أمين محمَّد إبراهيم [email protected] قال الفاتح عز الدين رئيس ما يعرف بالمجلس الوطني لبرنامج "مؤتمر إذاعي" بإذاعة أم درمان: "بأن ما يثار الآن في وسائط الإعلام عن الفتاة السودانية المرتدة الهدف منه الإساءة لسمعة السودان و قضائه" وأضاف: " أن الموضوع ألان بين يدي القضاء، والحكم الذي صدر هو إبتدائي ويتدرج في مراحل القضاء المختلفة، إلي أن يصل للمحكمة الدستورية" و قال: " أن هناك الكثير من المعلومات المغلوطة وغير الصحيحة، أُثيرت و نُشرت في وسائط الإعلام المختلفة، منبهاً ألا يخوض الناس في حديث لا يملكون عنه معلومات حقيقية". ما يعرف بالمجلس الوطني، مفترض فيه أن يكون ممثلاً للشعب، ومعبراً عن إرادته، وباسطاً لسلطته الرقابية على الأداء السياسي والإداري والإقتصادي في دولة حزب الفاتح عز الدين التي تنضح إفساداً و فساداً. لكن المجلس المذكور و رئيسه يذهلان تماماً عن إفساد وفساد مسئولي الدولة و ينبريان بدلاً من ذلك للدفاع عن قادتها و مسئوليها بالباطل المطلق. و لا غرو في ذلك حيث أن تكوين المجلس المذكور قد مثَّل أعلى مرحلة من مراحل نفي إرادة الشعب بالتزوير المشهود "خجاً" فإنه لا يثير لدينا، أدنى درجة من درجات الإستغراب، ضيق رئيسه بحرية الرأي والتعبير، كحق دستوري أساسي و أصيل، مارست بموجبه وسائط الإعلام المختلفة، نشر رأيهم في واقعة محاكمة الطبيبة السودانية، و أنكرت و شجبت إدانتها والحكم عليها بالإعدام. ففيما العجب إذن إذا حلم الفاتح عز الدين كأولياء نعمته تماماً، بتنصِّيب نفسه هنا رقيباً على الفضاء الإعلامي المفتوح، متوهماً قدرته على إعماله لمقصه الكهربائي الباتر لألسنة كل من سوّضلت له نفسه إدانة وشجب الحكم على الطبيبة السودانية بالردة. وصف الفاتح عز الدين الطبيبة السودانية، "بالفتاة السودانية المرتدة"، هكذا بألف لام التعريف، كما يقول اللغويون. و سواء كانت الطبيبة مسيحية أصلاً، كما دفعت بذلك أمام قضاتها، أم كانت مسلمةً و إنتقلت من الإسلام إلي المسيحية، كما يدعي ممثلوا الإتهام ضدها، ومنهم الفاتح بالطبع. و إذا كان "الموضوع الآن بين يدي القضاء والحكم الذي صدر هو إبتدائي ويتدرج في مراحل القضاء المختلفة، إلي أن يصل للمحكمة الدستورية"، كما زعم في تصريحه الإذاعي، فمن أين يستمد الحق لوصفها "بالمرتدة"؟؟ أم أنه لا يعي أو يتجاهل و يغفل عمدا مؤدى كلامه عن أن الأمر بين يدي القضاء، ويعني ذلك في عرف القانونيين حظر تناوله إعلامياً. و إذا كانت وسائط الإعلام قد وجهت سهام نقدها للتشريع، لا للقضاء أو ما هو قيد النظر أمامه، فإن الفاتح قد استبق القضاء و توصل إلي ما لم يتوصل إليه بعد بحكم نهائي مستنفذ لدرجات الطعن فيه، كما أورد "بعظمة" لسانه، وهو وصفه الطبيبة بالفتاة المرتدة. فمن الذي يسئ إلي سمعة قضاء السودان (إن وجدت) غير الفاتح و حزبه؟؟! و إذا أراد الفاتح أو غيره المزيد، فنذكره بما قاله أخوه في المؤتمر الوطني وزير العدل دوسة بأن حصانات المسئولين تمنعه من تطبيق مبدأ سيادة حكم القانون. و تصرّيحه أخيراً على الملأ أن هناك جهات نافذة عليا قد مارست عليه ضغوطاً كثيرا لطمس معالم قضية فساد شركة الأقطان. و عند إحالة ملف الجرائم ضد مدنيي دارفور إلي لجنة ثابو أمبيكي، قررت اللجنة المذكورة بتشكيل محاكم