شاهد بالفيديو.. البرهان يصل من تركيا ويتلقى التعازي في وفاة ابنه    ديمبلي ومبابي على رأس تشكيل باريس أمام دورتموند    عضو مجلس إدارة نادي المريخ السابق محمد الحافظ :هذا الوقت المناسب للتعاقد مع المدرب الأجنبي    لماذا دائماً نصعد الطائرة من الجهة اليسرى؟    ترامب يواجه عقوبة السجن المحتملة بسبب ارتكابه انتهاكات.. والقاضي يحذره    محمد الطيب كبور يكتب: لا للحرب كيف يعني ؟!    القوات المسلحة تنفي علاقة منسوبيها بفيديو التمثيل بجثمان أحد القتلى    مصر تدين العملية العسكرية في رفح وتعتبرها تهديدا خطيرا    إيلون ماسك: لا نبغي تعليم الذكاء الاصطناعي الكذب    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    دبابيس ودالشريف    نحن قبيل شن قلنا ماقلنا الطير بياكلنا!!؟؟    شاهد بالفيديو.. الفنانة نانسي عجاج تشعل حفل غنائي حاشد بالإمارات حضره جمهور غفير من السودانيين    شاهد بالفيديو.. سوداني يفاجئ زوجته في يوم عيد ميلادها بهدية "رومانسية" داخل محل سوداني بالقاهرة وساخرون: (تاني ما نسمع زول يقول أب جيقة ما رومانسي)    شاهد بالصور.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبهر متابعيها بإطلالة ساحرة و"اللوايشة" يتغزلون: (ملكة جمال الكوكب)    شاهد بالصورة والفيديو.. تفاعلت مع أغنيات أميرة الطرب.. حسناء سودانية تخطف الأضواء خلال حفل الفنانة نانسي عجاج بالإمارات والجمهور يتغزل: (انتي نازحة من السودان ولا جاية من الجنة)    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    الخارجية السودانية ترفض ما ورد في الوسائط الاجتماعية من إساءات بالغة للقيادة السعودية    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    الدعم السريع يقتل 4 مواطنين في حوادث متفرقة بالحصاحيصا    قرار من "فيفا" يُشعل نهائي الأهلي والترجي| مفاجأة تحدث لأول مرة.. تفاصيل    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    كاميرا على رأس حكم إنكليزي بالبريميرليغ    لحظة فارقة    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    كشفها مسؤول..حكومة السودان مستعدة لتوقيع الوثيقة    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودانوية: المفهوم والأساس العلمي 2 – 5
نشر في حريات يوم 10 - 06 - 2017

في الحلقة الأولى أشرنا بشكل عام إلى بروز مفاهيم العروبية والآفروعروبية والأفريقانية والإسلاموية والسودانوية كمحددات هوية identity constructs تعبّر عن خطاب آيديولوجي يفصح عن رؤى ومطالب ومصالح قوى إجتماعية وسياسية متصارعة. كما أن سؤال الهوية هذا أخذ وجهة الممارسة الإبداعية والسجال الفكري بمستوى أكثر عمقاً في ميدان الفن، خاصةً في ساحة الأدب. وأشرنا إلى العوامل الجغرافية والتاريخية والإثنية والآيديولوجية التي تولدت منها بدايةً شروط وتوجهات سؤال الهوية. في هذه الحلقة نتناول الجذور التاريخية لنشأة المركز والأساس الطبقي في بنيته.
نشأة المركز: الجذور التاريخية والبنية الطبقية
إحدى خصائص الجدل حول الهوية السودانية أنه يبدأ عند هوية سكان شمال السودان النيلي، بحيث يبدو أن تحديد هوية السودان مرهونة بنوع الإجابة على السؤال التالي: من هم هؤلاء السودانيين الشماليين المتحدثين بالعربية؟ وهو سؤال إستلزمه واقع البنيات الإجتماعية الإقتصادية في السودان وتاريخ الصراع بين مكوناتها والدور التاريخي المركزي لهؤلاء السكان. وكأن وجود السودان ككيان سياسي موحد أصبح مرهوناً بنوع الهوية التي تُنسب لهؤلاء السكان. في كلمة أخرى، لكل من القوى الإجتماعية السياسية المتصارعة تفسيرها لتاريخ هذا الجزء من السودان، تستند عليه في تصورها لحاضر ومستقبل الدولة السودانية وهويتها السياسية والثقافية. وتسارعت وتيرة الصراع بين هذه القوى منذ فجر الإستقلال وأدى ذلك إلى إستقطاب في مشهد هذا الصراع وجد تعبيره الأكاديمي والسياسي في مصطلحيْ المركز والهامشCentre and Periphery ، وقد أصبحا مفهومين محمولين بثلاث مضامين رئيسية: سياسية وإقتصادية وثقافية، تلخص أهم المداخل لمشكلة الهويه. وأي محاولة للنظر هذه المشكلة لا بد، في ما نرى، أن تبدأ من محاولة استجلاء هذين المفهومين من خلال هذه المضامين الثلاث.
