حين كانت المعارك الخاطفة تدور على الحدود الشرقية بين القوات المنضوية تحت لواء (التجمع الوطني الديمقراطي) والجيش الحكومي ، في منتصف تسعينات القرن الماضي، كان مقاتلو المعارضة يتندرون على الجيش ويطلقون على جنوده لقب ( كابتن ماجد ) في إشارة إلى ذلك الصبي الرياضي السريع في أفلام الكرتون، ويقولون ( الجيش خزنة ثبات وخزنة شتات ) ، و مع أن المعارك كانت صغيرة، وسريعة وخاطفة إلا أن معظمها انتهى بهزيمة الجيش ، وتركه لمعسكراته في رساي، وربسم، وتوقان ، وقرورة ، وغيرها من المناطق الشرقية . كان ذلك قبل سنوات، والعالم لا يزال ضيقاً، لعدم وصول فتوحات التكنولجيا إلى مناطق قصية في العالم ، و لذلك ظلت حكايات الجماعات المعارضة مع الجيش تروى بين المقاتلين للتسلية، لتقتل عنهم ملل البقاء الطويل داخل المعسكرات المنتشرة على الحدود ما بين السودان واريتريا . ولكن ؛ خلال الآونة الأخيرة عادت ذات الأحاديث القديمة، إلا أنها عادت بطريقة أكثر اتساعاً مع انتشار وسائط الاتصال الجماهيري، والثورة التكنولوجية الكبيرة التي تمثل مواقع التواصل الإجتماعي أحد معالمها المهمة، وقد ساهمت هذه النقلة في توضيح كثير من الحقائق، وضخ نسبة كبيرة من المعلومات التي كانت بعيدة المنال قبل سنوات، و صار الجيش عرضة للنقد والسخرية حتى على صفحات بعض صحف النظام، وهذا يأتي في سياق صراعات مراكز القوى. ولعبت انتصارات ( الجبهة الثورية ) الباهرة في معاركها العسكرية مع النظام دوراً كبيراً في تراجع شعبية الجيش، بعد ظهوره بمظهر ضعيف الهمة القتالية والروح المعنوية، وكلما زادت الضربات الموجعة للجيش وكثرت هزائمه العسكرية علت الأصوات المنتقدة، لكن يلاحظ أن كل الانتقادات توجه إلى وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين دون غيره!، وتضعه كمسؤول اول عن حالة الجيش المزرية .ويعود ذلك إلى عدد من الأحداث الكبيرة مثل : - 1- عملية الذراع الطويلة في مايو 2008، والتي نفذتها حركة العدل والمساواة داخل مدينة أم درمان بعد أن تسللت القوات على متن سيارات اللاندكروز تشق الصحارى عدة أيام، و تقطع المسافات الطولية ، وهي أراضٍ منبسطة، وخالية من التضاريس الذهبية لحرب العصابات مثل الجبال أو الحصون الطبيعية التي كان يمكن أن تشكل سواتر للقوات المندفعة ،وتقي أفرادها من حمم قنابل القوات الجوية، ومتفجراتها . إلا أن تلك القوات عبرت كل تلك المسافات، وهي أكثر من ألف كيلومتر، دون أن تشتبك مع أي وحدة من وحدات الجيش، أو تتعرض لأي استهداف جوي أو بري، بل اقتحمت تلك القوات مدينة أم رمان نهاراً جهاراً. 2- صارت سماء السودان مفتوحةً أمام الطائرات والصواريخ الإسرائيلية التي استهدفت أهداف متحركة مثل قوافل من السيارات في عام 2009 قرب الحدود مع مصر، ثم استهداف سيارة برادو في ابريل 2010، في مدينة بورتسودان، ثم تفجير سيارة السوناتا في ابريل 2011، ثم ضرب مصنع اليرموك في قلب العاصمة الخرطوم . 3- هزيمة الجيش في منطقة هجليج من قبل الجيش الشعبي الجنوبي، مرتين في مارس وأبريل 2012 ، إلا أن انسحاب الجيش الجنوبي من هجليج بطريقة مفاجئة مع ضعف الأعلام والبيان الجنوبي منح الجيش انتصاراً على طبق من ذهب . 4- الهزائم المتتالية في أم روابة وأبو كرشول وعدد من المناطق في ولايتي شمال وجنوب كردفان ، وكذلك عدد من المناطق بولايات دارفور لا سيما شمالها وجنوبها . 5- التبريرات الغريبة والمضحكة التي ظل عبد الرحيم يبرر بها هزائم قواته مثل ( حادثة الطائرة الشهيرة ، والدنيا ظلام والأنوار طافية) وتكتيكات الدفاع بالنظر، وإعلان أنه يحارب بأسلحة من الحرب العالمية التانية ، أضعفت من صورة وزير الدفاع ، وصورته بالساذج . 