هجين من قضاة أجانب و سودانيين، و قالت أن سبب ذلك هو أن القضاء السوداني لا يملك أمر نفسه بل تسيطر عليه السلطة السياسية. أبعد هذا يتحدث الكذبة الإسلامويون عن سمعة السودان و قضائه. في حادثة فتاة الفيديو الشهيرة، استبشع الناس و استهجنوا استقواء دولة المؤتمر الوطني، على الضعفاء كالنساء و غيرهن، واستخدامها عنف الدولة والقانون المغلّظ في مواجهتهم، في الوقت الذي تغض الطرف عن جرائم قادتها و مسئوليها، وهم يرتكبون جرائم خطيرة، و لا أحد يطبق القانون عليهم، بمثلما يفعلون مع الشرائح التي يتوهمون أنها ضعيفة في المجتمع. وبأثر إحتداد الإحتجاج في وسائط الإعلام، قررت السلطة القضائية في أعلى درجاتها حينها، إحالة قاضي محاكمة الفتاة المذكورة، إلي التحقيق الإداري العادي و الروتيني المتبع، فزجره رئيس الدولة من على منابر الإعلام وقال بالحرف "تحقيق في شنو في شرع الله" و طالبه بالاستغفار و العودة إلي الدين في اتهام ظاهر له بالكفر. الغريب ألا أحد يعرف حتى اليوم، ما فعلته الفتاة المسكينة، من فعل مخالف للشرع، ورغم ذلك سخَّرت الدولة إعلامها، لوصف مستبشعي ما لحقها من ظلم بأنهم يريدون إشاعة الفاحشة. أبعد هذا يتحدث الكذبة الإسلامويون عن سمعة السودان و قضائه. إن السمعة التي يتحدثون عنها غير قابلة للإشانة مطلقاً كما سنبين لاحقاً. حملة الإحتجاج الإعلامية، التي عناها الفاتح عز الدين، شاركت فيها أحزاب و كيانات و منظمات مجتمع مدني وطنية، كما أسهمت فيها جهات و كيانات أممية ومنظمات حقوقية دولية مختلفة. و كل ما أثارته وسائط الإعلام المحلية والدولية المذكورة، و لا تزال تثيره حتى اللحظة، لم يخرج عن الإحتجاج على تشريعات النظام الإسلاموي الحاكم في السودان التي تجيز الحكم بالردة و الزنا على طبيبة سودانية، تزوجت من رجل مسيحي و إنجبت منه أطفالاً، لكون ذلك مخالف لمبدأ حرية الإعتقاد والضمير المنصوص عليها في دستور السودان الإنتقالي لسنة 2005م – وهي وثيقة كتبها و أجازها المؤتمر الوطني الحاكم لوحده و لم يشاركه أيٍ من القوى السياسية في سودان اليوم – علاوةً على أن التشريعات المطبقة لمحاكمة و إدانة الطبيبة المذكورة، مخالفة لمبادئ حقوق الإنسان الواردة في المواثيق الدولية، التي أقرها واضعوا دستور السودان الإنتقالي، وأشهدوا الله والشعب على أنها تشكِّل جزءاً لا يتجزأ منه، و أقروا على أنفسهم طواعيةً أنهم ملزمون باتباع ما قررته من مبادئ وقواعد حافظة و ضامنة لحقوق الإنسان الأساسية، وفي مقدمتها حق الإعتقاد و حرية الضمير. دستور السودان الإنتقالي المذكور، ينص في وثيقة الحقوق، فيما تضمنته من حقوق دستورية أُسس، على حظر التمييز بين السودانيين رجالاً و نساءً، بسبب العرق أو اللون أو الدين أو الجنس أو اللغة … الخ ويلزم هذا النص الدستوري، دولة الأمويين الجدد القائمة حالياً، بعدم التمييز بين مواطن و آخر بسبب الدين. فّإذا كانت دولة "مقاولي الأعمال الدينية" هذه – كما في وصف المفكر الإسلامي الأستاذ خليل عبد الكريم، لأشباههم من تيارات الإسلام السياسي – ملزمة دستوراً بعدم التمييز بين الناس بسبب الدين، فكيف تحاكم مواطنة على إلتزامها بعدم التمييز بينهم بسبب الدين، خاصةً و أنها تفعل ذلك في أمرٍ يخصها هي وحدها دون غيرها، حتى إذا إفترضنا جدلاً صحة الإتهام ضدها بأنها كانت في الأصل مسلمة. فمن يستحق المحاكمة ليست هي الطبيبة السودانية، بل هم الكذبة الإسلامويين و هم من صنعوا إتفاقية نيفاشا و دستورها الإنتقالي و أجازوهما و وضعوا عليها توقيعاتهم. فهل يجروء الفاتح على المطالبة بمحاكمتهم؟؟ كلا لا يستطيع ذلك الفاتح و مجلسه ذلك، حتى و لو أجازوا في اتفاقيتهم و دستورهم، و لاية غير المسلم على المسلم، وخالفوا فيهما آيات الجزية. هل أساءت وسائط الإعلام لسمعة السودان وقضائه، كما إتهمها الفاتح عز الدين؟ للرد على هذا السؤال سأعمد مضطراً لمناقشة تعريف المخالفة المعروفة بإشانة السمعة و بعض الدفوع التي تعفي من توابعها القانونية، فعذراً على إقحام غير المتخصصين في وعورة مناقشات فنيات فقه القانون و مهنه. وفي التعريف تقول مواد القانون " يرتكب المخالفة المعروفة بإشانة السمعة – و هي التي كانت تُعْرَفْ بجريمة الكذب الضار و إشانة السمعة، في قانون العقوبات في السودان لسنة 1925 و1983م – كل من ينسب إلي شخص وقائع غير صحيحة، ويتسبب بذلك في إلحاق الضرر المادي والمعنوي به ويشمل ذلك الضرر الماس بسمعته و مكانته الاجتماعية أو السياسية أو المالية ….. الخ. فمتى ثبت ان المشكو ضده قد نسب وقائع غير صحيحة للغير و قام بنشرها بالقول أو الكتابة أو أية وسيلة من وسائل التعبير والنشر و الترويج لها، فإن القانون يحمله مسئولية الكذب الضار وبالتالي يكون مسئولاً عن إشانة سمعة الشاكي والإضرار به مادياً و معنوياً و يشمل ذلك المساس بسمعته. و كأي قاعدة في القانون فإن دعوى إشانة السمعة لها إستثناءات وهي الدفوع التي يحق للمتهم بالمخالفة أن يثيرها ويثبتها لدفع التهمة عنه والنجاة من العقوبة المترتبة على إثباتها. ومنها مثالاً دون حصر، التعقيب العادل و الموضوعي، و التعبير عن الرأي وغيرها، من الدفوع. أما الدفع الذي سنقف عنده، فهو يتعلق بحالة خاصة بسمعة الشاكي التي عُرِفَ بها بين الناس بمعزل عن الوقائع المنسوبة إليه وهي أن تكون سمعته غير قابلة من تلقاء ذاتها للإشانة بسبب أن سمعته أصلاً مكتفية بذاتها بحضيض لا حضيض بعده، بحيث يتعذّر على غيره مهما فعل أو قال إلحاق المزيد من الإشانة أو الإضرار بها. و هي حالة السودان وقضائه التابع للسلطة الساسية والمؤتمر بأمرها والمنفذ لمشيئتها، ولهذا فهو بالذات غير قابل بطبيعته لاشانة سمعته. و اسمحوا لي أن أورد هنا مضطراً أيضاً، نص تعريف فقهاء القانون العام للشاكي غير القابل لاشانة السمعة، لطرافته أولاً، و لفائدة قرائي من الزملاء القانونيين ثانياً، راجياً أن يشفع لي ثالثاً أن معناه لا يخرج عما ترجمناه بعاليه: )Claimant is incapable of further defamation, e.g. the claimant's position in the community is so poor that defamation could not do further damage to the plaintiff. Such claimant could be said to be "libel – proof"). فإذا كان الشاكي- كالسودان وقضائه – (لايبل برووف) فهذا يعنى أن إشانة السمعة لا تأثر فيه، تماماً كالساعة (الووتر برووف) التي لا تتأثر بغمرها في المياه حتى ولو كانت بمقدار مياه السد العالي وسد النهضة المقترح مجتمعة. وهكذا السودان والقضاء في عهد حكم الفاتح عز الدين و حزبه، فإنهما غير قابلان لإشانة السمعة.