بإستثناء المديريات الجنوبية الثلاث وهي بحر الغزال وأعالي النيل والإستوائية (حسب التقسيم القديم "للسودان القديم" القائم على المديريات التسع) يطلق شمال السودان على الجزء المتبقي من القطر. لفظ المركز كمضمون سياسي يعني مجمل سياسات وإستراتيجيات صناع القرار من النخبة التي إستحوذت على حكم البلاد منذ الإستقلال، سواءً كان الحكم مدنياً أو عسكرياً. أما المضمون الثقافي لهذا المفهوم فيعني الإستخدام الممنهج لجهاز الدولة من قبل هذه النخبة لتكريس عقيدة ثقافية مرتكزها تفوق متسامي للثقافة العربية الإسلامية على بقية الثقافات السودانية وأنها التيار الغالب في عمليات المثاقفة الجارية، وهي عقيدة تشكل العمود الفقري في إستراتيجية النخبة لإستدامة هيمنتها على الدولة ومقدراتها. في مضمونه الإقتصادي يشير المفهوم إلى المناطق التي تركز فيها مستوى متميز من التنمية إلى جانب البنيات الإقتصادية القاعدية التي شيد أغلبها المستعمر. وهنا تلزمنا وقفة عند هذا العامل الإقتصادي حتى نتبين بشكل أوضح معالم النشأة التاريخية والأصول الطبقية للمركز، ونرجع في ذلك إلى الدراسة الهامة لتيم نيبلوك Class and power in the Sudan.
هناك وجهان من عدم المساواة لازما البنية الإقتصادية في الحكم الثنائي يعتبرهما نيبلوك مدخلاً أساسياً لفهم القوى المحركة في المجتمع والسياسة السودانية ويكشفان الدور الحاسم الذي لعبته مؤسسة الطائفية والقيادات القبلية في السياسة السودانية. الوجه الأول من عدم المساواة هذا يتمثل في الفرق بين أولئك الذين كانوا في وضع يمكنهم من الإستفادة من الإقتصاد الإستعماري وإستثمار مكاسبهم منه في أعمال إنتاجية أخرى وبين المتبقي من السكان. هؤلاء المستفيدين هم القادة الدينيين مثل السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني والسيد الشريف الهندي. فإلى جانب ما يصلهم من استحقاقات وهبات من أتباعهم في الطائفة، يقول نيبلوك، "تقوم سلطات الحكم الثنائي بدور نشط في تمكين مثل هؤلاء القادة لتأسيس أنفسهم إقتصادياً، وذلك مكافأًةً لهم على ولائهم للنظام من ناحية، ومن ناحية أخرى يأملون، من خلال تمكين هؤلاء القادة ليصبحوا رجال أعمال بارزين، في كبح التهديد السياسي الذي يمكن أن تشكله حركات محكمة التنظيم وقادرة على تحريك قوى متشددة." (نيبلوك 1987) المستفيدون الآخرون كانوا زعماء القبائل الحاصلين على التأييد والإعانة الضرورية لإدارة مناطقهم، وأيضاً طبقة التجار التي نشأت و توسعت منذ دولة الفونج وأثناء الحكم التركي المصري والمهدوي وحتى فترة الحكم الثنائي عندما إنضم إليها مهاجرون جدد صاروا تجاراً كباراَ وأصحاب صناعات صغيرة. كذلك كان من ضمن المستفيدين كبار موظفي الخدمة المدنية والمهنيين (أطباء، محامين، مهندسين، إلخ) والذين تمكنوا بعد الإستقلال من مراكمة مدخرات إستثمروها في مجالات مثل الزراعة والعقارات والعقودات والتجارة. برهنت هذه النخب الإقتصادية على دورها الحاسم في الحركة الوطنية وفي سياسات السودان المستقل. مثال ذلك ما أورده نيبلوك وأشار إلى دلالته الإحصائية، وهو، بحسب قوله، "الحضور الطاغي لأفراد النخبة الإقتصادية في المؤسسات الإستشارية والتشريعية التي أقيمت في السنوات الأخيرة للحكم الثنائي. فقد أظهر فحص الخلفية الإجتماعية لأعضاء هذه المؤسسات على أنهم جميعاً، ما عدا أقلية ضئيلة، قد جاءوا من إحدى هذه أو تلك المجموعات الأربعة المذكورة أعلاه." الجانب الآخر من عدم المساواة هو التنمية غير المتوازنة أثناء الحكم الثنائي بين وسط السودان وأطرافه. يكتب نيبلوك: "تركز المجهود التنموي للحكم الثنائي في منطقة تشبه الحرف"T" في وضع مقلوب فوق خارطة السودان. تشمل هذه المنطقة جزءاً من وادي النيل شمال الخرطوم ووسط كردفان والجزء الجنوبي من مديرية كسلا." ما زال هذا الخلل التنموي قائماً كما هو وقد تعمق أكثر تحت الأنظمة المتعاقبة منذ الإستقلال.
