هل رضيت؟    موقف موسى هلال يجب أن يسجل في دفاتر التاريخ    الخال والسيرة الهلالية!    الدعم السريع يغتال حمد النيل شقيق ابوعاقلة كيكل    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    وصول البرهان إلى شندي ووالي شمال كردفان يقدم تنويرا حول الانتصارات بالابيض    منى أبوزيد: هناك فرق.. من يجرؤ على الكلام..!    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    الإمارات العربية تتبرأ من دعم مليشيا الدعم السريع    نائب البرهان يصدر توجيها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    أمانة جدة تضبط موقعاً لإعادة تدوير البيض الفاسد بحي الفيصلية – صور    لافروف: العالم يشهد أزمة في مجال الحد من التسلح وعدم الانتشار النووي    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    ضبط فتاة تروج للأعمال المنافية للآداب عبر أحد التطبيقات الإلكترونية    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    بمشاركة أمريكا والسعودية وتركيا .. الإمارات تعلن انطلاق التمرين الجوي المشترك متعدد الجنسيات "علم الصحراء 9" لعام 2024    تراجع أم دورة زمن طبيعية؟    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    محمد وداعة يكتب: حميدتى .. فى مواجهة ( ماغنتيسكى )    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    إجتماع ناجح للأمانة العامة لاتحاد كرة القدم مع لجنة المدربين والإدارة الفنية    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    شاهد.. الفنانة مروة الدولية تطرح أغنيتها الجديدة في يوم عقد قرانها تغني فيها لزوجها سعادة الضابط وتتغزل فيه: (زول رسمي جنتل عديل يغطيه الله يا ناس منه العيون يبعدها)    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    الأهلي يوقف الهزائم المصرية في معقل مازيمبي    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. عمار على حسن : ضرورة التنوير وصناعة خطاب دينى جديد
نشر في حريات يوم 19 - 09 - 2016


ضرورة التنوير وصناعة خطاب دينى جديد
د. عمار على حسن
وقع المسلمون المعاصرون فى ثلاث مشكلات أو أوهام حيال التنوير، كاصطلاح ومسار بات ضروريا، بما أعاق ولادته، أو جعلها ولادة مبتسرة فى بعض الأحيان، ألا وهى:
أ مزاعم أن التنوير ابن بيئة اجتماعية وسياق تاريخى مغاير، وبالتالى هو بضاعة غيرنا ولا تلزمنا، لأن استيرادها واستهلاكها مضر بنا ضررا بالغا، ومن ثم فإن الضرورى تجاهلها، والأفضل هو التشكيك فيها ودحضها. وقد روج هؤلاء كثيرا لمقولة فاسدة جعلت كثيرين يحسبون أن التنوير نقيض للإيمان.
2 مزاعم أن خروجنا من مأزقنا ليس بالتنوير، الذى يعنى فى مقصده التقدم إلى الأمام فى التاريخ، إنما بالعودة إلى الماضى، من خلال استلهام تجربته، والتمسك بمقولات وتصرفات ما عاشوا فيه، باعتبارهم «الجيل الفريد» الذى تأسس الإسلام على أكتافه، وفهم معانيه ومراميه، وعمل على نصرته.
وكلما طرح أحد تصورات جديدة واجبة التطبيق فى واقعنا المعيش، بعد أن جربها غيرنا وأفلحت فى إخراجه من التخلف إلى التقدم، يزعم أصحاب هذا الاتجاه أن كل هذا لدينا، ولا حاجة لنا بما لدى الآخرين. ويعبر زكى نجيب محمود عن هذا أفضل تعبير حين يقول: «أنا على علم بمدى التحفز الذى يتحفز به كثيرون، دفاعا عن تراثنا الفكرى، ظنا منهم أن هذا الدفاع لا تتم لهم قواعده وأركانه إلا إذا نبشوا فى صحائف الأقدمين فأخرجوا لفظا من هنا، ولفظا من هناك، وجملة من هذا الكتاب وأخرى من ذلك، ليثبتوا أن قيم هذا العصر الجديد وأعنى القيم المحمودة الشريفة قد وردت كلها فى تراثنا»..
ويزعم أصحاب هذا الموقف الملتوى، والذى يسبب خسارة فادحة لنا، أنهم متمسكون بالثوابت، وأن ما هم عليه هو الصواب لأن صلاحيته مطلقة، وإن تبدلت الأحوال وتغيرت الأجيال.
وحتى هذه الإجابة على ما تحمله من عقلانية وتقدم لا تبدو شافية وكافية، إذ إن المتشددين والمتطرفين توسعوا فى تعيين الثوابت التى يتحدثون عنها، وأفرطوا فى إصباغ أمور كثيرة بأنها تدخل فى باب الاعتقاد، ولذا فإن المفرط فيها يخرج فى نظرهم من الملة.
لهذا لا بد من أن نبذل جهدا فى تحديد الثوابت تلك، وربطها فى أغلبها بالمسائل العقدية الموصولة بالإيمان كما تعارف المسلمون عليه (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر)، أما المسائل الخاصة بالشريعة فتحتاج إلى نقاش أعمق لمعرفة الثابت منها والمتغير، وهو أمر ضرورى للخروج من المتاهة التى نلف وندور فيها دون أن يلوح أمامنا أى مخرج حقيقى حتى الآن.
3 مزاعم حول وجوب أن يكون المتاح لنا من تغيير، إن دعت الضرورة الملحة إلى هذا، فى حدود مقدرة بأوزان تتسم بالثبات والرسوخ، إذ لا يمكن القفز على الموروث وما يحويه من معارف وقيم واتجاهات، وبالتالى يصبح الحيز المتاح للتغيير مشدودا بحبال غليظة إلى «النقل» وليس إلى «العقل» فى الغالب الأعم.
بالقطع يحوى «القرآن الكريم» آيات عديدة لا تجافى التنوير، بل تطلبه، وتفرضه، وتلح عليه، حين تنادى بضرورة إعمال العقل، والتدبر فى أحوال الناس وموجودات الطبيعة، والإيمان بأن التطور من سنن الحياة، وإعلاء حرية التفكير والتعبير والتدبير، وإنهاء أى واسطة بين العبد وربه، بما يعنى تحرير الإرادة الإنسانية فى العبادة والإفادة.
