كأس العالم.. أسعار "ركن السيارات" تصدم عشاق الكرة    المشعل اربجي يتعاقد رسميا مع المدرب منتصر فرج الله    تقارير تكشف ملاحظات مثيرة لحكومة السودان حول هدنة مع الميليشيا    شاهد.. المذيعة تسابيح خاطر تعود بمقطع فيديو تعلن فيه إكتمال الصلح مع صديقها "السوري"    شاهد بالفيديو.. على طريقة "الهوبا".. لاعب سوداني بالدوري المؤهل للممتاز يسجل أغرب هدف في تاريخ كرة القدم والحكم يصدمه    شاهد بالفيديو.. البرهان يوجه رسائل نارية لحميدتي ويصفه بالخائن والمتمرد: (ذكرنا قصة الإبتدائي بتاعت برز الثعلب يوماً.. أقول له سلم نفسك ولن أقتلك وسأترك الأمر للسودانيين وما عندنا تفاوض وسنقاتل 100 سنة)    رئيس تحرير صحيفة الوطن السعودية يهاجم تسابيح خاطر: (صورة عبثية لفتاة مترفة ترقص في مسرح الدم بالفاشر والغموض الحقيقي ليس في المذيعة البلهاء!!)    انتو ما بتعرفوا لتسابيح مبارك    شاهد بالصورة والفيديو.. القائد الميداني بالدعم السريع "يأجوج ومأجوج" يسخر من زميله بالمليشيا ويتهمه بحمل "القمل" على رأسه (انت جاموس قمل ياخ)    شاهد الفيديو الذي هز مواقع التواصل السودانية.. معلم بولاية الجزيرة يتحرش بتلميذة عمرها 13 عام وأسرة الطالبة تضبط الواقعة بنصب كمين له بوضع كاميرا تراقب ما يحدث    شاهد بالصورة والفيديو.. القائد الميداني بالدعم السريع "يأجوج ومأجوج" يسخر من زميله بالمليشيا ويتهمه بحمل "القمل" على رأسه (انت جاموس قمل ياخ)    شرطة ولاية الخرطوم : الشرطة ستضرب أوكار الجريمة بيد من حديد    البرهان يؤكد حرص السودان على الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع برنامج الغذاء العالمي    عطل في الخط الناقل مروي عطبرة تسبب بانقطاع التيار الكهربائي بولايتين    رئيس مجلس السيادة يؤكد عمق العلاقات السودانية المصرية    رونالدو: أنا سعودي وأحب وجودي هنا    مسؤول مصري يحط رحاله في بورتسودان    "فينيسيوس جونيور خط أحمر".. ريال مدريد يُحذر تشابي ألونسو    كُتّاب في "الشارقة للكتاب": الطيب صالح يحتاج إلى قراءة جديدة    مستشار رئيس الوزراء السوداني يفجّر المفاجأة الكبرى    مان سيتي يجتاز ليفربول    دار العوضة والكفاح يتعادلان سلبيا في دوري الاولي بارقو    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تيارات الفكر و أثرها في مشروع النهضة في السودان ( 6-6)
نشر في حريات يوم 07 - 09 - 2017


زين العابدين صالح عبد الرحمن
مدارس الشعر و الأدب في السودان و أسئلة النهضة
بدأت حركة المثقفين السودانيين في الإهتمام بوعي لقضية النهضة في السودان، بعد ثورة جمعية اللواء الأبيض عام 1924م، حيث إن الثورة رغم فشلها في تحقيق مقاصدها، إلا إنها استطاعت أن تطرح أسئلة علي المثقفين السودانيين، أهما أسئلة الهوية و الأنتماء، كتب أحمد خير عن ثورة 1924م في كتابه " كفاح جيل" ص 31 يقول ( فزعماء ثورة 1924م قد قدموا الدليل علي حيوية السودانيين، و سخطهم علي الاستعمار، و رغبتهم في الحياة الحرة الكريمة، و من أجل ذلك ستبقي ذكراهم موضع الإجلال و التكريم، و ستعرف الأجيال القادمة كيف تخلد تاريخهم و تجعل من أيامهم أعيادا) و رغم إن انقسمت النخبة في تلك الفترة التاريخية في رؤيتهم عن الثورة، إلا إن هذا الانقسام نفسه هو الذي كان مجال للتساؤل و طرح أسئلة الهوية. يقول الدكتور عبد اللطيف البوني في دراسة منشورة له في مجلة الخرطوم العدد 16 مايو يونيو 1995 بعنوان " التيارات الفكرية في حركة المثفين السودانيين الأوائل" يقول ( لما كانت لتلك الحركة من أثار عميقة علي المثقفين و تطلعاتهم و ما أحدثته من تحول في الفكر الاستعماري تجاه السودانيين أصبحت الحركة الفكرية أكثر تبلورا و تنوعا. إن حركة 1924م أوقفت تفاؤل البريطانيين في اعتقادهم أن السودانيين مدينون