فى أى رب جديد تنهض أجسادنا، ضقنا بالحديد و ضقنا بجلادنا، بإسم خراب سعيد ييأس ميلادنا. هكذا نناجى أنفسنا و نحن نستظل هذه القتامة الإنسانية منقطعة النظير بعد أن تفسخت كل مشروعاتها و إستبانت تشوهاتها و التى ما إنفكت تعلق بها منذ بدء مسيرتها الملتبسة و التى ظلت (جماعة الأسلام السياسي) تصر إصراراً غريباً على أن تؤسسها غصباً عنا و خلافاً لرغباتنا !! فهل سنكون (نحن أجيال هذه الحقبة) يوماً ما (سيرة لركبان التاريخ ) تتسمى بهذه النسخة الإلكترونية من القرن الحادى و العشرون. لماذا تأخر السودانيون فى التوحد حول الصياغة النهائية للمصير ؟ ما هو السر فى هذا الصبر الطويل على الأذى ؟ و هل نحن بشر نيئون حتى هذه البداهة ؟ أللطقس المدارى شديد الحرارة الذى ينضج المحصول علاقة بهذا الإستواء بالإجماع الذى تم فى نهايات العام المنصرم ؟ و هل تنطلى على الناس و بهذه السهولة و فى كل الأوقات أكاذيب (الحواة من السياسيين) الذين يكرسون السياسة كمهنة للإسترزاق و ينظرون للدولة كغنيمة فى حربهم المخادعة مع الشعب ؟ و هل نحن و لربما نكون الذين سيتكفلون بحل هذه العقدة الشائكة من هذا الإنسداد و الجشع و الخبل الإنساني. ثم و كيف تسنى للشباب المترعرع فى داخل شرنقة أكثر الحقب عتامة فى التاريخ السودانى الحديث، الإنبثاق هكذا !! و التصدى بهذه الجسارة و الإبتكار لإعادة صياغة ذاك الإجتراح القديم و تحديثه فى نسخة عصرية محدثة و مبهرة إستطاعت أن تخلخل الدعائم التحتية للبنية السلطوية المتوهمة فى مخيلة (الإسلام السياسى) ممثلاً فى (نظام الإنقاذ) و أن تكسر كل خطوط دفاعاته المبنية على المقارنات و الإفتراضات الساذجة، لتصبح تائهة هكذا .. وحدها تجوب الشوارع دون أن تسعفها ترسانتها الحربية و صراخها و هذيانها الإعلامي معطوب الحس. كل هذه الأسئلة تعتمل فى الذهن و نحن فى رحاب هذه الأيام النيرة و المفصلية فى التاريخ السياسى السوداني بعد كل ذاك العطب طويل الأمد الممتد طوال الثلاث عقود المنصرمة و الناتج عن المغالطات و التهريج واللغط فى الممارسة السياسية السودانية التى ظلت السمة السائدة منذ أن إعتلت سدة الحكم فى السودان جماعة الأخوان المسلمين و تحول المشهد السياسى إلى سوق نخاسة تباع و تشتري فيه الذمم و المواقف السياسية وفقاً لتصورهم البدائى و الطفولى للدولة المختطفة من مجموع الشعب لتصبح دولة (الجماعة) أو (العصبة) تستأثر بخيراتها كغنائم مستحقة لها مثلما عبر عن ذلك رئيس السلطة عندما قال (إننا جئنا الى السلطة بالقوة و من أراد أن يقتلعنا فليقتلعنا بالقوة) ! فهل هنالك فرق بين تنظيم الدولة الإسلامية فى سوريا أو العراق و بين تنظيم الجبهة الإسلامية فى السودان ؟ لا يبدو أبداً أن هنالك فرقاً ما بين كل هذا الأرخبيل من (الدول الإسلامية) المتمدد فى هذه المنطقة المنكوبة إلا فى المسميات، فالتصورات و الهموم و (الأشواق) و الأهداف كلها واحدة، لذلك فليس غريباً أن يهبون و يتبادلون غنائم بعضهم لبعض من مال و سلاح و أراضٍ و (سبايا من نساء). مهمة التغيير السياسى الجذرى و التى تقع على عاتق القوى السياسية السودانية الحية المتمثلة فى كافة ألوان الطيف السياسى و الفئوى و الإجتماعى هى مهمة (سهلة و صعبة فى آن واحد)، فهى سهلة كون التجربة السودانية ذات فرادة و تمتلك رصيد تراكمى زاخر من تجارب تغيير الأنظمة الإستبدادية يميزها عن كافة دول المنطقتين العربية و الأفريقية، و هى صعبة كون هذه القوى مطالبة هذه المرة بالحفاظ على صلابة هذا الإجماع الوطنى و صيانته من التهتكات و التى لطالما حدثت بفعل ظهور (قطاع الطرق)، فالسلاح الوحيد الذى تمتلكه السلطة الحاكمة اليوم هو سلاح (تخريب الوحدة) و سستخدم فى ذلك كل أدوات الدولة و مؤسساتها بنفس القدر الذى لن تتورع فيه من تلبية أى طموحات إستعمارية أو إستيطانية من خارج