دائمًا ما يرتبط مفهوم الدعاية بالخداع والتلاعب بالعقول، وربما الزيف والكذب، لكن الأمر يبدو مختلفًا بالنسبة ل«الدعاية المضادة»، التي تسلك سُبلًا أكثر نزاهة ومصداقية، لتقليص تأثير الدعاية الأصلية على الجمهور المُستهدف. وتُعرف الدعاية المضادة، على أنها الإجراءات التي تتُخذ لتصوير الدعاية الأصلية، على أنها كاذبة ومُزيفة؛ لحث الجمهور المستهدف للتفكير والتصرف بشكل مُعادٍ للدعاية الأصلية، بغية التقليص من تأثيرها. وتختلف الدعاية المضادة عن الدعاية الأصلية، في أن الدعاية المضادة دائمًا ما تكون دفاعية، وتأتي كرد فعل عن الدعاية الأصلية. وتستهدف الدعاية المضادة نفس الجمهور الذي تستهدفه الدعاية الأصلية. قبل بدء حملة دعاية مضادة فعالة، لتفنيد الدعاية الأصلية، لابد من اتخاذ عدد من الإجراءات، والإجابة على عدد من الأسئلة. يجب في البداية جمع وتحليل رسائل الدعاية الأصلية المُستهدف مواجهتها، ومراقبتها ومعرفة أهدافها وجمهورها المستهدف، والخدع المستخدمة فيها. كما يُنصح باستشارة خبراء في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية والنفسية لفهم التأثيرات السيكولوجية للرسائل الدعائية على الجمهور. وهناك عدد من الأسئلة التي تُحدد الأطر والأسس الذي تُبنى عليها حملة الدعاية المضادة، مثل: ما هو الجمهور المُستهدف؟ وما هي التأثيرات التي تسعى الدعاية الأصلية لتحقيقها في الجمهور؟ وما هي التأثيرات التي تحققت بالفعل؟ وكيف ولماذا تحققت؟ هل هناك أي أخطاء، أو تناقضات، أو خداع في الرسائل الدعائية يمكن استغلالها؟ ما هي الحجج المضادة التي يمكن نشرها؟ ولمن؟ وكيف؟ وغيرها من الأسئلة الهامة التأسيسية لحملة الدعاية المضادة. تعتمد الدعاية المضادة على عدة عناصر ومقومات أساسية، يُساعد توافرها على زيادة فاعلية وتأثير الدعاية المضادة، ومن أبرز تلك العناصر: رغم أن الدعاية العادية أو المضادة تحتوي على معلومات صحيحة أو كاذبة، فإن أنجح حملات الدعاية المضادة هي التي تعتمد على قول الحقيقة. فمن الضروري أن يُنظر إلى الدعاية المضادة على أنها نوع من المعارضة «الشريفة والنزيهة»، لأسباب أخلاقية وعملية. وتعتبر مصداقية المعلومات، أمرًا شديد الحساسية والخطورة، فإذا كانت رسالة الدعاية المضادة كاذبة، سواء بقصد أو دون قصد، فإن ذلك سيدفع الجمهور إلى اعتباره كذبًا متعمدًا، وإن كان غير مقصود. كما سينظر إلى الدعاية المضادة على أنها منحازة وغير موضوعية، كتلك التي تُعارضها في الأساس. وإذا انكشف كذب الرسالة، فإن ذلك سيكون له تأثير سلبي شديد على سمعة القائمين على حملة الدعاية المضادة، مما يُقلص من تأثيرهم على الجمهور المُستهدف في الحاضر والمُستقبل. يجب أن تكون الألفاظ المُستخدمة، والمعلومات التي تنشرها حملات الدعاية، واضحة ومفهومة عالميًا، لتحقيق المزيد من التواصل الفعال مع الجمهور المستهدف، ومواجهة الدعاية الأصلية. أما إذا كانت الرسائل الدعائية مُربكة وغير واضحة وقد يُساء فهمها، أو تحتاج إلى مزيد من الشرح والتوضيح، فإن ذلك يَحُد من فعالية الدعاية المضادة وتأثيرها على الجمهور المُستهدف. من الضروري معرفة الجمهور المستهدف، وتحديده بدقة؛ لإنشاء الرسائل الدعائية التي تمس الجمهور، ونشرها بطريقة تتسق مع ثقافته. لذلك يستلزم تحديد مشاعر الجمهور المستهدف الحالية، والصور النمطية التي تكونت في ذهنه، والآراء التي تؤثر في اتجاهاته، ومعتقداته، وسلوكياته، والطبيعة الثقافية، والعقدية للجمهور، تلك الطبيعة التي تختلف من جمهور لآخر، لذلك يجب تحديد الجمهور المُستهدف بدقة، لتصميم الرسائل التي تناسبه. تعتبر عمليات الدعاية، والدعاية المضادة، عمليات تفاعلية، ومن الضروري أن تكون رسالة الدعاية المضادة سريعة ومواكبة للأحداث، فكلما طالت المدة التي يتعرض لها الجمهور للدعاية الأصلية، كلما زادت من صعوبة استجابة الجمهور للدعاية المضادة ورفضه للدعاية الأصلية. ومن وجهة نظر سيكولوجية، فإن الجمهور الذي تعرض للدعاية الأصلية لفترات طويلة، وكوّن اتجاهاته وسلوكياته بناءً عليها، وترسخت فيه بشكل قوي، يكون من الصعب عليه استيعاب وتصديق معلومات جديدة تتعارض مع اتجاهاته التي كونها بالفعل. اقرأ أيضًا: كيف يواجه عقلك الأفكار المعارضة لاعتقاداتك المسبقة؟ يعتمد هذا الأسلوب على النقض والتفنيد المباشر للدعاية الأصلية، عندما يُمكن إثبات أن رسالة الخصم خاطئة تمامًا، ويميل ذلك الأسلوب إلى فكرة سرعة الاستجابة، بنشر الرسالة الدعائية المضادة بشكل سريع وواسع النطاق، قبل أن تُحدث الدعاية الأصلية أي تأثيرات سلبية على الجمهور المُستهدف، ولكن أحد التحفظات على استخدام ذلك الأسلوب تكمن، في أنه قد يؤدي إلى إضفاء قوة ومصداقية وشهرة للرسالة الأصلية نتيجة تكرارها. يعتمد هذا الأسلوب على إدخال مجموعة جديدة من الموضوعات المترابطة، التي تدحض الدعاية الأصلية بشكل غير مباشر، عن طريق التعريض أو التلميح. يتلافى هذه الأسلوب عيوب أسلوب التفنيد المُباشر، كونه لا يعزز أو ينشر الرسالة الأصلية. إحدى الأمثلة على استخدام هذا الأسلوب، هو التشكيك في نزاهة الراعين للدعاية الأصلية؛ لإضعاف مصداقية رسائلهم الدعائية بالنسبة للجمهور المُستهدف. يعتمد هذا الأسلوب على محاولة التغطية على رسالة الدعاية الأصلية، من خلال تقديم وطرح موضوع قد يكون أكثر أهمية للجمهور، ما يُحول اهتمام الجمهور المستهدف، من رسالة الدعاية الأصلية إلى رسالة الدعاية المضادة. «الاتهامات سخيفة بشكل لا يستدعي الرد عليها»، هذا هو التصريح الإعلامي الأنسب عند استخدام أسلوب الصمت. يعتمد هذا الأسلوب على أن رسالة الخصم، ليس لها ضرورة كافية تستدعي الرد عليها، من منطلق تجنب نشر الدعاية الأصلية بالأساس، على نطاق أوسع. ومن الضروري عند استخدام ذلك الأسلوب تحليل ودراسة تأثير الصمت على الجمهور المستهدف. «أفضل الدعاية هي تلك التي لا تُعرف نفسها على أنها دعاية»، هكذا يقول أوليفر كلارسون، في كتابه عن الدعاية، ولذلك فإن كشف مصدر الدعاية ونوعيتها للجمهور المُستهدف، تُقلل مصداقيتها بالنسبة له بإدراك أنها دعاية تضم معلومات متحيزة بهدف توجيههم. وتنقسم الدعاية إلى ثلاثة أنواع: الدعاية البيضاء، والتي تُفصح عن مصدرها بشكل صريح، والدعاية السوداء، والتي تعتمد على مصادر كاذبة ومزيفة، وأخيرًا الدعاية الرمادية، والتي تعتمد على مصدر مخفي أو محجوب أو مجهول. ويُعد النوع الأخير من أصعب أنواع الدعاية لصعوبة اكتشافه. وعندما تكشف الدعاية المضادة المصدر الحقيقي للدعاية الأصلية إلى الجمهور المستهدف، واستخدام الأدلة المُقنعة في توضيح ماهية الدعاية ومصدرها، يفقد الجمهور المستهدف ثقته في مضمون الدعاية الأصلية باعتباره موجهًا ومزيفًا. يعتمد هذا الأسلوب على محاول منع وتقييد الجمهور المستهدف، من الوصول في الأساس إلى الدعاية الأصلية، وهذا أسلوب لا يُنصح به؛ نظرًا لأن التقدم التكنولوجي، جعل من عزل الجمهور المستهدف من الوصول إلى معلومات مُعينة، أمرّا شبه مستحيل. يُضاف إلى ذلك أنه قد يُشجع الجمهور المُستهدف للوصول إلى المعلومات سرًا، ويُصبح تأثره بها بعيدًا عن المراقبة والدراسة والتفنيد. الأمر الأهم، أن ذلك قد يؤدي إلى ضرب سمعة رعاة الدعاية المضادة، ليبعدهم عن النزاهة، التي يجب أن يتسموا بها، مما قد يؤدي لنتائج عكسية. ودائمًا ما تستخدم الحكومات القمعية حول العالم الأسلوب الأخير، لمنع الأصوات المعارضة، واتباع سياسة تكميم الأفواه، بغلق القنوات والمنابر الإعلامية، وتقييد تدفق الأخبار والمعلومات عن الجمهور المُستهدف. وكان لذلك الأسلوب فعاليته قبل عقود طويلة، حيث وسائل الاتصال البدائية كالراديو على سبيل المثال، ولكن تأثيره تقلص مع تطور وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال. (نقلاً عن ساسة بوست).