التجديد الديني.. إسلامياً ومسيحياً رفعت السعيد إذا كان التجديد يعني إعمال العقل ورفض الاعتماد وفقط على النقل حرفياً عن النص، فإن تجديد الفكر الديني إسلامياً ومسيحياً يكون الأساس لإيجاد أسس عقلانية ينبني عليها تفاهم وتفهم عقلاني من كلا الجانبين . ومن ثم تسامح مشترك . إذ يدرك كل من العقل الإسلامي والمسيحي معاً أن التسامح هو أساس التعايش وان الحياة المتجددة إذ تفرض نفسها عن الفهم العقلي سوف تقارب في المسافات بين المتدينين من كلا الاتجاهين . وفي الإسلام كما فى المسيحية أعمل المجددون عقولهم وإذ يأتي العقل يكون التفهم واحترام الآخر. وإذا بدأنا بالتجديد المسيحي نجد أنفسنا أمام مدرسة الإسكندرية اللاهوتية التي أنشئت في منصف القرن الثاني وكانت اجتهاداتها الفكرية إسهاماً كبيراً في توجيه المسيحيين الأول نحو العقل ونحو الفهم العقلاني للنص الديني . وقد تشابكت هذه المدرسة اللاهوتية مع مكتبة الإسكندرية القديمة وعلمائها في حوارات وتأثيرات متبادلة. فقد ترأس مدرسة اللاهوت هذه الفيلسوف الشهير أيثناغوراس ثم جاء جيل ثان من كبار رجال الدين المشتغلين بالفلسفة لعل أشهرهم اكليمندس السكندري الذي كرس فكرة استخدام التفسير المجازي لبعض نصوص الإنجيل ودعا للسعي الحثيث نحو استخدام العقل والعلم والمعرفة فى تحرير الفهم المسيحي من الجمود مؤكداً "أن كل معرفة هي بالضرورة مقدسة" ومن ثم حارب الخرافات والأساطير التي امتزجت بالعقائد المسيحية، ودعا إلى دراسة الفلسفة وتطويعها لفهم الدين وقال "أن من يخشى الفلسفة هو كالطفل الذي يخشى الأشباح" [الإنسكلوبيديا القبطية تحرير عزيز عطية بالانجليزية] ويتواصل الفهم العقلاني المتجدد على يد فيلسوف مسيحي آخر هو أوريجانوس الذي قال "أن فهم الكتاب المقدس يتوقف على الإنسان ويختلف من إنسان لإنسان" أنها نفس الفكرة المنطلقة نحو احترام العقل وحق الاختلاف والتي أكدها علي بن أبى طالب "القرآن لا ينطق وهو مكتوب وإنما ينطق به البشر وهو حمّال أوجه". ثم تمادى أوريجانوس فأكد أن وراء عبارات الإنجيل معنيين احدهما ظاهري حرفي والآخر رمزي أو مجازي. فأدى هذا التمادي إلى أن هاجمته الكنيسة وإتهمته بالمروق . فسافر إلى فلسطين حتى تولى البطريرك هيراقلاس [عام 224] فنفى عنه تهمة المروق ودعاه للعودة إلى مدرسته لكنه رفض . وهكذا كان الأمر في الفكر الإسلامي ينطلق سهم العقل ليجدد ويتجدد يصيب ويخطئ لأنه عقل إنساني ولكن بدونه يكون الجمود ومن ثم التشدد والتعصب والقعود عند الخرافات والأساطير . و يكون الخلط بين الدين المقدس في نظر أتباعه وبين الرأي في الدين . فيتسلط على المؤمنين رأي إنساني يزعم أنه الدين المقدس وأن الالتزام به حتمي وإلا فهو الكفر . ويكون العقل الإنساني الذي تتعدد اتجاهاته وتتباين سبيلاً لاحترام الآخر والتفهم لأفكاره ومعتقداته والتعايش معه على أساس هذا التفهم . ونبدأ فى مجال الفكر الإسلامي المجدد والعقلاني بقول الفارابي (المعلم الثاني) "يجب