في لحظة الإستقلال كانت الخارطة الطبقية للمجتمعات السودانية مرتبكة بسبب إختلاط نمطيْ الإنتاج الرأسمالي وما قبل الرأسمالي، ذلك أن تشكيلهما وتكوينهما، كما لاحظ نيبلوك، جعلاهما في وضع مرحلي على الرغم من إمكانية تحديد ظهور الطبقات ذات الصلة بأشكال الإنتاج الرأسمالي. كذلك قسم نيبلوك المجتمع السوداني إلى ثلاثة مجموعات طبقية عريضة. أولها بدايات طبقة برجوازية قوامها كبار التجار وحلفائهم من أصحاب الرواتب العليا في الدولة. يلي ذلك طبقة وسطى مكونة من صغار الموظفين وصغار التجار إلى جانب الفلاحين. وكان النشاط الإقتصادي لهؤلاء يمدهم بما هو أكثر من الحد الأدنى للمعيشة ويضعهم خارج دائرة الفقر. أما الطبقة الثالثة فتتكون من فقراء الريف والمدن ويشكلون غالبية السكان في السودان، وتضم عمال المدن والشرائح الوسيطة والفقيرة من الفلاحين والبدو وشغيلة الريف. وأخيراً يلخص بوضوح العاملين السياسي والإجتماعي وراء هذا الخلل التنموي وإستمراريته في سودان ما بعد الإستقلال كالآتي: "تميز التاريخ السياسي للفترة من 1956-1969 ]وحتى الآن[ بسمة رئيسية وهي تمركز النفوذ والتأثير السياسي في المجموعات الإجتماعية التي إستفادت من توزيع الثروة في عهد الحكم الثنائي. إذن، كما هو متوقع، لم يكن الذين صاغوا سياسة الحكومة ميالين إلى الشروع في إصلاحات أساسية في البنية الإجتماعية والإقتصادية للبلاد. كما أن النوعين من الخلل أو عدم المساواة والذين برزا في الحكم الثنائي وميزا في نفس الوقت بين المناطق، وكذلك بين القطاعات الإجتماعية داخلها، ما زالا قائمين بل صارا أكثر وضوحاً."
على نفس المنوال تقدم سوندرا هيل وصفاً إحصائياً للبنيات الإجتماعية والإقتصادية في المركزفتكتب:
"بنهاية الحكم الثنائي كان ثلاثة أرباع الإنفاق الحكومي مركزاً في مشروع الجزيرة لزراعة القطن، وإذا وضعنا في الإعتبار أن كل الخدمات الحكومية والتعليم العالي مركزين في الخرطوم والمدينتين التابعتين لها تكون النتيجة واضحة، وهي نشوء صفوة حضرية من جهة وأرستقراطية زراعية من جهة أخرى. رغم إشتمالها علىى 6% فقط من السكان ، تضم الخرطوم الكبرى 85% من كل الشركات التجارية؛ 80% من البنوك؛ 73% من كل المؤسسات الصناعية و70% من العمالة الصناعية. ما يسمى بإستراتيجية "القطب التنموي" Growth pole وهو تركيز الإستثمار في منطقة مفضلة بغرض خلق مراكز تنموية تم تطبيقه في السودان لصالح النخبة الحاكمة والتي تتكون في الغالب من قيادة طائفتيْ الأنصار والختمية، غالبية أرستقراطية الأرض في الجزيرة من الطائفة الأولى وتسود الثانية في المراكز الحضرية. إستمرار هذه السياسة دون إنقطاع منذ الإستقلال كانت مسئولة إلى حد كبير عن الشكوك المتزايدة من قبل القيادات في الجنوب والمناطق الأخرى حول هؤلاء المستعمرون الجدد."