6- الحديث عن فساد قيادات الجيش، وهو حديث سبق ؛ أحداث ما أطلق عليه ( المحاولة الإنقلابية أو التخريبة ) التي وجهت أصابع الإتهام فيها إلى عدد من قيادات الجيش وقوات الأمن ، مما جعل عبد الرحيم في وضع لا يحسد عليه. وهو أمر ساعد في علو الأصوات الهامسة ، والتي تنادي بإقالة عبد الرحيم من منصبه، وقد ساعد هذا الوضع النفسي والمعنوي كثيرين إلى تصديق ما يتواتر من شائعات في الأيام الماضية حول مرض عبد الرحيم، أو إقالته من منصبه، وتعيين بكري حسن صالح أو كمال عبد المعروف في منصب وزارة الدفاع. إلا أن الدعوة إلى عزل عبد الرحيم، أو المطالبة بحلول جزئية، وشخصنة الأمور يعد نظرة سطحية، تتجاهل النظر إلى الأزمة بكلياتها، تفادياً للوقوع في فخ ( الحلول الجزئية، الشخصنة). ومع أن عبد الرحيم هو المسؤول الأول فيما يتعلق بالجيش وأحواله، وروحه المعنوية إلا أن هناك امراً يتجاهله كثيرون، بل أن هناك من يتحاشاه عن سابق اصرار وعمد ، وهو أن الصورة البهية التي يختزنها نخب المركز ، عن الجيش ، هي صورة زائفة، ولا تعكس الوضع الحقيقي للجيش، وقد عززت الأغنيات والدعاية من تلك الصور الذهنية، لدرجة أن الجيش لا يزال (أغنيةً) ويمثل أسطورة، ويتمتع بقدسية كبيرة، تضعه فوق كل نقد، بل يظل ( منطقة محظوره وممنوع التصوير والإقتراب منها. وتظل الحقيقة؛ و التي لا يريد كثيرون الإعتراف بها، و هي أن الجيش السوداني صار واحداً من أسوأ مؤسسات الدولة ، فهو لم يخض حروباً وطنية للتحرر، لكنه تورط في نفس الوقت في أوحال حروب أهلية ، وارتكب خلالها جرائم كبيرة، إلا أن المفارقة ، و من أجل تزييف الوعي نسمع غناء " رجال الجيش يا سعاد حفظوا حدود البلاد، أو الحارس مالنا ودمنا .. جيشنا جيش الهنا". وهو جيش لم يحرس إلى الآن حدوداً للبلاد، لكنه ظل يتمتع بقدسية مثيرة للاهتمام، وربما كان الغرض من كل ذلك، هو الحفاظ عليه كبقرة مقدسة، بغرض إطلاق يدها في حروبات داخلية، دون أن تتعرض لانتقاد، أو أن تقوم بأدوار مشبوهة في عمليات انقلابات عسكرية، وتظل هذه المؤسسة مطية للانقلابيين والمغامرين طوال تاريخ السودان الحديث. . وتستخدم السلطة الفاشية العنف بطريقة اعتيادية، وتعودت على قتل الأبرياء بدمٍ بارد، بل لا تتوقف عند هذا الحد، وإنما تقوم بتحويل الضحايا إلى جناة، باعتبارهم " خارجين على القانون، وقطاع طرق، وعنصريون. وقد ازدادت الأمور تعقيداً بعد انقلاب ( الجبهة الإسلامية القومية ) التي نظمت مجزرة للخدمة المدنية والعسكرية، ليكون الجيش أحد أهدافها الأساسية ، ولا يزال الناس يتذكرون كشوفات الإحالة إلى الصالح العام، تلك التي كانت بداية الانهيار الحالي، وشملت مئات من الضباط بمختلف الرتب العسكرية، وتلازمت تلك المجازر مع مشروع " تجييش كل الشعب، وإعادة صوغ الإنسان السوداني" وفق أطر ومفاهيم المشروع الحضاري ، وشعاراته ، وتقاطعت السياسات مع واقع جديد، وقد أدت ظروف الإنقلاب العسكري الإسلامي إلى الآتي : - 1- بناء جيش عقائدي بعقيدة دينية تمثل مفهوم تيار إسلامي متطرف في الأفكار، ومتلهف للسلطة، وقد أدى ذلك إلى فصل آلاف من الضباط بمختلف الرتب، وإحلالهم بمواليين من ( الجبهة الإسلامية القومية، وليس غريباً أن يكون معظم طلاب الكلية الحربية في الفترة التي تلت الإنقلاب العسكري، هم من عناصر الإسلاميين، أو من أهل الثقة . 