التنوير ضرورة الآن، ليس لنا فقط، إنما للبشرية جمعاء، بما فيها الغرب الذى نتحدث باستفاضة عن تنويره، ولذا يقول تودوروف، تحت عنوان «لماذا نحن دوما فى حاجة إلى فكر الأنوار»: «تبقى مبادئ الأنوار الكبرى راهنية أكثر من أى وقت مضى. فبمقدورنا على سبيل المثال أن نعود إليها للدفاع عن نظرية التطور، أو إدانة التعذيب الذى يمارس باسم دواعى المصلحة العليا للدولة، وبإمكاننا التسلح به لنشجب وندين الحروب الحالية التى تزعم نشر الحرية والديمقراطية، ولنحترم تعدد الثقافات والسياسات، واعتبار النجاح الاقتصادى وسيلة لا غاية».
إن التنوير هو المطلوب حقا، وليس ما يثار حاليا عن «تجديد الخطاب الدينى» إذ إن ذلك يشكل الحد الأدنى الذى لا أتصور أن بمُكنته أن يخرج المسلمين من المأزق الذى يعيشونه الآن، بعد أن حول بعض المتطرفين منهم الدين من مصدر للسعادة إلى سبب للشقاء.
فالاكتفاء بتجديد الخطاب الدينى لن ينتهى إلى شىء نشعر معه ونلمس فيه تقدما إلى الأمام، لأن الذى سيتصدى لعملية التجديد تلك، أو من يراد له أن يفعل هذا الآن، هى المؤسسات الدينية ذاتها التى تنتج الخطاب الحالى على ما فيه من عوار شديد. وتلك المؤسسات ستدافع عما تعرفه، وعما يحقق مصالح ومنافع القائمين عليها، ولذا إما أن تلتف على مطالب التجديد، أو تفرغها من مضمونها، أو تجرى عليها تعديلات طفيفة، لا يمكنها أن تلبى ما يطلب فى سبيل التقدم إلى الأمام، سواء بالنسبة للرؤية الدينية، أو بتفاعلات الدين من المجالات الأخرى.
ولا يكفى أيضا الحديث عن «تجديد الفقه» واعتبار هذا غاية ما نصبو إليه، وأنه سيؤدى بنا إلى وضع دينى مختلف، فالمطلوب الآن وهنا، وبلا تردد، هو التنوير الدينى بغية تحقيق أهداف كلها نبيلة، وتروم مصلحة الدين والمتدينين وسائر الناس. وهذه الأهداف هى:
1 إنقاذ صورة الإسلام، التى تضررت كثيرا جراء أقوال وتصرفات المتطرفين الذين يستعملون هذا الدين فى تبرير القتل والتدمير، منطلقين من أن الأصل فى العلاقة مع الآخرين سواء كانوا مسلمين غير منتظمين فى هذه الجماعات المتطرفة أو غير مسلمين، هو الصراع المفتوح، والمسموح فيه استخدام كل الخدع الممكنة.
وقد سكب هؤلاء فى مجرى الإسلام الكثير من الأشياء السيئة التى لوثت واقعه وصورته، ولم تفلح بعض مراجعاتهم أو توظيف المؤسسات الدينية التقليدية فى مواجهتهم فى تنقية الدين وتصفيته من هذه الشوائب المسمومة، حيث إن هذا الجهد لم يحدث «قطيعة معرفية وأخلاقية» مع التطرف، لأنه جهد متقطع وهامشى وسطحى ومتردد ومن يقومون به محملون ببعض أثقال مما يحمله المتطرفون أنفسهم.
وسيؤثر إطلاق التنوير لمواجهة التطرف ومحاصرة الإرهاب إيجابيا على جانب من صورة الإسلام والمسلمين، التى كانت متضررة أصلا بفعل الخطاب الاستشراقى الانطباعى والاستعمارى والمغرض، وليس ذلك الخطاب الذى استهدف البحث والدرس وتغيّا الحقيقة. وقد سادت هذه الصورة السلبية فى كثير من مناهج الدراسة فى الغرب وفيما أطلقه مؤلفو الموسوعات والكتب الأكاديمية والمدرسية فى الدول الغربية على القرآن الكريم والإسلام والنبى محمد صلى الله عليه وسلم والعرب والمسلمين من أوصاف ليست فقط بعيدة عن الموضوعية والأمانة العلمية بل أحيانا كثيرة بعيدة عن الشعور والذوق والتهذيب الإنسانى، والذى بلغ ذروته مع الصور الكاريكاتورية المسيئة للرسول الكريم، التى انطوت على تجريح كبير لمشاعر المسلمين، لأنها خاطبتهم بطريقة فجة واستعلائية واستهجانية ومقززة وعنصرية.
2 إنقاذ المسلمين، الذين يدفعون أثمانا باهظة ليس فقط بفعل خطاب المتطرفين وممارساتهم إنما أيضا مما جناه أصحاب الرؤية الجامدة والمتسلفة على العصرنة سواء كانوا ينتمون إلى مؤسسات تقليدية أو يتبعون دعاة ووعاظا. فالدخول إلى آفاق الزمن العصرى يتطلب الأخذ بأسباب التقدم، من التفكير العلمى، والانفتاح على الآخر، واستعمال العقل فى تدبير المعيش، والإيمان بتعدد الأفكار والثقافات داخل المجتمع، وعدم صبغ كل شىء بصبغة دينية، وجعل تصور دينى معين يتحكم فى كل ما يقول الإنسان أو يفعل مع إهمال العقل أو إغفاله، وتوسيع مساحة «الحرام» وتضييق مساحة «الحلال» ونسيان المساحة الأعرض والتى تتعلق ب«العفو».
لقد تأخر المسلمون كثيرا نتيجة أن شيخ الإسلام فى «الإمبراطورية العثمانية» أفتى بتحريم المطبعة، وسلك شيوخ كثر فى شتى البلدان مسلكه، وعلى المنوال ذاته طالما تم تحريم أدوات التحديث ومظاهره فى المجال الاجتماعى والسياسى والعلمى.