يترتب على هذا التعريف للمركز أن كل الأجزاء الجغرافية الأخرى في القطر تنحدر إلى مرتبة الهامش، أي محرومة تنموياً ومقهورة سياسياً وثقافياً. كذلك إتسع مفهوم الهامش ليشمل كل الشرائح الإجتماعية التي طالها هذا الحرمان وهذا القهر سواءً في المدن أو الريف.
هذه الأبعاد السياسية والإقتصادية والثقافية في مفهوم المركز يمكن إستجلاؤها بدرجة أفضل في ضوء فهمنا لطبيعة النخبة المسيطرة، جذورها التاريخية وحقيقة آيديولوجيتها. وهذا يقودنا إلى تدقيق النظر في المضمون الطبقي لمفهوم المركز الذي أفرز ثنائية المركز والهامش. لأنه بدون إستخدام مقولة الطبقة كأداة تحليل هنا لا يمكننا إدراك حقيقة ما إكتنف هذه الثنائية من تعقيدات وتعتيم. كما أن تفكيك وفهم هذه التعقيدات، وأولها هذا الرباط الإثني المزعوم بين الأفراد والأسر والجماعات التى تتكون منها النخبة المسيطرة وبين مجموعات إثنية معينة في وادي النيل الأوسط، يفضي بدوره إلى تفسير واقعي وتصحيح لكثير من الخلط الذي ساد البحث في أسباب مجمل الأزمة. ونورد هنا مثالاً عينياً مشخصاً كان هذا الكاتب شاهداً عليه، نسوقه كمؤشر منهجي في مقاربة البعد الطبقي في مفهوم المركز. فقد كان الطبيب المرحوم بنايا سرور، وهو من أبناء بحرالغزال، يعمل في مستشفى مروي في أواخر ستينات وأوائل سبعينات القرن الماضي. ولما لاحظ العدد الكبير من حالات فقر الدم بين المرضى وإستقرار العادة في إستجلاب الدم من بنوك الدم في الخرطوم لإنقاذ من يفترض أنهم "مصدر ومصدّري" الدم، صاح بعربي جوبا وبشئ من الغضب والعجب: "الشايقية يبيعوا البرتكان والقرين فروت للخرتوم ونحن نجيب ليهم الدم من الخرتوم." هذه الجملة وإن صدرت من منطلق مهني لخص بها هذا الطبيب من واقع مهامه ومسؤولياته وضعاً صحياً سائداً، إلا أن في بساطتها وبلاغتها وسخريتها متسع للنظر في كثير من الأساطير التي ما زالت راسخة في أذهان الكثيرين ممن لم يألفوا الشمال النيلي وأحوال أهله. أول هذه الأساطير ما تحول بالفعل الى صورة نمطية لسكان هذا الجزء من السودان، أهم ملامحها وفرة في العيش وحيازة للسلطة السياسية بجانبها المباشر وغير المباشر. وأخطر ما ترتب على هذه الأساطير أنها تعدت في مضارها الذين لم تسعفهم تجاربهم أو معارفهم بهذا الجزء من الوطن إلى بعض قوى الهامش الذين إنخرطوا في العمل السياسي والعسكري المناهض للمركز. ويبدو أفضل مثال لذلك ما عرف بالكتاب الأسود، الذي تبنى منهجاً وصفياً وكمياً خالصاً أرجع فيه أفراد النخبة المسيطرة إلى جذورهم الإثنية لينتهي الأمر إلى مطابقة كاملة بين المركز والنخبة والمجموعات الإثنية التي ترجع لها جذور هذه النخبة في الشمال النيلي. عكست نتائج هذا المنهج غفلة فكرية وسياسية مؤذية حتى لقضية الهامش. ذلك أنه منهج ضرير لا يستطيع النظر، ناهيك عن التدقيق، في بنية المجتمع السوداني وإفرازاته السياسية والإجتماعية. وفي حالة سكان الشمال النيلي تبدو المسافة شاسعة بين مزارعي وترابلة الشمال بشماميرهم وعراريقهم وبين "أقربائهم في القبيلة" أصحاب الجلاليب المهفهفة ممن أصبحوا دهاقنة وزبانية النادي الحاكم؛ وتبدو كذلك المسافة بينه بين جروف أكلها الهدّام وحيشان خوت من أهلها وبين قصور تقدل فيها الخداديم من البنغال والفلبين شادها "أقرباؤهم في القبيلة".
