لئن كان دور الجَّماهير تفجير التَّغيير، فدور المعارضة الاستعداد لليوم التالي بسياسات بديلة تملأ الفراغ المستحيل في السِّياسة تماماً كما في الطبيعة! هذه المرَّة باتت المعارضة أدنى لاتِّخاذ موقف موحَّد حول السِّياسات البديلة سواء تمَّ التَّغيير بالانتفاضة أو بالحوار/التَّفاوض إنْ توفَّرت شروطه رسمت الورشة خارطة طريق معقولة للسِّياسات البديلة خلال الفترة الانتقاليَّة وإشراك المجتمع في تطويرها بما في ذلك الذين في المغتربات والمهاجر (1) منذ أن ألقت أمريكا قنبلتيها الذَّريَّتين على هيروشيما وناجازاكي، في أغسطس 1945م، مع خواتيم الحرب الثَّانية، فأبادت مئات الآلاف من اليابانيِّين المدنيِّين، أضحى مضمون العنوان الأبرز لأيِّ بحث علمي، أو عمل إبداعي، حول أيِّ تفجير نووي، هو الرُّعب المزلزل مِن مجرَّد تصوُّر النَّتائج التي يمكن أن تقع في "عقابيله"، مثلما أضحت عبارة "اليوم التالي the day after" هي المعادل اللغوي الذي يختزل هذا المضمون. (2) وفي السُّودان، مع الفارق، ظلَّ "اليوم التَّالي" يمثِّل "كعب آخيل" المعارضة السِّياسيَّة، على مرِّ أزمنة التَّغيير، وأزماته الثَّوريَّة، في معنى "السِّياسات البديلة" التي يُفترض أن تحلَّ محلَّ السِّياسات القديمة، وبشكل أساسي خلال "الفترة الانتقاليَّة" التي تعقب عمليَّة التَّغيير مباشرة، والتي تتواثق أطراف المعارضة، عادة، على مداها الزَّمني، حيث تجري، خلالها، عمليَّات التَّغيير الابتدائيَّة لنظام الحكم من الشُّموليَّة إلى الدِّيموقراطيَّة، ومن الحرب إلى السَّلام، بصرف النَّظر عن وسيلة التَّمهيد لهذا التَّغيير، سواء بالحوار/التَّفاوض إنْ توفَّرت شروطه، أو بالانتفاضة الجَّماهيريَّة. لكن، أيَّاً كان الحال، فإن من أوجب واجبات المعارضة أن تتحسَّب لهذه "الفترة الانتقاليَّة"، وأن تعدَّ لها عدَّتها، مسبقاً، وعلى جميع الأصعدة الدُّستوريَّة، والقانونيَّة، والاقتصاديَّة، والخدميَّة، والاجتماعيَّة، وغيرها. بعبارة أخرى، لئن كانت "قنبلة التَّغيير" التي تتفجَّر بفعل الأزمات الثَّوريَّة هي، في غالبها، من صنع الجَّماهير، فإن ما يتبقى على قوى المعارضة السِّياسيَّة أن تنهض به هو رفد ذلك الصَّنيع الجَّماهيري ب "سياسات بديلة" تملأ "الفراغ" الذي يحدثه وقوع هذه "القنبلة"، حتماً، منذ صبيحة "اليوم التَّالي"، حيث أن "الفراغ" مستحيل في السِّياسة، تماماً كما في الطبيعة! (3) غير أن المعارضة ظلت تعجز، في كلَّ مرَّة، عن طرح "السِّياسات البديلة" المطلوبة قبل وقت كافٍ. وعلى العكس من ذلك كان أقصى ما بلغته على شفا تغيير النِّظامين الشُّموليَّين السَّابقين، الأوَّل ب "قنبلة أكتوبر" ضدَّ نظام عبُّود عام 1964م، والآخر ب "قنبلة أبريل" ضدَّ نظام النِّميري عام 1985م، هو توصُّلها في السَّاعة الخامسة والعشرين، وبشقِّ الأنفس، قبيل لحظات من إعلان الانتصار الجَّماهيري، إلى توافق شكلي على الحلف السِّياسي الذي يُفترض أن يقود عمليَّة التَّغيير، دون الاتفاق على "السِّياسات البديلة" المطلوبة. ففي أكتوبر 1964م تنازع قيادة الشَّارع تحالفان يمثِّل أحدهما اليسار "جبهة