3 كف الأذى عن أتباع الديانات الأخرى فى بلاد المسلمين، فخطاب المتطرفين والمتزمتين والمتشددين والذين يعبدون الله على حرف طالما آذاهم، بتجريح عقائدهم وازدرائها، ورميها بما ليس فيها عن عدم معرفة، وبالسعى الدوؤب لحرمانهم من حقوق المواطنة كاملة، سواء باستدعاء إجراءات تاريخية لم يعد الآن مجال لتطبيقها، أو بالتمييز ضدهم فى الوظائف أو التعليم أو تلقى الخدمات… إلخ، أو بالاعتداء عليهم عبر استحلال واستهداف أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، دون أدنى حد من ورع أو تحسب.
4 رفع الضرر الذى يلحق بمجتمعات غير المسلمين من المتطرفين والإرهابيين الذين يقتلون ويخربون باسم الإسلام، بعد أن قسموا العالم إلى «فسطاطين»، حسب تعبير زعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن، وهى مقولة مسنودة تاريخيا على تقسيم العالم إلى «دار حرب» و«دار إسلام» لتبرير التوسع الإمبراطورى الأموى والعباسى والعثمانى باسم نشر الإسلام وحراسته. فالتنظيمات الإرهابية استهدفت العديد من الدول فى الشرق والغرب، وتمكنت من تنفيذ عمليات إرهابية ضد منشآت ومؤسسات وأرواح مواطنين ومصالحهم، وتلاحقهم بتهديد إما يتأسس على تكفيرهم، أو ينبنى على استدعاء إحن القرون الوسطى، أو عدم التفرقة بين دول تعتدى على العرب والمسلمين وأخرى لا تفعل ذلك، لكنها لا تنجو من العقاب الإرهابى لمجرد أنها دول غربية أو يدين أغلب سكانها بالمسيحية.
والسؤال الذى يطرح هنا: ما هى شروط التنوير الدينى؟.. الإجابة فى مقال الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى.
………………………..
(2)
لا يمكن أن نسير ولو خطوات قليلة نحو التنوير من دون أن نقر بخمسة أمور أساسية يمكن طرحها وشرحها على النحو التالى:
أ الإيمان مسألة فردية: وهذا يعنى عدم وجود أى وسيط بين العبد وربه، وألا يحق لأحد أن يحكم على إيمان أحد، أو يتحكم فيه، أو يتدخل من أجل تحديده إلا بتذكير ووعظ لا تتبعه وصاية ولا سيطرة ولا إجبار لإنسان على إعلان الإيمان. وهذا التصور فضلا عن أنه يتطابق مع مضمون «النص القرآنى» فإنه يتوافق مع العقل الطبيعى، وأى تصرف عكس هذا يفسد حقيقة الإيمان، ويحول الدين إلى مصدر للشقاء، وينشر النفاق، ويفتح بابا لقلة أن ترتزق أو تحوز مكانة أو تنحت لنفسها دورا حياتيا عبر استغلال الدين استغلالا بشعا.
لقد قال الله سبحانه وتعالى مخاطبا الرسول محمد عليه الصلاة والسلام عبر القرآن الكريم: «فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر» وبذا حدد مهمة النبوة فى الإبلاغ، وليس بفرض الإيمان، لكن ظهرت مع السنين جماعات أو أفراد تريد فرض الإيمان، أو تقوم بجمعنته وربطه بالإكراه، باسم «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» مع أن الأمر والنهى يقف عند حدود الإبلاغ أو التذكير والدعوة، وليس إجبار الناس على مسار معين، قد يختلقه بشر أو يخلطوه بما طلبه الوحى وذلك عبر التفسير والتأويل والروايات التاريخية والقواعد والطقوس التى يضعونها، ثم يطلبون من الناس أن يتبعوهم وإلا خرجوا من دائرة الإيمان، واستباح المتطرفون دماءهم وأموالهم وأعراضهم.
فى الوقت نفسه يجب «الانتقال من الإيمان الأعمى إلى الإيمان كرهان»، أى الإيمان القائم على الفهم والوعى والاختيار، وليس ذلك الذى يكتسبه الإنسان ممن سبقوه ويتعامل معه باعتباره أمرا مسلما به، دون تفكير أو تدبر.
ب العقل يكمل مسيرة الوحى: فالأطروحات الدينية التقليدية تتعامل مع العقل إما بوصفه خصما للوحى، أو ساعيا إلى الافتئات والجور عليه، أو تنظر إليه بوصفه قاصرا عن فهم الوحى، أو ليس عليه سوى أن يتبع ما أوحى به كالأعمى، مرة تحت لافتة «لا اجتهاد مع نص صريح»، خاصة إن كان هذا النص «قطعى الثبوت وقطعى الدلالة»، حسب التصنيف المعروف، ومرة تحت تصور أن الأولين كانوا أكثر فهما للدين من الآخرين.
وهنا يقول محمد أحمد خلف الله: «مصدر العلم والمعرفة بالنسبة للإنسان هو الله سبحانه وتعالى بما يوحيه للرسل ويطلب إليهم أن يبلغوه البشر، والعقل البشرى، الذى ينظر ويفكر ويتدبر فى الكون بمن فيه وما فيه.. وإذا كان حديثنا يدور حول الحقيقة العلمية بمعنى الحقيقة الدينية التى أساسها الوحى، فإن ذلك لا يعنى أن الحقيقة العلمية الأخرى التى أساسها العقل البشرى، تقع خارج نطاق هذا الحديث الذى يتناول بالدرس والبحث المفاهيم القرآنية».
يبقى الوحى فى نظر خلف الله هو مصدر أساسى لمعرفتنا عن الله والكون والخلق وكثير مما يقع حولنا فى الطبيعة، لكن هذا لا يمنع من أن تكون هذا المعرفة متاحة أمام العقل ليفكر فيها، وفى الوقت نفسه لا يوجد ما يمنع العقل من أن يفكر فى أشياء أخرى بعيدة عن هذا، تفرضها التطورات التى تشهدها الحياة الإنسانية.