من ناحية أخرى، يعترف المؤرخون بعدم وجود دراسات كافية حتى الآن لطبيعة وتطور النخبة السودانية المسيطرة. على أن بعضهم مثل بروفسور أفاهي يؤكد على الإستمرارية الواضحة لأنساب هذه النخبة السودانية الشمالية الحاكمة منذ القرن السابع عشر إلى الآن، خاصة الشريحة الدينية منها بحسب قوله، ويصف تاريخهم السياسي على النحو التالى:
"نفس الأسر أو العشائر التي إكتسبت مكانة في أواخر دولة الفونج مازالت مهيمنة على مركز السودان … وكلما حدث تحول سياسي وديني كلما جُندت أسر جديدة. لذلك مع حلول الطرق الصوفية الجديدة في بداية القرن التاسع عشر برز عدد من الأسر أو الفروع الجديدة … و منذ عام 1900 وحتى عام 1947 كان الحوار بين المستعمرين والمستعمرون في السودان وقفاً على البريطانيين والنخبة السودانية الشمالية. كان حواراً فعالاً بين مجموعتين صغيرتين يكنان التقدير لبعضهما البعض، وكانت حصيلته بالنسبة للسودان خلق جيل "حديث" من السودانيين الشماليين لكن بجذور ممتدة في الفونج والتركية والمهدية. جيل إستطاع أن يؤدي وظيفته بشكل كامل في الدولة الإستعمارية." (O'Fahey 1995)
هذا " الجيل الحديث ]أو النخبة الحديثه[ من السودانيين الشماليين" الذين تحدث عنهم أوفاهي والذي أرجع جذوره إلى حقبة الفونج هو ما عناه نيبلوك بإشارته للشرائح الإجتماعية التي إستفادت من السياسات الإقتصادية إبان الحكم الثنائي. كذلك هو نفس الجيل الذي إنبثقت منه هذه النخبة الشمالية التي ورثت حكم البلاد منذ الإستقلال. وهكذا يبدو جلياً إمتداد شجرة نسب النخبة المسيطرة في تناسل تاريخي ترجع جذوره إلى تطورات اقتصادية وإجتماعية في فترة الفونج – سنتناول تفاصيلها في بقية المقال – وهي تطورات أفرزت آيديولوجية معينة كشفت عن نفسها في وقت مبكر وتجلت في مجمل سياسات النخبة الحاكمة.
هذه النخبة المسيطرة لم تكن مؤهلة برؤية متكاملة سياسياً وثقافياً وعلمياً تعينها في التصدي لقضايا البلد الكبرى. ولعل أخطر ما في الأمر هو فقدانها للمنظور العلمي الصحيح لتاريخ وواقع المجتمعات السودانية والذي كان من الممكن أن يخلق لديها وعياً مبكراً بمشكلة الهوية على وجه الخصوص. كذلك كان من الطبيعي أن ترتكز على ما هي عليه باعتبارها طبقة إجتماعية ذات سلالة تاريخية محددة كما أشرنا، ولها أفقها الفكري المرهون بآيديولوجية محددة تملي عليها مجمل خياراتها وسياساتها كما ذكرنا. وهناك شواهد بينة على هذه الآيديولوجية وهذه السياسات نوردها في الأمثلة التالية:
في يوليو من العام 1939 تقدم مؤتمر الخريجيين، الذي يسيطر عليه أفراد هذه النخبة والذين حكموا السودان فيما بعد، بمذكرة إلى السلطات الإستعمارية يشرحون فيها تصورهم لإستراتيجية التعليم في السودان. وتتجلى خلاصة هذا التصور في ديباجة المذكرة وهذه ترجمتها:
"في العديد من جوانب حياتنا لدينا الكثير المشترك مع الدول العربية في المشرق الإسلامي بسبب صلة الدم. لذلك نعتقد بأن التعليم في هذا البلد يجب أن يتخذ طابعاً إسلامياً شرقياً وليس وثنياً أفريقياً، أو في كلمة أخرى، يجب أن تنال اللغة العربية والتوجيه الديني أقصى ما يمكن من عناية في كل مراحل التعليم." (Beshir 1969)