لهم " الانجليز" لأنهم أنقذوهم من طغيان المهدية فآصيبوا بخيبة أمل في المتعلمين، و وصفوهم بالجحود، و أنهم صنيعة مصرية فأتجهوا للتعاون مع الزعماء التقليديين. أما الشباب يقول عنهم المحجوب أكتشفوا أنهم في حاجة لمزيد من الثقافة فأقبلوا علي الآداب العالمية و علي الفكر الغربي في الاقتصاد و السياسة و نظم الحكم، و سعوا للمعرفة الموسوعية و قطع بعضهم شوطا بعيدا في التأثر بالأفكار و التخيلات الغربية) إن الأسئلة التي طرحتها ثورة 1924م و هي التي فتحت أذهان المثقفين السودانيين، لكي ينظموا صفوفهم و يؤسسوا ما يعينهم لاداء رسالتهم في المجتمع، لذلك جاء عقد الثلاثينيات يحمل بشائر النهضة الفكرية وسط المثقفين السودانيين حيث أصدرمحمد عباس أبو الريش مجلة النهضة كمنبر للقوي المثقفة تقدم من خلالها أطروحاتها الفكرية في النهضة. كما أصدر عرفات محمد عبد الله مجلة الفجر كترياق نهضوي، و لكي تجيب المجلتان علي الأسئلة التي طرحتها ثورة 1924م، و تصبح منابر لحركة المثقفين السودانيين، و شنت المجلتان هجوما عنيفا علي الطائفية و حذرت المثقفين من الوقوع في حضن الطائفية لأنهم سوف يخسروا معركة الحرية و التحرر، باعتبار إن للطائفية بناءات تقليدية تميل لمصالحها دون مصالح العامة. و كانت إفتتاحية مجلة الفجر التي حملت رسالة للسيدين تقول فيها ( للسيدين منا التجلة و الإحترام و لكن مصلحة البلاد عندنا فوق مصلحة الأفراد و لهذا نتقدم للسيدين بهذا الرجاء النهائي و ننتظر منهما الجواب: لقد سئمت البلاد هذه الحزبية غير الموجهة و قد مضت أيام الزعامة الدينية التي ترتكن علي الأتباع من الدهماء الذين يرجون ثواب الآخر من غير الله) و ذكرت المجلة أن الشباب يريد من السيدين ثلاثة أشياء الأولي أن تعودا إلي ماضيكما و تكونا رجال دين لا هم لكما إلا العبادة و أن يأتي لزيارتكما من يؤمن في صلاحكما و يريد التقرب بكما إلي الله. و الثاني أن توحدا صفوفكما و تنبذا هذه الحزبية و تعملا في صف واحد و يشد أزركما الشباب المثقف حتى تعملا لخير البلاد. ثالثا و إن أبيتما إلا الحزبية فنرجو منكما أن تخلعا عنكما مسوح الدين و أن تكونا زعيمي أحزاب سياسية و اجتماعية و عند ذلك نرجو منكما أن تصدرا للناس برامجكما السياسية و الاجتماعية لينضوي تحت لواء أحد الحزبين من يؤمن في برامجه . كان دعاة النهضة في مجلتي النهضة و الفجر يعتقدون إن إشكالية السياسة و الثقافة في السودان هي البناء التقليدية و تدخل الطائفية. كتب محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه " السودان المآزق التاريخي و أفاق المستقبل" ص 29 يقول ( كان الهجوم علي الطائفية جريئا و عنيفا رغم قلة العددية للمثقفين السودانيين في ذلك الوقت، و بالرغم من إن الجسور كانت تمتد من قادة الطوائف إلي كبار زعماء الخريجين في النادي، إلا أن السيدين كانا ينظران بقلق عميق إلي تلك التيارات الصاعدة مما أكد لديهما مستقبلا، و بعد عشرين عاما أي في عام 1956م أن التعاون مع حركة المثقفين لا يعني سوى نهايتهما التاريخية.و قد تقرر الهجوم لدي لقاء السيدين في 4|11|1955م غير إن " الوطني الاتحادي" المتمخض من حركة المثقفين لم يكن هو مجموعة "الفجر" الصلبة و لا كان في صلابة أحمد خير) فالصراع مع الطائفية إن كان في فترة مؤتمر الخريجين أو فترة النضال من أجل الاستقلال، كانت إحدى الأسباب التي صرفت البعض في التفكير عن صناعة النهضة في البلاد، و البعض الأخر كان هدفه السلطة، و هي تعتبر سببا في استنجاد بعض النخب السياسية بالمؤسسة العسكرية، الأمر الذي غير من مسارات العمل السياسي في السودان في إتجاهات سالبة، فالطائفية كانت أداة مانعة في أن يتجه المثقفين إلي اتجاهات الفكر، و النقد، فالثقافة التقليدية الصوفية فرضت علي المثقفين التعايش مع ثقافة الخضوع.