لكن العفيف الأخضر يأخذ هذه المسألة خطوات أبعد حين يرهن «إصلاح الإسلام» حسب تعبيره ب «العقلانية»، ويقول: «الهدف من إصلاح الإسلام هو جعل الإسلام المعاصر يتبنى العقلانية الدينية الإسلامية، لأنه بها سيقف على قدم المساواة مع جميع الديانات الأخرى، التوحيدية والوثنية، التى تبنت العقلانية الدينية، قاطعة مع إيمان العجائز المطلق الساذج».
ويحدد الأخضر هذه «العقلانية الدينية» فى قبول مؤسسات وعلوم وقيم العالم المعاصر، والإيمان الجازم بحقوق الإنسان، والتخلص من الشلل النفسى الملازم للسير الأعمى وراء الأسلاف، واتباع طريقتهم فى التفكير والتدين، ورغم اختلاف ظروف زماننا عن زمانهم، وكثير من الأسئلة المطروحة علينا الآن عن تلك التى كانت مطروحة عليهم.
ج الوعى الأخلاقى، والذى تعانى الرؤى الدينية المطروحة من فقر شديد فيه، رغم أن الانشغال به، والسؤال عنه، قديم فى الثقافة العربية الإسلامية. فما جرى من غلبة الفقه على الفلسفة، والشريعة على الأخلاق والضمير الإنسانى المستقل، والتدين على الدين، لم تسعف فى انبثاق علم أخلاق إسلامى يتصف بالانضباط والاتساق الذاتى، وقابلية التعميم.
فغياب الجانب الأخلاقى، المرتبط إلى حد عميق وبعيد بالروحانيات ويقظة الضمير، حول العبادات إلى مجموعة من الطقوس الجوفاء، وجعل المعاملات تقوم على النفعية سواء بتحصيل مكاسب دنيوية عاجلة أو السعى إلى الفوز بمكاسب أخروية آجلة عبر جمع الحسنات فى عملية حسابية جافة، يظن صاحبها أن بوسعه أن يربح إن تعامل مع عدل الله وليس رحمته وفضله، تطبيقا لفقه وتفاسير تتحدث له فى هذا الاتجاه الذى يميل إلى ظاهر النصوص.
وبطبيعة الحال لا يكتمل جهد أو مشروع للنهضة والتنوير والإصلاح الدينى فى المنطقة العربية والعالم الإسلامى عموما من دون الاشتغال المضنى على فكرة إصلاح المثل والقيم الدينية، وتقديم جهود نظرية وفلسفية متماسكة علميا فى ما يخص طبيعة العلاقة بين الدين والأخلاق.
وبالتالى فإن من يرومون الإصلاح الدينى عليهم أن يسعوا إلى بناء أخلاقية منفتحة تقوم على قيم الحرية والعقلانية والمساواة بين الناس على اختلافهم فى أشياء كثيرة، وبلورة رؤية تثق أكثر بالإنسان، ولا ترضخ للتصورات والعطاءات الفقهية الجامدة والمغلقة، والتأويلات القانطة والمزعزعة حيال الإنسان، وتعترف بوجود أطروحات أخلاقية غير دينية، تنبع من الموروث الشعبى، حيث الحكم والأمثال والحكايات، ومن مختلف الفلسفات والتأملات والآداب والفنون… إلخ.
على وجه العموم، يوجد نظريا فى الحقل الدينى نمطان للتغيير على الأقل، الأول هو يقوم بها الأنبياء، بوصفهم شخصيات ملهمة، يعملون على تغيير الأخلاق العامة بما يقود إلى الإصلاح الاجتماعى، والثانى حركات اجتماعية تلتف حول أقطاب أو قادة روحيين يركزون على إطلاق ثورة روحية. وكلا الأمرين الأخلاق والروح هما ما ينقصان «التجربة الدينية» للمتزمتين والمتنطعين الذين يتعاملون مع القشور والمظاهر ويبحثون فى الدين عما يبرر لهم سلوكهم المعوج، بعيدا عن «استفتاء القلوب» أو «مراجعة الضمائر» أو فهم «مقاصد الأديان».
وحتى لا يكون هذا مجرد أمنيات أو ينبغيات لا بد من تحديد مسالك حيال تحقيق هذا التصور للإيمان، وإعمال العقل، والالتفات إلى الأخلاق، بحيث ينتقل من صفحات الكتب أو قاعات الأكاديميين وحلقات المثقفين الضيقة إلى رحاب المجتمع، عبر التعليم ومنهاجه، والتثقيف وأدواته، والإعلام وقنواته الاتصالية، ومؤسسات المجتمع المدنى ومشروعاتها.
إننى أحلم باليوم الذى يقف فيه الخطيب على المنبر ليقول لكل واحد فينا: إن ترك نور الغرفة مضاء وأنت خارجها، أو فتح الصنبور على آخره وأنت تتوضأ أو تقوم بأى عمل من أعمال النظافة، وإلقاء القمامة فى الشارع، وتعطيل سيارتك للمرور بأى طريقة.. إلخ، يرتب عليك أوزارا وآثاما لا تقل عند آثام تركك للعبادات.
إن العقوبات الأخروية التى يتحدث بها خطباء المساجد مأخوذة من كتب قديمة كانت تتحدث عن ظروف مجتمعات قديمة، ولمجتمعنا المعاصر ظروفه، التى تنتج سلوكيات، بعضها حسن وبعضها ردىء، وبعضها مستقيم وبعضها معوج، وعلى الدين أن يُقَوِّم المعوج ويكافح الردىء. وهنا من الضرورى أن يشتبك خطباء المساجد مع قضية الأخلاق العامة، ولا يحدثونا طيلة الوقت عن نواقض الوضوء أو يستدعون أحداثا تاريخية سمعناها منهم ألف مرة، وبعضها مشبع بالأساطير، أو يفرطون فى تأويلات لآيات أو أحاديث واضحة وضوح الشمس، ثم يقولون للناس: هذا هو الصواب، وهذه هى الحقيقة، وهذا ما قصده الله ورسوله. وعليهم أن يعرفوا مقاصد الدين وغاياته الكبرى.
