي أسلحة ما كانت تسقط على الدعم السريع من السماء ليلا بل كانت تأتي أفواجا أفواجا من مداخل البلاد المعلومة. وسيفاجئ البرهان في مقالته بصحيفة وول استريت أنه كان مدركا وواعيا لخطر الدعم السريع. وهذه مقولة يمكن امتحان صدقيتها بالقرائن المعززة لزعمها أو المكذبة له فيما كان يحدث بين أيدي الناس. ولك أن تسأل ماذا فعل الفريق البرهان منذ 2019 إلى حين اندلاع الحرب في 2023 مما ترجم ذلك الإدراك والوعي بالخطر إلى سياسات وأفعال؟! أما رئيس الحكومة المدنية الذي جاءت به الثورة أو للدقة جئ به إليها فقد كان (المايسترو) والمؤلف لمقطوعة (التناغم) في وصف مخرجات المشهد العسكري والسياسي البائس بعد إسقاط البشير. كان أيسر من كل تلك المرافعة في بيان (فساد الدعم السريع وجرائمه) أن يقول الفريق البرهان إن الدعم السريع – الذي قائده نائبي – هو فصيل عسكري تمرد على السلطة وسنتعامل معه كما تتعامل كل دولة مع تمرد في مؤسستها العسكرية. نقطة سطر جديد. إن مشكلة هذه الحرب كانت منذ اليوم الأول في اضطراب خطابها المؤسسة لشرعيتها وعدالتها وذم الدعم السريع قبل الحرب لن يشكل منطقا مقنعا في هذا السبيل إلا بدمغه (بالتمرد ) أما الحديث عن تضخم الدعم السريع وحيازته للأسلحة المتطورة فلن يأمن معه الفريق من يحتج عليه بالقول : يداك أوكتا وفوك نفخ يا سعادتك. وما عندي شك في أن الفريق البرهان أراد (بمقالته) أن يقدم ( عرضحالاً وطنيا) للرأي العام العالمي وللمؤثرين فيه وللفاعلين بالحسنى وبغيرها في شؤون العالم. وهو جهد قصد به البرهان بيان لماذا قامت الحرب وكيف يمكن إنهاؤها. وهذا أمر على أهميته تأخر كثيرا وأسوأ من تأخره أنه لما حدث جاء ببيان مهلهل وحيلٍ في (تأليف قلوب وعقول الغرب) مما يصح أن يرد عليه واحد من الغرب شفت: توراتية بتاع فنيلتك. ولا يعرف لهذا لتأخر البرهان في مخاطبة مراكز النفوذ الغربي سبب وجيه إلا أن تكون بينة الاتهام ما اكتملت في عقل صاحبها، فما يزال بها يكتب ويمحو ويضيف ويحذف حتى رأها بعد نحو ثلاثة أعوام اكتملت مقالة تصلح للنشر. أو لعل المقالة – وهذا الأرجح عندي- استأنست بالنقاشات حول الحرب في السودان التي جاءت من تلقاء زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وطلبه إلى الرئيس دونالد ترمب بإيلاء الوضع في السودان اهتمامه ودعوته إلى العمل والانخراط بشكل جاد لإنهاء المأساة السودانية بعد شروح مستفيضة قدمها الأمير محمد بن سلمان (رفعت جهل ترمب بالحالة السودانية). وقد حمدت الحكومة لولي العهد السعودي سعيه وحمد له الشعب السوداني ذلك ثم جاء دور الفريق البرهان لعرض قضيته على العالم واستكمال عرض الحالة السودانية من لدن ( مملكة كوش حتى يومنا هذا) فكانت مقالة وول ستريت جورنال. وهنا أخطأ الفريق البرهان في بيان منطق الحرب . وأخطأ مرة ثانية في حق الشعب السوداني حين لم يحسن اختيار ( مطاياه) ليقطع بها المفازة إلى قلوب وعقول العالم الخارجي فاختار أكثرها هزالا وأشملها عللا. أما منطق الحرب فكامن في كلمة واحدة