الهيئات"، والآخر اليمين "الجَّبهة الوطنيَّة"، ولم يُحسم ذلك النِّزاع إلا في اللحظة الأخيرة، عشيَّة الاجتماع مع الفريق عبود بالقيادة العامَّة في 29 أكتوبر لترتيب "الفترة الانتقاليَّة"، حيث اتفقت الجَّبهتان، لأوَّل مرَّة، على العمل تحت مسمَّى ثالث هو "الجَّبهة القوميَّة المتَّحدة". أما في انتفاضة 1985م فإن التَّجمُّعَيْن، الحزبي والنِّقابي، لم يتَّفقا على ميثاق واحد للعمل إلا قبيل ساعات معدودات، فقط، من إعلان الانتصار صبيحة 6 أبريل. وهكذا كان أخطر ما ترتَّب على ذينك الحدثين من آثار عجز تلك القوى عن بلوغ الغاية الاستراتيجيَّة من التَّغييرين في إرساء دعائم السَّلام والدِّيموقراطيَّة، مِمَّا تسبَّب، في المرَّتين، في الإطاحة بنظاميهما، وإضاعة المكاسب العزيزة التي كانت الجَّماهير قد بذلت المهج والأرواح في سبيلها! واستطراداً، فإن ذلك هو نفس الدَّرس الذي لم تستوعبه، للأسف، تجارب "الرَّبيع العربي" في المنطقة، حيث تمكَّنت من إسقاط الشُّموليَّات، فحسب، دون أن تتمكَّن أطرافها من التَّوافق، في ما بينها، على "سياسات بديلة" لمشروعات وطنيَّة ديموقراطيَّة تلتفُّ حولها الجَّماهير التي بادرت بتفجير "قنابل التَّغيير"، ما أدى لانتكاس ثوراتها في "اليوم التالي"! (4) مؤخَّراً، ومع تصاعد احتمال وقوع تغيير قريب بأيٍّ من الوسيلتين المار ذكرهما، تسارعت وتائر عمل المعارضة في تجاوز عوامل ضعفها الذَّاتي، وعبور الكثير من المطبَّات والعوائق التي تعترض طريقها، إلى أن بلغت، في السِّياق، وبدعم دولي وإقليمي قوي، تواثقين تاريخيَّين، هما "نداء السُّودان" في الثالث من ديسمبر 2014م، و"إعلان برلين" في السَّابع والعشرين من فبراير 2015م، واللذين مهَّد لهما "إعلان باريس"، قبل ذلك، في أغسطس 2014م، لولا أنه كان، على أهميَّته، قاصراً على ضلعين فقط من أضلاع تحالف المعارضة، هما "الجَّبهة الثَّوريَّة" و"حزب الأمَّة القومي". فأما "نداء السُّودان" الذي أُبرم بأديس أبابا، واعتبر بمثابة "الإعلان السِّياسي عن دولة المواطنة والدِّيمقراطيَّة"، فميزتاه الأساسيَّتان أنه، من جهة أولى، الأفضل في نوعه من حيث إحكام الصِّياغة، وشمول المحتوى، ووضوحه، كما وأنه ضمَّ، من جهة أخرى، وبشكل حاسم وفعَّال لأوَّل مرَّة خلال ربع قرن، قوى "المجتمع المدني"، ممثَّلة في ما أضحت تُعرف ب "مبادرة المجتمع المدني"، إلى قوى المعارضة الثلاثة الأخرى، وهي "الإجماع الوطني"، و"الجَّبهة الثَّوريَّة"، و"حزب الأمَّة القومي"، مواصلة لإرث الثَّورة السُّودانيَّة، وتقاليدها الرَّاسخة منذ مطالع الاستقلال السِّياسي، ثمَّ ثورة أكتوبر 1964م، وانتفاضة أبريل 1985م. وأمَّا "إعلان برلين" الذي أبرم بين نفس الأطراف، بدعوة من الخارجيَّة الألمانيَّة، وتسهيل من منظمتي بيرقوف وSWP، توحيداً لمخاطبة جذور الأزمة السُّودانيَّة، ودعماً لمجهودات المجتمع الدَّولي ممثَّلاً في الاتحاد الأفريقي ولجنته رفيعة المستوى بقيادة الرَّئيس الجَّنوبأفريقي السَّابق تابومبيكي، لأجل إجراء حوار قومي دستوري بين الحكومة والمعارضة يفضي إلى سلام شامل، وتحوُّل ديموقراطي كامل، فقد