إن البحث عن الجديد، والمشتبك مع الواقع، والجاذب، وامتلاك فنون الخطابة، وإلمام الخطيب بألوان من العلوم الإنسانية وليس فقط العلوم الدينية، كفيل بأن يعيد الناس ليجلسوا تحت المنابر سامعين بإنصات شديد لخطبة الجمعة قبل صلاتها.
فى حقيقة الأمر نريد «خطابا دينيا جديدا» وليس فقط «تجديد الخطاب الدينى»، الذى قد لا يعدو أن يكون مجرد طلاء جديد لبيت قديم تكاد جدرانه أن تنقض، وهو موضوع علا الصخب حوله ثم مات، كأشياء كثيرة فى حياتنا نتحمس لها ثم تفتر همتنا وننساها كأنها لم تكن.
( ونكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى).
………………………..
(3)
فى مقال الأسبوع الماضى شرحت ثلاثة شروط للإصلاح الدينى، وهى: الإيمان مسألة فردية، والعقل يكمل مسيرة الوحى، والوعى الأخلاقى، وهنا نكمل:
4 التمييز بين الدين والسلطة السياسية: فالربط بينهما حوّل الدين إلى أيديولوجيا أو إطار يبشر بالسلطة باعتبارها غاية، أو يبرر لها مسلكها بعد تحصيلها وحيازتها، أو يجند لها الأنصار والأتباع ليقوى شوكتها، ويسعى إلى تثبيت أركانها بتحريم الخروج عليها، أو يرد عنها معارضيها بتكفيرهم وتجهيلهم (من الجاهلية) ونعتهم بالبغى.
وخبرة التاريخ تبين لنا أن السعى إلى السلطة السياسية كان الخنجر المسموم الذى طعن كل الأديان، من دون استثناء، ولذا فإن مصلحة الدين تقتضى التمييز بينه وبينها قبل مصلحة الساسة، وكل من يطرح الدين باعتباره مشروعا للسلطة، أو يتذرع بأن الوصول إلى السلطة ضرورى لحراسة الدين ونشره، هو فى حقيقة الأمر يتلاعب بالدين، ويوظفه بلا ورع ولا تحسب فى سبيل منفعة دنيوية، طالما ارتبطت بالمخاتلة والزيف والخداع والمكر والمراوغة.
ولعل «الآداب السلطانية» تقدم برهانا عمليا ناصعا على الفساد والإفساد الذى أحدثه خلط الدين بالسلطة السياسية فى تاريخ المسلمين. والآداب السلطانية هى «تلك الكتابات السياسية التى تزامن ظهورها الجنينى مع ما يدعوه الجميع بانقلاب الخلافة إلى ملك، وكانت فى جزء كبير منها نقلا واقتباسا من التراث السياسى الفارسى، واستعانة به فى تدبير أمور الدولة الإسلامية الوليدة، وهى كتابات تقوم فى أساسها على مبدأ نصيحة أولى الأمر فى تسيير شؤون سلطتهم، إذ تتضمن كل موادها مجموعة هائلة من النصائح الأخلاقية والقواعد السلوكية الواجب على الحاكم اتباعها، بدءا مما يجب أن يكون عليه فى شخصه إلى طرق التعامل مع رعيته مرورا بكيفية اختيار خدامه واختبارهم، وسلوكه مع أعدائه. وفى عرضها لنصائحها الهادفة إلى تقوية السلطة ودوام الملك، تتبع هذه الآداب منهجية، أو لنقل تصورا عمليا براجماتيا يجعل منها فى النهاية فكرا سياسيا أداتيا لا يطمح إلى التنظير بقدر ما يعتمد على التجربة، ولا يتوق إلى الشمولية بقدر ما يلزم حدود الواقع السلطانى».
فى حقيقة الأمر فإن كثيرا من الفقهاء ومنتجى الخطاب الدينى انخرطوا فى صناعة آراء وأفكار تحت مسار «الآداب السلطانية» استهدفت فى أكثرها إطالة أمد بقاء الحاكم فى عرشه أكثر مما رمت إلى إقامة العدل فى الرعية. والأشد وطأة فى هذا المضمار أن تبرير هذا الهدف جاء من باب دينى، انفتح على استغلال علوم الإسلام ونصوصه فى تحقيق مصلحة السلطة السياسية، وهذه العملية أضرت ضررا بالغا بالمسلمين، ولايزالون يدفعون أثمانها حتى أيامنا تلك، وربما فى المستقبل، ولذا لا بد من إنهاء هذه العملية فى ركاب التنوير، فوحده القادر على وضع حد لها، بعد طول انتظار من قبل الحكماء والعارفين والساعين إلى تحسين شروط الحياة.
وإذا كانت الجماعات الدينية السياسية تحتج فى تبرير مشروعها السياسى بأن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام قد مارس السياسة، وتصرف كرئيس دولة، فإن مراجعة التجربة النبوية بعلم ووعى تفند هذا التصور، وهنا يقول عبدالإله بلقزيز: «نعم وقع تلازم بين الدينى والسياسى فى التجربة النبوية، ولكن ليس بالمعنى الذى فهمه حسن البنا ودافع عنه. لم تكن السياسة منفصلة عن الدين فى المشروع النبوى، لكنها، فى الوقت نفسه، لم تكن محكومة به أو مجرد فرع من فروعه».