كما قلنا من قبل: جريمة (التمرد). التمرد ليس بقتال جيش الدولة السودانية ولكن بقتل المدنيين في المدن والقرى وسلب ممتلكاتهم وسبي النساء واغتصابهن. لا توجد دولة تتساهل مع التمرد. لا توجد دولة في العالم تجلس على طاولة تفاوض فيها من يقتل المدنيين ويرتكب الابادة الجماعية والتصفية العرقية. ويذهب سعادة الفريق البرهان عوضا عن تأسيسه منطقه في محاربة الدعم السريع على ( حق الجيش والشعب في محاربة الدعم السريع)، يذهب إلى تخويف الأمريكيين من شروره لأنه قتل حارسا يعمل في السفارة الأمريكية كان محتجزا لدى قوات الدعم السريع، ولأن ولأن الدعم السريع كان يهم بمهاجمة موكب دبلوماسي في الخرطوم. والحيثيتان ليستا مما يحتاجه البرهان لإيغار صدر الأمريكيين على الدعم السريع. ما يحتاج أن يقوله البرهان للعالم بلغة بسيطة وواضحة وحازمة وقاطعة هو لماذا نحن الجيش والشعب نحارب الدعم السريع. إن منطق الحرب متعلق ليس بمقدار ما يقع من إيذاء الدعم السريع على الآخرين بل بمقدار ما يقع من أذى وضر بالشعب السوداني. فإذا أقام البرهان حجته في محاربة الدعم السريع على حِجاج ناصع فإن ما يطلبه من العالم ساعتها ليس توسطا أو تدخلا يجمع الجيش والتمرد على طاولة مفاوضات بل سيكون طلبه للعالم عليكم مساعدتنا لإنهاء التمرد في السودان ووقف حرب التصفية العرقية سواء التي حدثت بالفعل أو تلك المهدد بها كقول من قال بضرورة ( استئصال شأفة قبيلة بأكملها) في السودان لتطيب الحياة فيه. ما كان الفريق البرهان بحاجة إلى تخويف الآخرين من الدعم السريع لجعل الحرب عليه لازمة. يكفي قتله المدنيين من الرجال والنساء والأطفال سببا في مقاتلة الدعم السريع كما تفعل كل دولة. فالولايات المتحدة ( المستهدفة بمقالة البرهان) تضرب ظائراتها القوارب في الكاريبي فقط بمظنة أنها تحمل مخدرات لدمار شعبها. أي تنسف الخطر ( غير المتحقق يقينا) فما بالك بمخاطر ومجازر شردت الملايين ودمرت السودان. لقد فات على سعادة الفريق البرهان وهو ( يعرض قضيته للعالم) أن يخبره كم قتل الدعم السريع من الشعب ولو على سبيل التقدير ؟ وكم وقع من الانتهاكات الجسيمة ضد النساء والأطفال؟ وكم – مرة أخرى من باب التقدير- خسرت بلاده من جراء التدمير الذي طال كل شيء ؟ مائة مليار؟ مئتان؟ ثلاثمائة؟ كان يلزمه أن يذكر شيئا في هذا الشأن المهم لماذا؟ لأنه يرتبط بقضية التعويضات وإعادة إعمار ما دمره الذين شنوا الحرب بواسطة الدعم السريع على السودان. وكان على الفريق البرهان وقد اتهم دولة الإمارات من قبل بتأجيج الحرب في السودان وتزويد الدعم السريع بالأسلحة، كان عليه والحال كذلك أن يتشجع ويعلن أمام العالم تحميله الإمارات المسؤولية الكاملة هي والدعم السريع عن التعويض عن كل ما لحق بالسودان من أضرار. التعويض عن مئات آلاف القتلى والتعويض عن الضرر المادي. لا شيء من ذلك أشارت إليه مقالة الفريق البرهان وهو سكوت في مقام الكلام. ويبدو أن شاغلا آخر كان يلح على الفريق البرهان في (مقالته) القاصدة إلى مخاطبة