2- بناء جيش موازي ( الدفاع الشعبي ) وهي مليشيات تجد الدعم المباشر من الدولة الإسلامية، بل وتعتمد عليها اعتماداً كبيراً وقد فتحت المعسكرات لطلاب الثانويات والجامعات، ولموظفي الخدمة المدنية . 3- تأثر الجيش بالبيئة العامة، بعد ان انتشر الفساد، وعم كل البلاد، وبالطبع فإن الجيش ليس معزولاً عن تلك البيئة ، وتمثلت العدوى في صفقات الأسلحة والدبابات الفاسدة، والاهتمام بالعقارات والأبنية على حساب الكفاءة والمقدرة القتالية . 4- زهد الكثيرين في الإنضمام إلى الجيش كجنود، نسبةً لاهتمام الشباب بالهجرة، والعمل التجاري ، تفادياً للجيش بمرتبات جنوده الضعيفة، وفي ذات الوقت رفض السودانيين الإنضمام إلى الجيش للدفاع عن نظام عقائدي أو شمولي في وقت تتزايد فيه جبهات القتال وتتسع يوماً بعد يوم. 5- اتساع جبهات القتال أرهقت الجيش كثيراً، وقد بدأت الحروب المزمنة تلك، من أقصى الجنوب ثم النيل الأزرق وجنوب كردفان، وشرق السودان، ودارفور، لتتحول الحروبات إلى ولايات وسطية مثل شمال كردفان والنيل الأبيض ، فيما تظل الخرطوم مرشحةً هي الأخرى كجبهة قتال حاسمة . ونشير إلى أن تلك الحروبات هي (حرب عصابات) تعتمد على الضربة المباغتة، وتعتمد على ( الكمائن) و( الغارات ) المفاجئة، و تهدف إلى استهداف العدو، واحباطه معنوياً، والحصول على الإمدادات العسكرية والمؤن الغذائية . ويضيف رئيس هيئة أركان الجبهة الثورية السودانية عبد العزيز الحلو إلى تكيتك حرب العصابات، مزاوجة جديدة، وقد كشف الحلو عن استراتيجيته العسكرية الجديدة، في حوار سابق مع ( حريات ) قال فيه (اننا لن نكرر تجربة حرب العشرين عاماً السابقة، حين كنا نكتفي بحرب العصابات التقليدية : تحرير المناطق والدفاع عنها وإنتظار قواته للهجوم. سنقوم هذه المرة بالمزاوجة بين حرب العصابات (الأرض والدفاع عنها) وما بين الكتائب الممكننة المتحركة Mechanized Mobile Task Forces التي تذهب خلف خطوط جيش المؤتمر الوطني وتضرب في العمق وفي مسافات بعيدة لا يتوقعها هذا الجيش المنهك المتداعي. ولن نسمح لهذه الحرب أن تستمر لعشرين عاماً، ولدينا ترتيبات سياسية عسكرية وتاكتيكية تمكننا من تحقيق النصر في الشهور القادمة. إن هذه الصورة ولو في عمومياته ، وبعيداً عن كثير من التفاصيل، توضح خطورة الموقف، وصعوبة الأمور، وتكشف وقوف الجيش فوق رمال متحركة، و حقول ألغام بلا خرائط، مع قابليته للإنزلاق في وحل عظيم، يطول كلما طال فصل الصيف السوداني، وارتفعت درجات حرارته اللاهبة، وهو وضع لن يمنعه تبدل الأشخاص، ولو حملوا عصى سحرية، أو وصفات نادرة لعلاج الأزمة. إن الحل ليس في ذهاب عبد الرحيم أو بقاءه، لكنه في ذهاب كل النظام، لأن عبد الرحيم في نهاية المطاف هو جندي مطيع وصديق حميم للمشير عمر البشير، وهو لن يفرض نظريات تخصه وحده، بل ينفذ كل نظريات الإنقاذ؛ بما فيها ( الدفاع بالنظر)، كما أن عدداً من القيادات الإنقاذية سبقت عبد الرحيم وتولت منصب وزير الدفاع، وأشهر السابقين بكري حسن صالح، و عبد الرحمن سر الختم، وحسان عبد الرحمن، وابراهيم سليمان، وعمر البشير نفسه، وقد شهدت عهود كل وزير ضربات موجعة للجيش ، أشهرها ضربات في الجنوب بعد انتصارات صيف العبور، وفي الشرق، ودارفور، وهو ما يؤكد أن حل الأزمة لا يتم بتبديل أشخاص، أو حشد دبابات أو مدفعية طويلة المدى، أو سلاح جو فعال، بل فإن الحل يكمن في عملية سياسية رفيعة، إلا أنها لن تتحقق إلا بإعادة هيكلة الدولة السودانية كلها، وبالطبع يظل الجيش أحد مؤسسات الدولة التي تحتاج إلى إعادة هكيلة، وعقيدة قتالية مغايرة، وروح وطنية جديدة .