الحدود من أجل الحفاظ على مكتسبات تعتقد أنها مستحقة لها. الخطوتان اللتان خطتهما قوى التغيير السودانية الحية المبادرة فى 27 نوفمبر و 19 ديسمبر 2016 هما ثمرة لنضال طويل إستمر لما يقارب الثلاث عقود من الزمان و قد شكلتا إنتقالاً مفصلياً فى الصراع السياسى بالبلاد حيث إنقلبت دراماتيكياً موازين اللعبة السياسية بعد إبطال مفعول أجهزة القمع (السلاح الوحيد الذى تتوفر عليه السلطة الحاكمة) لتنتقل السلطة من موقع الهجوم الى موقع الدفاع و الذى يتطلب سلاح المنطق و الحكم بالوقائع، الأمر الذى تفتقر إليه سلطة الإنقاذ بصورة مزمنة، فلم ينصدم الإسلام السياسى بمثل هذه الصدمة طوال عمره فى التاريخ السياسى السودانى، فقد ظل و منذ ظهوره فى خمسينيات القرن الماضى يعتمد إستراتيجية المبادرة بالهجوم و العدوانية ضد (المجتمع و الدولة على السواء)، و هاهى كل شحنته المعبأة بهذا القدر غير المعقول من الشر و العدوانية يتم تنفيسها و إفراغها مثل بالون كان يتخذ شكلاً لنمر ! لذا فعملياً و من هذا المنطلق يمكن القول بأن حركتي 27 نوفمبر و 19 ديسمبر قد شكلتا هزيمة تاريخية ماحقة و غير مسبوقة فى عالمنا المعاصر بإعتبارهما محاكمة شعبية فريدة فى نوعها ! فالتاريخ قد أصدر حكمه الآن و لم يتبقى سوى إجراءات تنفيذ الحكم و التى ستقوم بها نفس هذه القوى الحية المتسعة فى صباح كل يوم جديد و ستستخدم فى ذلك نفس الآليات الشعبية لتعلن بعدها، فراغها من هذه المهمة التاريخية بالغة العناء و التكلفة و إزاحة هذا الكابوس و تتفرغ للنظر فى طريق المستقبل المعبد بهذا الدرس بالغ العظة و الإعتبار. فليس من عاقل بعد الآن سيقبل أن يلعب دور (الطبطبة على كتف الجماهير) و يهدر وقته و فكره فى البحث عن بديل، ذلك أنها (أى الجماهير) قد أدركت الآن أنه ليس أسوأ على شعب ما، أكثر من أن يفقد ثقته بنفسه و بقدراته فى بناء مستقبله. لن ينصاع (المجتمع الدولى) لرغباتنا بهذه السهولة، فهو الآخر إرادته مجروحة و كثيراً ما يبدو منجراً وراء تواطأآت ملتبسة سيكون من الصعب تفسير أخلاقيتها ، فالكلمات المراسيمية و الكليشيهات فى كثير من الأحيان لا تعدو كونها محض (ستائر) فالمشهد الكونى برمته مضمن فى فكرة تضيق و تتسع بمقدار وعينا بالمصير، و جرأتنا على إجتراح الإختراقات الكفيلة بإزاحة مثل هذه الستائر، فبعض الدوائر الأقليمية وورائها دوائر دولية لاترتاح كثيراً لأفكار التغيير الجذرى التى تنذر بها حراكات جريئة و مفصلية مثل التى جرت فى بلادنا نهايات العام 2016. ألا تلحظون معى أن ثمة تعتيم و مواراة و تجاهل متعمدة تجري بحزم و مثابرة شديدتين و بتآزر وطيد ما بين أطراف متعددة (داخلية و خارجية) على تجربتي العصيان المدني فى 27 نوفمبر و 19 ديسمبر من العام المنصرم ! و كأنما لم يحدث شيئاً ما جديراً بالبحث و الإستقصاء، أو أنهما كانا مجرد حدثين عاديين عرضيين عابرين تجاوزهما الزمن بهذه السهولة، رغم كل ما أحدثاه من رعب خطير للسلطة الحاكمة لم تشهد مثيلاً له طوال ثمانية و عشرون عاماً هى عمر تربعها على عرش السلطة بالبلاد. يجب التنبه جيداً لهذا الحلف المتآزر ضدنا و الذى يسعي الى محو تجربة العصيان من ذاكرتنا، و ذلك بإصرارنا نحن على تأكيد نجاعتها كوسيلة وحيدة لا بديل لها و كابوس مزعج يقلق راحة بال النظام. يمكن للمرء و رغم كل شيء القول بأنه سوف ينسدل الستار على (الملهاة) لا محالة، و لو بعد حين، ما دمتم تتوفرون على الرغبة و (الإرادة فى التغيير)، فهى الضامن الحاسم و الأكيد لإنجاز هذه المهمة و ستشيعون البطل و الممثلون و الكومبارس و الجوقة و شعراء البلاط و كتاب السيناريو و المخرجون و مصممى القياسات و الملابس و المكياج و مهندسى ديكور (مسرح العبث) الى مثواهم الأخير اللائق بهم فى (قسم خاص) بمتحف التاريخ، ستسمونه (End of The era of absurd).