الثقة في قدرة العقل البشري لا على حل معضلات الحكم والسياسة والأخلاق فحسب بل وحل مشكلات فهم الدين ذاته" لكن الفلاسفة المسلمين لم يتوقفوا عند الاستعمال الظاهري والمجرد لكلمة العقل . وما يحتويه من فكر ووعي ولعل أول من أدرك هذه الحقيقة هو الإمام الغزالي [قبل ان يصبح أشعرياً] إذ اكتشف ان التفكير الخرافي والأسطوري يمثل جزءاً من الوعي العام وأن العقل يحتاج دوماً إلى أن يتحرر من هنا النوع من التفكير ليكون عقلاً فاعلاً . ولعل التفكير الخرافي قد أتى الفكر الإسلامى من إصرار بعض الفقهاء على الإفتاء فى كل شيء ، وعلى إدعاء العلم بكل شيء ، وكثير منهم لا يسمح لنفسه بأن يقول لا أدري. فى حين أن عمر بن الخطاب عندما سئل ما معنى الأب فى الآية الكريمة "وفاكهة وأبا" أجاب "لا أدري" وأضاف "نهينا عن التفيقه" [أي إدعاء الفهم في كل شيء ] وفي حين أن المبدأ الفقهي يقول "من أفتى بغير علم فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين" وقد أدرك الغزالي أن العقل مكلف بمواجهة التفكير الإسطوري والخرافي ومكلف بالإبداع المستمر وليس مجرد تقليد من يظن أنهم عقلاء سابقون ، وإنما عليه أن يستخدم العقل الخاص به لتحديد مدى معقولية أقوالهم أو مدى استمرارية صحة الفكرة مع تجدد الواقع زماناً ومكاناً . وفي كتابه " المنقذ من الضلال "يسعى الغزالي نحو الفهم اليقيني والمعرفة اليقينية التي تعني عنده" أن ينكشف المعلوم إنكشافاً لا يبقى معه ريب لا يأتيه الغلط أو الوهم "والوهم هو ما يتسرب عبر التخيل والخرافة وهو يقول "أن العقل يصلح معياراً لا يخطئ عندما تحاول التمييز بين الحق والباطل والخطأ والصواب بشرط ألا يتجرد من غشاوة الوهم والخيال وبهذا لا يتصور أن يخطئ أبداً". وهكذا ميز الغزالى بين العقل الفاعل الذي يتلقى المعرفة عن الآخرين ثم يعمل فيها فكرة ويفحصها ويجردها مما يعتقد أنه خطأ وبين العقل المنفعل الذى يبدو وكأنه يقف أمام مرآه يتلقى الفكرة أو الرأي كما هو . ويختزنه ويسلم به دون تغيير" . ولهذا يقول سيبويه أن "العقل" صفة وليس مجرد إسم أو فعل فتقول "عَقَل الأشياء عقلاً أي أدركها على حقيقتها" . وهكذا فإن العقل الفاعل هو أساس التجديد والفهم المتجدد الذي يقوم على أساس التغيير في الرؤية وفقاً للفهم العقلي فيكون ذلك أساساً لاحترام الرأي الجديد ومن ثم يكون أساساً لاحترام فهم الآخر وتفهمه حتى لو أختلف معه . العقل في المسيحية والعقل فى الإسلام هما أساس الفهم المتجدد والعقلاني الذي يرفض التعصب والتشدد ويفسح صدره أمام الجديد الآخر ومن ثم التعامل معه بأسلوب تعامل محترم وعقلاني . فتعالوا كي نعمل العقل . وتعالوا كي نتفهم بعضنا البعض ، وكي نتعايش معاً على أساس من الاحترام والمساواة . فهذا هو العقل العاقل وهو كما قال الغزالى "العقل الفاعل" . ويا أيها المصريون تعالوا جميعاً الى ساحة العقل وستجدون أنفسكم وبالضرورة متحدون بلا تفرقة وبلا تمييز. رفعت السعيد كاتب وسياسي مصري. (منقول).