ويذهب على عبدالرازق إلى ما هو أبعد من هذا حين يتساءل فى كتابه الذى لايزال يثير جدلا عميقا: «كم من ملك ليس نبيا ولا رسولا؟ وكم لله جل شأنه من رسل لم يكونوا ملوكا بل إن أكثر من عرفنا من الرسل إنما كانوا رسلا فحسب؟… محمد ما كان إلا رسولا لدعوة دينية خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة، وإنه لم يكن للنبى صلى الله عليه وسلم ملك ولا حكومة، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يقم بتأسيس مملكة، بالمعنى الذى يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها، ما كان إلا رسولا كإخوانه الخالين من الرسل. وما كان ملكا ولا مؤسس دولة، ولا داعيا إلى ملك… القرآن صريح فى أن محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن له من الحق على أمته غير حق الرسالة». ويقود ربط الإسلام بالسلطة السياسية إلى إنتاج «الدولة الدينية»، وهو مصطلح يثير مخاوف فى الفكر السياسى المعاصر، نظرا لأنه يعطى الدولة احتكار تفسير النص الدينى، مما يجعلها مالكة للسلطة الإلهية الكامنة فى هذا النص، وهى سلطة مطلقة بطبيعتها، ومحصنة بعقوبات تصل إلى حد الموت.. وبذا تكون الدولة قد جمعت فى قبضتها بين السلطتين: السلطة الطبيعية للدولة فى ذاتها، وسلطة التفويض الضمنى السماوية.
وحين نتعرض لطبيعة دور الرسول صلى الله عليه وسلم علينا أن نفرق بين «القيادة» و«الرئاسة»، فالأولى ذات طبيعة اجتماعية، وهى تتأسس على سمات وصفات لدى شخص تلقى قبولا عند الجماعة التى ينتمى إليها، فيخلعون عليه مهابة واحتراما وحبا، من دون أى تقيد رسمى حياله، ولا سلطة رسمية له عليهم. أما الثانية فذات منحى رسمى، يرتبط وجودها بوجود منصب، ولا يحظى من يشغله بالضرورة بحبا واحترام ومهابة. وليس له من طاعة على الناس إلا بمقتضى ما يوفره له المنصب من صلاحيات. وأعتقد أن وضع الرسول الكريم كان وضع «القائد» فى المسلمين، وليس وضع الرئيس، وأن تصرفاته السياسية كانت بنت القيادة وليست نابعة من الرئاسة.
من أجل كل هذا فلا تنوير حقيقيا من دون تحقيق هذا التمييز، الذى لا يعنى فصل الدين عن السياسة، فهذا طرح نظرى من الصعب تطبيقه، إذ إن السياسة والدين يهبطان ويصعدان معا ويلتقيان عند كل الثقافات والمجتمعات والحقب التاريخية فى مفاصل عديدة ومتفاوتة القوة، إنما يعنى التمييز التام بين الدين والسلطة السياسية، فلا يتحول الدين إلى أيديولوجيا (عقيدة سياسية) ولا يزعم أى حاكم أن سلطته مستمدة من الله، ولا يستغل الدين فى الدعاية السياسية، أو يكون مجالا للصراع بين المتبارين فى المجال السياسى، فينتقلون فى ممارسة السياسة من مساحة «الصواب» و«الخطأ» إلى مساحة «الإيمان» و«الكفر».
5 تحديث المجتمع، فقد ظن كثيرون أن ضآلة جهود العقلانيين واضطهاد التنويريين هما ما منعا وجود تنوير وإصلاح دينى حقيقى لدى العرب المحدثين والمعاصرين، لكن هذا يمثل جانبا من المعضلة وليس كلها، وهو جانب أخف وزنا وأقل وطأة إن قيس بجانب آخر يتمثل فى ضرورة تحقيق التحديث بشتى أبعاده.
هنا يقول محمود أمين العالم بعد مراجعة ما كتبه عدد من الفلاسفة والمفكرين العرب عن أسباب عدم استمرار تنوير ابن رشد فى حياتنا بينما استفاد منه الأوروبيون: «تخلف الشروط الموضوعية والاقتصادية والاجتماعية التى تتيح تجسيد التنوير فى مجتمعاتنا وازدهار العقلانية، وغياب التنوير، هو حصاد موضوعى لهشاشة التحديث.. فلا تنوير بغير تحديث.. ولهذا فليس ثمة مفارقة بين تنوير ابن رشد فى أوروبا وتعتيمه فى عالمنا العربى، وإنما هو اختلاف بين مجتمع كان ينمو ومجتمع آخر يتخلف، ولا يزال متخلفا، ولذا فلا سبيل لاستعادة ابن رشد واستلهامه وتمثله، بل تجاوزه، بغير مشروع تنموى تصنيعى زراعى إنتاجى هيكلى شامل، يغير ويطور البنيات الأساسية لمجتمعاتنا العربية».
لكن هناك من يدعو لعدم انتظار نضوح الشروط الاجتماعية فى سبيل تحقيق التنوير وإنتاج الديمقراطية، فها هو محمد جابر الأنصارى يقول: «إذا كان المناخ الاجتماعى العام هو الحائل دون العطاء الفكرى، فمتى كان التاريخ رحيما بأهل الفكر والثقافة؟ ألم تحرق أوروبا علماءها الأوائل الذين قالوا بكروية الأرض ونحو ذلك؟ ولكن الفكر الأوروبى، رغم هذا، مضى فى طريقه بالعطاء والتجديد، ولم ينتظر مجىء الديمقراطية، بل هو الذى أوجدها وخلقها فى نهاية المطاف، أوجدها بتقديم الأفكار الجديدة، والبرامج العملية، والصيغ المناسبة، وهذه حقيقة جديرة بالتأمل. إن الفكر الأوروبى هو الأب التاريخى للديمقراطية الأوروبية، وليس العكس، الديمقراطية وليدة الفكر الريادى المبدع، وليست سابقة له، فلماذا يصر المفكرون العرب على وضع العربة أمام الحصان، ويصرون بسذاجة قائلين: أعطونا ديمقراطية نعطكم فكرا، وإلا فلا، وهم يدركون حقيقة مجتمعاتهم».