أكَّد على استعداد قوى "نداء السُّودان" للمشاركة في الحوار، وفق قرار الاتحاد الأفريقي رقم/456 لسنة 2014م، مع تشديدها على شرط استصحاب رؤيتها لتهيئة مناخ هذا الحوار قبل الدُّخول الفعلي فيه. (5) هذه المرَّة، وبخلاف المرَّتين السَّابقتين، باتت قوى "نداء السُّودان" أدنى لأن تُوفَّق إلى اتِّخاذ موقف موحَّد ومتماسك حول قضيَّة "البديل"، سواء تمَّ التَّغيير بالانتفاضة أو بالحوار/التَّفاوض إنْ توفَّرت شروطه. ثمَّ ما لبث هذا الموقف أن أصبح أكثر وضوحاً، وأكثر جدوى، عندما كوَّن تحالف "النِّداء"، ضمن هيكلته الدَّاخليَّة لنفسه، لجنة لصياغة ما سُمِّي ب "السِّياسات البديلة"، فدعت هذه اللجنة أكثر من 40 من الخبراء والنَّاشطين، من الجِّنسين، إلى ورشة عمل التأمت بدار حزب الأمَّة القومي بأم درمان، من 14 إلى 17 أكتوبر الجاري، حيث ناقشوا "سياسات" المشروع الوطني الدِّيموقراطي "البديلة"، والمفضيَّة، على المدى القريب، خلال "الفترة الانتقاليَّة"، ثمَّ على المديين المتوسِّط والبعيد في ما بعد ذلك، إلى ديموقراطيَّة راسخة، وسلم وطيد، وتنمية عادلة. رسمت الورشة خارطة طريق معقولة لتحقيق التَّوافق بين قوى "نداء السُّودان" حول المنهجيَّة، والإطار العام، والقضايا المحوريَّة لهذه "السِّياسات البديلة"، بما يصلح، أيضاً، للدَّفع به إلى طاولة الحوار العربيَّة كأنموذج يمكن أن يُحتذى؛ وإلى ذلك اقتراح آليَّات النقاش، وتنظيمه، أثناء دراسة هذه "السِّياسات"، ووضع تصوُّراتها؛ وتطوير استراتيجيَّة اتصال فعَّالة لإشراك كلِّ المجتمع في تطويرها، بما في ذلك مكوِّنات السُّودانيِّين، من الجِّنسين، في مغترباتهم ومهاجرهم؛ وتطوير خطة تفصيليَّة لإنتاج هذه "السِّياسات"، وتنفيذها، خلال "الفترة الانتقاليَّة"، والأخذ في الاعتبار بالتَّحدِّيات العمليَّة لذلك، خصوصاً الميزانيَّات، والموارد الماليَّة والبشريَّة، وسائر التَّحدِّيات الموضوعيَّة التي من شأنها مجابهة هذه المهام داخليَّاً وخارجيَّاً؛ والتوصُّل إلى توافق حول مبادئ وإطار العمل، بما يشمل القضايا والمحاور والمسائل التي ينبغي تناولها، كالاقتصاد، والقانون، والأمن والسَّلام، وغيرها، وكذلك المسائل ذات الصِّلة بمعوِّقات الانتقال، وما إليها، فضلاً عن فتح وابتدار نقاش واسع حول طبيعة الدَّولة في "الفترة الانتقاليَّة"، واجتراح الآليَّات المناسبة لذلك. وعلى أهميَّة وخطورة تلك القضايا جميعها، فإن "الإصلاح العدلي" شغل، بطبيعته، ومن باب أولى، مكانة متقدِّمة بينها، من حيث ترميم، إن لم يكن تثوير، نظام مناسب للعدالة خلال "فترة الانتقال"، خصوصاً "العدالة الانتقاليَّة"، بالوجهين الرَّئيسين لهذا النِّظام: الدُّستور والقوانين من جهة، والأجهزة المنوط بها تشريع، وحراسة، وتطبيق هذا الدُّستور وهذه القوانين من جهة أخرى، وذلك باتِّجاه تضميد الجِّراح، وتصفية تركة الماضي المثقلة، بغرض التَّمهيد للانتقال المنشود، وإزاحة كلِّ العقبات التي من شأنها أن تعرقل طريقه، وبالأخصِّ العوامل التي توسع من فرص "الإفلات من العقاب Impunity"، اتِّساقاً مع الاتِّجاهات الدَّوليَّة الحديثة. ***