العالم ( كما تصوره). فقد اختار سعادة الفريق البرهان أن ينفذ إلى (قلب ) هذا العالم (بطريقته) وهي طريقة اختبرها من قبل ( بليل) حتى إذا أطل الصباح ذات يوم على السودان تناكرها الجميع ورمى كل واحد في الحكومة جهله بها في وجه صاحبه. يقول ما علمت. تلك هي زيارة عنتيبي السرية. ويستدعي البرهان نتائجها لا تفاصيلها. أخذ الفريق البرهان يتوسل إلى الصهيونية المسيحية وإلى اسرائيل من ورائها بعكازين نخرهما السوس وهما: (كوش التوراتية) و(ايدولوجيا الإبراهيمية) أو اتفاقات ابراهام للتطبيع مع اسرائيل . وهذا موردان ليسا مما إذا ذُكر أحدهما أو كلاهما قال الشعب السوداني مع البرهان بلى بلى إننا لكذلك. نحن توراتيون نحن ابراهاميون. ونجعة البرهان التاريخية في طلب(التوراتية) السودانية نسبا له مع (أهل التوراة) نجعة جد بعيدة وجد مكلفة وجد هزلية. فإدخال (كوش) في ( التوراتية) تعسف تاريخي وتنحل (قربى روحية) أمسك بها الفريق البرهان من ناصيتها وجاء بها يجرها جرا من القرن الثامن قبل الميلاد ليوقفها بين إيدينا في يومنا هذا شاهدا على (الريدة القديمة). وما كانت كوش توراتية بل حضارة متجذرة في سودانيتها، في أفريقيتها في تربتها، أنشأت ما أنشأت من تصوراتها للوجود وللحياة وللموت. وإذ كان لها من صلة روحية فهي باللاهوت الفرعوني أقرب وألصق ولذلك إلحاق صفة ( التوراتية) بمملكة كوش (تلصق ديني) لا تسعفه الأسانيد. ولا يكتفي سعادة الفريق البرهان (بالتوراتية الكوشية) بل يربطها بلاهوت سياسي محدث اسمه (الإبراهامية) لحمته وسداه (التطبيع مع إسرائيل). وهنا يذكّر البرهان من نسي بما كان من شأن (عنتيبي) وما تلاها من التطبيع المجاني المقدم (عربونا) للاعتماد. إن حرب الكرامة أكرم من أن تخاض بها هذه المخاضة (التي تبدو مجتهدة للتعبير عن (مصالح وطنية) لكنها إذ تفعل ذلك تخلط تخليطا كثيرا بين ما يريده (قيصر) وبين ما يريده (الوطن). والمؤسف أن مطاياها العجفاء أعجز من أن تبلغ بالوطن ما يريد وأكثر عجزا من أن تبلغ قيصر ما تصبو إليه نفسه. وقد قالت العرب كثيرا في شأن المطايا وشأن راكبيها مما أثبتت الأيام صحته. وأياً ما كانت (مقالة) الفريق البرهان من حيث كونها تعبيرا عن (بنات أفكاره) أو ( بنات أفكار) مستشاريه وهذا حق له ولهم، فإنها طلبت أمرا ضلت الطريق إليه. العالم لا يعرف غير القوة، والقوة هي محصل التماسك الداخلي لا سيما في زمن الحروب. ولا يضجر المتنفذين في العالم شيء كالتحانيس والرجاءات والقرابات المنتحلة. بل إن القرابات الأصيلة لا تغني عن أصحابها شيئا في العلاقات الدولية متى أطلّ تهديد المصالح برأسه. فأمريكا وهي في جوهرها منتج أوروبي (تأمرك) ما تنفك توبخ الأوروبيين في شأن أمنهم وسلمهم بل وتمسك يدها أي إمساك. وغزة شاهد آخر في (خذلان ذوي القربى.) إن أقصر الطرق إلى متن التاريخ هو أن تحدق في وجهه وانت ماض إلى غايتك فإن لم تفعل أجلسك في هامشه، وإن الذي طلبت بالحديث (إلى الخارج) قد تركت وراءك (بالحديث ( إلى الداخل) فألزم حتى يُفتح لك.