فى الحقيقة ليس هناك تناقض بين الاتجاهين، فمن يربط بين التنوير بشتى أبعاده والتحديث يقف على جانب أصيل من الحقيقة، ومن يدعو إلى عدم انتظار المفكرين للإصلاح السياسى كى يقوموا بالإصلاح الفكرى، يقف أيضا على جانب أصيل من الحقيقة، لا يقل أهمية عن الأول. فالمفكرون يجب أن يناضلوا من أجل التنوير أيا كانت ظروف مجتمعاتهم، وإذا كانت هذه الظروف غير مهيأة فعليهم ألا يجلسوا صامتين متحسرين عاجزين حيالها، بل يقدموا الأفكار والتصورات التى تعمل على تهيئتها لتستوعب ما يطرحونه، يقدمونها للناس، فإن فهموها وآمنوا بها سيضغطون هم من أجل التغيير، أو يتصرفون فرادى فى اتجاهه فيحدث ولو تدريجيا، لأن السلطة ساعتها لن يكون أمامها من سبيل سوى الاستجابة لما يطلبه الناس وإلا فقدت شرعيتها، وتحولت إلى سلطة تغلب، لا محالة ساقطة، وإن طال أمد توجدها فى الحكم.
وأصاب أمير الشعراء أحمد شوقى حين قال:
«وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّى… وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا
وَما استَعصى عَلى قَومٍ مَنالٌ… إِذا الإِقدامُ كانَ لَهُمْ رِكابا».
وتحقيق هذه الشروط الخمسة للإصلاح الدينى يتطلب ابتداء إصلاح تعليم الإسلام وتعاليمه كخطوة لازمة نحو التنوير، كيف؟ هذا ما سيجيب عنه مقال الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى.
………………………
(4)
فى المقالات الثلاثة السابقة شرحت الحاجة الملحة إلى الإصلاح الدينى، ثم شروط تحققه فى الواقع المعيش، وانتهيت إلى ضرورة إصلاح تعليم الإسلام وتعاليمه.
وهناك علوم عدة لابد من إدخالها فى الدراسات الإسلامية، أو «علوم الإسلام»، على مستويين، الأول هو وجود هذه الحقول المعرفية ضمن المناهج التى تدرس فى المعاهد والمدارس والكليات الدينية، وثانيها رؤية المساقات التى تدرس حاليا من فقه وتفسير وعلم حديث وعلم كلام وعقائد… إلخ من خلال هذه الحقول، التى يقاوم الكثيرون من واضعى العلوم الدينية وشارحيها إدخالها ضمن المناهج التى يَدرسُونها ويُدرّسُونها.
ويمكن طرح هذه الحقول المعرفية على النحو التالى:
أ الأديان المقارنة: فدراسة المشتركات والمختلفات بين الأديان، فى العقائد والشرائع والتعاليم والقصص والمرويات، ذات أهمية كبرى فى فهم جوهر كل دين على حدة، ثم جوهر الأديان كلها. فالجهل بأديان الآخرين لاسيما إن كانوا يعيشون معنا يزكى الانفصال الشعورى فى المجتمع، ويزيد من احتمال الفتن، لأن القائمين على الوعظ والدعوة والإرشاد يعمقون من هذا الانفصال، ويزيدون من تلك الفتن، عبر خطاب نرجسى أو شوفينى يحمل الازدراء أو الاستهانة بدين الآخر.
كما أن الأديان المقارنة لا يجب أن تقتصر على الأديان الإبراهيمية الثلاثة (الإسلام والمسيحية واليهودية) بل الأديان الأخرى، وكذلك المعتقدات والمذاهب التى انبثقت عن الدين الأصلى، واقتنع بها جمهور من الناس، ورسخت فى التربة الاجتماعية ردحا من الزمن.
وهذا المبحث أهمل طويلا على أهميته، وهنا يقول ميرتشا إليادة وهو أشهر دارسى تاريخ الأديان: «لنعترف صراحة بالأمر. إن تاريخ الأديان، أو الأديان المقارنة، لا يقوم إلا بدور متواضع فى الثقافة الحديثة.. ليس لأن مؤرخى الأديان اليوم هم أقل شأنا من أسلافهم المشاهير، بل لأنهم، ببساطة، أكثر تواضعا منهم، بل أشد انعزالا وأكثر خفرا».
وإذا كان هذا فى الغرب الذى قطع شوطا بالغا فى تطبيق نظريات العلم وإجراءاته على الأديان، محاولا تفسيرها وتقريبها وإصلاحها فضلا عن سبر أغوارها أو الوصول إلى أصولها وجذورها، فما بالنا بالحال لدينا فى الشرق، حيث لا يزال هناك من يقاوم استخدام العلم فى التعامل مع الدين، وكذلك من لا يريد للمسلمين أن يقفوا على ما لدى غيرهم من معتقدات وأديان.
ب علم الاجتماع الدينى: وهذا سيبين بجلاء أثر التطور الاجتماعى على فهم الدين وتأويل نصه، سواء هذا التطور الذى يوجب الاجتهاد والتجديد، أو ذلك الذى يؤدى إلى اختلاق نصوص أو أقوال منسوبة إلى الأقدمين لاستعارتها واستعمالها فى تبرير مسلك أو الدفاع عن مصلحة أو منفعة.
وكانت دراسة الدين من الموضوعات التى نالت اهتمام علماء الاجتماع منذ وقت مبكر، لاسيما مع وجود رؤية اجتماعية فلسفية تنظر إلى الدين بوصفه المنبع الرئيسى لكل العمليات فى المجتمع الإنسانى، فماكس فيبر تعامل مع الدين كمفتاح للتمييز بين المجتمعات الغربية والشرقية، ودوركايم درس دور الدين فى تحقيق التماسك الاجتماعى. ومع دخول أوروبا عصر التصنيع بدأ التساؤل عن علاقة الدين بعمليات التحضر والتحديث. وبمرور الوقت ظهر علم اجتماع الدين الذى يتركز على الوظيفة العامة للدين فى المجتمعات البشرية، وكيف أنه يشكل جانبا من سلوك وأنشطة الجماعة، ويلعب دورا فى تعزيز واستمرار أو إعاقة هذه المجتمعات.
وعلم اجتماع الدين ينطلق من رفض وجهة النظر التى تقول بأن الدين تجربة إنسانية منتظمة ومستقلة بنفسها، وأنه نشاط لا يخضع للتأثيرات الاجتماعية، ويذهب لفحص ودرس هذه التأثيرات المتبادلة بين الدين والمجتمع.
