الى اين تتجه الاحداث والتطورات الدولية بعد اسقاط تركيا طائرة حربية روسية صباح يوم 24 نوفمبر الماضي؟ لا يقدم ولا يؤخر في التداعيات المنتظرة، الجدل الذي نشأ وبدأ تبادله بين روسياوتركيا ومعها دول الناتو حول دخول الطائرة المقاتلة (سوخوي 24) المجال الجوي التركي لمدة 17 ثانية وتحذيرها عشر مرات الامر الذي زعم احد طيارييها انه لم يحدث، أو تفجيرها بصاروخ جو جو من مقاتلة (فانتوم 16) وهي في المجال الجوي السوري الذي تحوم فيه المقاتلات الروسية كيفما تريد فيما تعمل تركيا على حظر الطيران في جزئه المتاخم لحدودها. الأهم من كل ذلك هو قول الرئيس فلاديمير بوتين والحدث لا زال ساخنا، "ان روسيا تعرضت لطعنة في الظهر"، ثم تركه وزير خارجيته سيرغي لافروف لقيادة التصعيد وربما جس نبض احتمالات التهدئة لاحقا في لقاء ببلقراد متعدد الاطراف جمعه مع نظيره التركي مولود جاوش اوغلو. ومهم جدا ايضا تسجيل رفض الرئيس رجب طيب اردوغان الاعتذار، وعلى العكس السير في طريق تبادل التصعيد ورد الاتهام باتهام مشابه حول التجارة بالبترول الذي تستخرجه داعش. فالى اين ينتهي او بالأصح يقود التصعيد بعد اسقاط اول طائرة روسية من قبل دولة عضو في الناتو؟ الى حافة الهاوية؟ الى مواجهة؟ ام الى ضبط النفس بعد استكمال كل حلقات التصعيد التي اعلنها لافروف ثم الى لجم التوتر؟ لا غرو انه ليس هنالك مصلحة لمواجهة شاملة بين الطرفين، روسيا من جهة والناتو من الاخرى خلف تركيا، لانهما يملكان قدرة تدمير بعضهما البعض، احدهما يستطيع تدمير الاخر على الاقل مرة واحدة، وليس مهما بعد ذلك عدد المرات التي يفعلها الطرف الثاني. ومع ذلك من غير المقبول الركون الى تلك الخلاصة بظن ان الطرفين لن يصلا لمرحلة يفلت فيها امر التصعيد وحديث العداوة ليصبح عدوانا كامل الدسم، وبالتالي فقدان القدرة على تفادي لحظة قد لا تقاس بعدها الاشياء بذات الاشياء المعروفة والمطروقة والمجربة سابقا. دعونا ننظر لكل المشهد لا لمربعات منه.. ونقرأ الاستراتيجي والاقليمي، والنزاعات وليس نزاعا واحدا يسيطر على المشهد. ففي وقت يلتهب فيه التدخل الدولي في الازمة السورية المستفحلة وينصب فيه اهتمام العالم على مكافحة "داعش"، تعرب جمهوريات البلطيق وبولندا عن قلقها من توثيق التعاون بين القوات الروسية والفرنسية لمكافحة تنظيم الدولة الاسلامية الذي اعترف "بغزوة باريس"، وتحذر من احتمال تقليص الدعم الأوروبي لأوكرانيا وترجيح كفة الميزان لصالح روسيا. ومضت دول البلطيق الثلاث ابعد محذرة من مخططات توسعية للكرملين، وطالبت بقياس الأزمتين الأوكرانية والسورية بمكيال واحد. وتجيء تحذيراتها في وقت يسعى فيه الرئيس الفرنسي لإقامة تحالف دولي واسع يضم روسياوالولاياتالمتحدة لمكافحة داعش، وأعلنت الرئيسة الليتوانية أن بلادها لن تشارك في اى تحالف مع روسيا، ودعت بولندا من جانبها لضرورة الإبقاء على العقوبات المفروضة على روسيا، حتى لو انضمت إلى التحالف المعادي لداعش، وأخيرا وليس أخرا جاء على لسان السفير الأوكراني في فرنسا قوله أن الدول الغربية سترتكب خطأ استراتيجيا فادحا إذا تخلت عن دعم أوكرانيا لصالح حل الأزمة السورية. ان المشهد لا زال في عنفوان شبابه وامامه الكثير من الزمن والاحداث وقد لا يصاب بشيخوخة مبكرة لتبرز تجاعيده فتقرأ بمصطلحات الحرب الباردة، لتكون اول حالة شيخوخة محببة منتظر حدوثها بسرعة مزهلة لانها من مصلحة الجميع بما فيهم اللاعبين الاساسيين فيه. وعليه لتوضيح ابعاده وراهن ملامحه لابد من استعراض التطورات الجديدة في الأزمة الأوكرانية مقروءة مع حالة الطوارئ التي أعلنت في منطقة القرم اثر انقطاع التيار الكهربائي، في أعقاب تفجير الأعمدة الكهربائية على يد ناشطين قوميين ومنظمات تتارية، علما بانهما قررا منذ سبتمبر الماضي فرض حصار تجاري واقتصادي على المنطقة التي ضمتها روسيا إلى أراضيها. والجديد ايضا هو ظهور اسئلة هامة: هل منطقة شبه جزيرة القرم وشرق اوكرانيا لم تعد تثير اهتمام الولاياتالمتحدة او الاتحاد الأوروبي؟ وهل تبدو الدول الغربية وكأنها ستقبل بالأمر الواقع بعد الهجمات الإرهابية على باريس وانضمام روسيا إلى التحالف الدولي الغربي المعادي للإرهاب؟ وهل تخشى أوكرانيا وناشطوها القوميون في المنطقة من الوقوع ضحية لمساومة بين روسيا والغرب؟ وهل هنالك أساس لتلك الخشية؟ لا شك ان المشهد الحاضر والتطورات الساخنة فيه يجيبا على تلك الاسئلة اجابات تستند على البرغماتية وتحقيق المصالح على حساب القيم الحضارية التي لا تمل الدول الغربية في طرحها، والمبادئ التي تدعو ليتأسس عليها التغيير المنتظر في دول اوربا المجاورة لروسيا. وبعبارة اقرب لمصطلحات السوق، ستجرى عملية بيع بالجملة _آن قرو_ يتخللها ايضا تفكيك للبضاعة وبيع بالمفرق _آن ديتايل_، أي ما نطلق عليه قلع وقطاعي. الشاهد انه في اليومين السابقين بدأ كثير من المحللين الغربيين يكتبون عن الإرهاب القادم من العالم الإسلامي والامبريالية الروسية في مشهد تحليلي واحد، والإشارة إلى أن قضايا النزاعات المفتوحة في الشرق ألاوسط عادت إلى الواجهة لتشغل بال عواصم الدول وحكوماتها في وقت تظاهر فيه المعتدى الروسي بمظهر المخلص، فنسيت الدول الأوروبية اعتدائه المأساوي في أوكرانيا وقررت التعاون مع روسيا ولم تعد مهتمة بنزعاتها التوسعية. إن بقاء الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة في حالة انتظار تمشيا مع اشتداد الغارات الروسية على مواقع داعش في سوريا، حتما سيعيد تشكيل المعادلات الاقليمية والإستراتيجية بالتزامن مع اضمحلال دور، ان لم نقل عدم فعالية، الاستخبارات الغربية وفشلها في احباط العمليات الارهابية في باريس وفي غيرها من عواصم تتحسب باستمرار لحدوث مثلها من عمليات ارهابية وقد تفشل في اللحاق بها قبل التنفيذ. ومع امتحان قدرة الحلف الأطلسي على التدخل لقياس سرعة رد فعله، قد يقود كل ذلك الى ضرورة إعادة النظر في مجمل العلاقات الدولية وما تأسس على مسلمات سابقة أصبحت هنالك شكوكا تحيط بفرضياتها او على الاقل ببعضها. ذهبت روسيا مدافعة عن نظام بشار الاسد حماية للعلمانية وتركت ايضا ان يفهم من ذهابها لأرض معركة بعيدة منها انه موقف المدافع عن الحضارة المسيحية وهي في الواقع تستهدف فرض نفسها كشرطي دولي، والقيام بدوره المنتظر وستتفانى في أدائه لحين اشعار اخر. المشهد ستكتمل ابعاده ودرجة حرارة تداعياته عندما يصل الحديث عن محاربة داعش وينتقل من السر الى الجهر، الى ضرورة إرسال قوات برية إلى سوريا لهزيمته. أن التدخل البري بات أمرا لا مفر منه وهو قادم ويمضي التجهيز له على قدم وساق، ويتحرك من حالة كونه مطلبا وتقديرا ليصبح غدا خبرا، واذا حدث ذلك وسيحدث، فلا محال من ان يُسْمَح للرئيس بشار الأسد بالمشاركة في الحل على الاقل لأمد متوسط لان القوات الأوروبية ستحتاج إلى التعاون معه، ومن جانب اخر يبدو انه مهم جدا لروسيا بل قصدته، ان يؤدي العمل العسكري الدولي البري إلى فض الحصار الدبلوماسي المفروض على الرئيس بوتين وتحويله إلى شريك عسكري فاعل، وعندها لابد من تقديم تنازلات. اين ستكون تلك التنازلات؟ قطعا هنالك حيث بؤر النزاع الساخن في اراضي تجاور روسيا او تسعى موسكو لاستعادة نفوذها فيها وبالأخص في أوكرانيا وحيث بؤر النزاعات المجمدة في ابخازيا واوستيا الجنوبية بجورجيا وترانسينيستريا المولدوفية والتي عليها مجتمعة أن تصطف لأخذ وجبتها من التنازلات القادمة. أو هكذا تريد موسكو وتعمل ليتحقق لها. [email protected]