أما الشيخ علي عبد الرحمن، وزير الداخلية في أول حكومة بعد الإستقلال ورئيس حزب الشعب الديمقراطي ممثل طائفة الختمية فيما بعد، فقد أعلنها صريحةً في البرلمان بأن "السودان دولة عربية، ومن لا يشعر بأنه عربي فعليه مغادرة البلاد." (Akol 1987)
السيد الصادق المهدي كان أيضاً أكثر وضوحاً بصدد التوجه العربي الإسلامي للسودان ومصير الثقافات السودانية الأخرى. في ستينات القرن الماضي حدد موقفه بقوله: "فشل الإسلام في جنوب السودان سيكون فشلاً للرسالة العالمية للإسلام. للإسلام مهمة مقدسة في أفريقية والجنوب هو بداية تلك المهمة." (Khalid 1990) وفي خطابه أمام الجمعية التأسيسيه في عام 1966م عبر عن رؤيته لهوية البلاد قائلاً: "الوجه البارز لأمتنا هو وجه الإسلام، ولسانها الطاغي هو العربية، وهذه الأمة لا يتحدد كيانها ولا تصان هيبتها وكرامتها إلا تحت نهضة إسلامية." (Alier 1973) وفي الثمانينات أشار إلى عدة عوامل أساسية ستؤدي، بحسب رأيه، إلى التعريب والأسلمة الكاملتين لجنوب السودان وحدد هذه العوامل في الآتى: أولاً، إستيعاب القبائل كنتيجة للشراكة في الزراعة والرعي. ثانياً، تأثير المتصوفة المسلمين والقضاة والتجار المستقرين في الجنوب. ثالثاً، المشروعات الإقتصادية التي تنشأ في الشمال ويستفيد منها الجنوب. رابعاً، إستقرار مجموعات جنوبية كبيرة في الشمال. خامساً، إدراك الجنوبيين أن عدوهم المشترك كان الإمبريالية وحضارة الرجل الأبيض، وهو إدراك أقنع حتى الأمريكان السود بإعتناق الإسلام. (Warbury 1990)
إضافة إلى الإستراتيجيات السياسية والإقتصادية والعسكرية التي طبقتها النخبة الحاكمة، المدنية منها والعسكرية، لتحقيق تصورهم لهوية البلد وأهله، إستخدموا بشكل ممنهج وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية والمقررات التعليمية لنفس الغرض. ركزوا على التعليم على وجه الخصوص كوسيلة فعالة لتلقين آيديولوجيتهم للأجيال الصغيرة. مثال ذلك هذه المعلومات التاريخية الخاطئه التي إحتوتها مقدمة لا علاقة لها أصلاً بالمقرر ضمن الدرس الأول في مقرر قواعد اللغة العربية للصف الخامس في مرحلة الأساس:
"لما بعث النبي (ص) وإنتشر الإسلام في أنحاء المعمورة وكثرت الفتوحات الإسلامية دخل العرب مصر وحكموها وأدخلوا فيها الإسلام ثم إنتقلوا بطريق مصر إلى السودان وبعضهم جاء من طريق الحجاز وتغلبوا على مملكة النوبة وأزالوا ملكها وأسسوا مملكة سنار المشهورة التي عرفت بالسلطنة الزرقاء أو مملكة الفونج."(منهج النحو للصف الخامس الإبتدائي. دار النشر التربوي 1972)
إذا استثنينا العوامل الإجتماعية والنفسية والدينية التى تدفع البعض، سواءً من عامة الناس أو من فئة المتعلمين، إلى التأثر بهذه الآيديولوجية العربوإسلامية، فهناك كثير من الإلتباس يكتنف مكانة الثقافة العربية الإسلامية ضمن التطور التاريخي للثقافة السودانية، وذلك، من ناحية، بسبب حجب الحقائق العلمية حول هذا التطور عن أجيال متلاحقة من المتعلمين كما يبدو ذلك فى المنهج التعليمي، وبسبب أثر المدرسة التاريخية التقليدية وتفسيرها الخاطئ للمسار التطوري للثقافة السودانية من ناحية أخرى. هذا السبب الأخير أضفى كثير من التعتيم والغموض على سؤال الهوية الأمر الذى يتطلب في هذه المرحلة من النقاش النظر في أثر هذه المدرسة. نواصل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.