ج التاريخ: ومنهجه غاية فى الإفادة بالنسبة لتمحيص علاقة الآراء الدينية والفقهية لاسيما السياسية منها، وهى مصدر المشكلة الرئيسية التى نواجهها، بالأحداث والوقائع التى جرت فى زمانها. كما أن أغلب ما يقف ضد التنوير وما ينطوى عليه من إصلاح دينى يرتبط بروايات تاريخية تتم استعارتها طوال الوقت لتشكل جزءا صلبا من عملية الحِجَاج والبرهنة التى يقوم بها الوعاظ والفقهاء ومنتجو الفتوى الدينية فى زماننا الراهن.
د اللسانيات: وبوسع هذا العلم أن يكشف لنا عن الألفاظ الواردة فى الروايات التاريخية التى أنتجها البشر فى الماضى وصنعت نصا وخطابا يستعان به فى صناعة الأطر والقيم والتعاليم التى تحكم حياتنا المعاصرة. فمثلا لو وجدنا لفظا فى قول منسوب لأحد صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم الذى عايشوه ورأوه وعرفنا أن هذا اللفظ أو تلك الكلمة لم تدخل التداول بين الناس سوى فى القرن الثانى أو الثالث الهجرى، لأدركنا أن هذا القول منتحل أو مكذوب. وبذا يمكن استخدام الألسنية فى غربلة جديدة وعصرية للأقوال القديمة التى أنتجها البشر وأخذت شكل النصوص، وغطت عند كثيرين على النص المؤسس وهو القرآن الكريم.
ه علم اللغة: فهو يمنحنا إمكانية تحليل النصوص والخطابات القديمة والراهنة من خلال التحليل المعجمى والنحوى والصرفى، وكذلك فى دراسات البنية الداخلية للنصوص، وعملية التناص، وتبيان مدلول المفردات وأجزائها وتراكيبها وأصواتها وبلاغة صورها، وفحص علاقة ما قيل ويقال بسياقه الاجتماعى. ومثل هذا يساعدنا على التمييز بين الأصيل والدخيل فى المنتج الدينى بشتى صنوفه، خاصة إن كانت يعتمد على البيان اللغوى كوسيلة أساسية لإيصال رسالته عبر خطف الألباب وجذب النفوس، من فرط سحر البلاغة، أو الاستعانة بالتراكيب القديمة التى تنطوى على جزالة وجرس قوى وإيقاع مشبع بالموسيقى أو الصور، لهز القلوب وقتا عابرا، دون أى عناية بمخاطبة العقول.
و الأنثربولوجيا: وهو العلم الذى يدرس البشر فى ماضيهم وحاضرهم، لكى يقرب إلينا أفكار وتدابير وطقوس الكيانات الإنسانية وما مرت به من ثقافات عبر التاريخ، وهو يستفيد من معارف عدة منها علم الاجتماع والبيولوجيا والتاريخ والفنون والفلسفة والفيزياء. ومن فروعه الأنثربولوجيا الدينية التى تدرس أثر العقائد على تكوين المجتمعات البشرية بطقوسها وتصرفاتها وأنماط علاقاتها وإدراك الناس لأنفسهم ودورهم وللطبيعة وعطائها.
ز علم الآثار: وهو الذى يدرس ما تركه الإنسان القديم من موجودات مادية لها صلة بمعتقداته وتدبير معيشته والتعبير عن أفراحه وأتراحه، وبالتالى يفتح بابا لمعرفة كيف تطورت الأديان من خلال هذه الموجودات، وهى مسألة مهمة لتبين للمتطرفين أن ما يدعونه من امتلاك الحقيقة المطلقة هو مزاعم من عند أنفسهم، وأن الأمم الغابرة لم تكن على الكفر والشر، وأن الدين قديم قدم الإنسان.
وعلماء الآثار من خلال قراءتهم للنقوش وعثورهم على قطع أثرية وحفريات بوسعهم أن يدلوا بدلوهم حيال العديد من الروايات الدينية التاريخية التى يرددها الناس باعتبارها حقائق لا تقبل النقد ولا النقض، ولا يصبح من المستساغ أن تظل هذه الروايات متداولة رغم أن الأثريين برهنوا على عدم صحتها، أو على الأقل هزوا ثباتها، أو على الأقل جعلوها موضع مساءلة أمام أفهام المعاصرين.
ح علم النفس: وهنا نجد اختلافا بين اتجاه يذهب إليه سيجموند فرويد ينظر إلى الدين باعتباره ظاهرة عصابية تترجم رغبة النكوص إلى الطفولة حيث الحاجة إلى الأبوة، وآخر يسلكه كارل يونج الذى ينظر إليه باعتباره غريزة ترمى إلى تحقيق الوحدة والاكتمال وتجاوزها يؤدى إلى العصاب، وثالث يؤكده إريك فروم الذى تعامل مع الدين باعتباره تجسيدا لحاجة الإنسان الجوهرية إلى مذهب أو إطار يوجهه، وإلى العبادة لما تحققه من إشباع حاجات روحية.
لكن الاستفادة من علم النفس تتعدى هذه الرؤى الكلية التى تريد أن تفسر الدين بإعادته إلى أسباب حياتية أو احتياجات نفسية واجتماعية بحتة، كى تمتد إلى تبصيرنا بأحوال الإنسان وخواطره والعناصر التى شكلت شخصيته، على اعتبار أن الإنسان ابن عوائده، وكذلك ابن الجينات التى ورثها عن أبيه وأمه وأجداده من الجانبين، وبالموروث والمكتسب صنعت تصوراته وتصرفاته. ومعرفة هذا تجعل بوسعنا أن نعذر الناس، ونصبر عليهم إن أردنا تغييرهم إلى الأفضل، ولا نوصد أمامهم الأبواب إن كانوا يقترفون إثما أو يفعلون سوءا، دون أن نسقط من حساباتنا أن كثيرا مما يعتبره المتطرفون إثما وسوءا ليس بهذا على كل حال.
(نقلاً عن المصرى اليوم).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.