بعد ما توقفتا مجلتا الفجر و النهضة في عقد الثلاثينيات بدأت مسيرة مؤتمر الخريجين، حيث أنتقلت صراعات القوي الحديثة في المجتمع إلي المؤتمر، و لعبت الطائفية دورا كبيرا في مسيرة المؤتمر، و استطاعت أن تستقطب أعدادا من المثقفين الناشطين، و حتى من كتاب مجلتي الفجر و النهضة الذين قادوا عملية الاستنارة في فترة عقد الثلاثينيات، و لكن لم تغيب الأسئلة التي حاولوا الإجابة عليها علي صفحات المجلات و الصحف، و منبر مؤتمر الخريجين، و فترة المؤتمر، كانت تمهيدا لمرحلة إعداد المثقفين السودانيين لمرحلة أهم و أخطر في تاريخ السودان، و هي مرحلة الاستقلال، لذلك كان الانتقال من مؤتمر الخريجين إلي تكوين الأحزاب السياسية في عقد الاربعينات قد فرضته الأجندة الجديدة المتعلقة بالنضال من أجل الاستقلال، حيث انقسم المثقفون السودانيون إلي شقين؛ الأول ينادي بوحدة وادي النيل، و الثاني ينادي بالاستقلال، الأمر الذي خلق جدلا واسعا في المجتمع وسط الطبقة المثقفة، و هي كانت تمثل المرحلة الأهم في تاريخ البلاد، و اتجهت مجهودات كل المثقفين لكيفية تعبئة الشارع السوداني بكل مكوناته لتحقيق هذه الأجندة، فالمرحلة كانت تتطلب حشد كل الطاقات من أجل التحرير، حتى وصلت كل القوي السياسية إلي قناعة واحدة تحسم بها قضية الاستقلال، الذي كان من داخل البرلمان في 19 ديسمبر 1955م لكي تنتهي مرحلة، و تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ البلاد.
عجزت القوي السياسية في بداية تاريخها السياسي بعد الاستقلال أن تتفق علي مشروع النهضة في البلاد، و أصابت حزب الطبقة الوسطي " الوطني الاتحادي" انشقاقات أثرت في مسيرته السياسية، و بدأت مرحلة تحالف السيدين، التي ختمت بانقلاب 17 نوفمبر 1958م بتسليم السلطة للجيش من قبل قيادة حزب الأمة، إن تسليم السلطة لقيادة الجيش، كانت سببا في دخول عامل جديد في الساحة السياسية، هو عقل البندقية الذي فرض الأجندة الأمنية، و جعلها الأعلي علي الأجندة الأخرى، ألمر الذي قلل مساحات الحرية و الممارسة الديمقراطية، و بدأت مرحلة تاريخية من النظم الشمولية.
إن عجز القوي السياسية، أو بالأصح عجز النخب السياسية في الوصول ألي اتفاق وطني يؤسس لمشروع نهضوي و يوقف الحرب الدائرة في البلاد. و في ذات الوقت قد توقف الحوار بين الكتل السياسي، مما أدي إلي حراك ثقافي من خارج هذه المؤسسات السياسية، حيث بدأت الأسئلة التي كانت قد طرحتها ثورة 1924م تجد محاولات الإجابة من قطاعات المثقفين في ساحات الشعر و الأدب، كانت المؤسسات التعليمية هي الساحة التي ظهرت فيها هذه المدارس الفكرية الجديدة. تأسست مدرسة الغابة و الصحراء من طلاب في جامعة الخرطوم، و الذين تخرجوا منها في أوائل الستينات من مجموعة تهتم بقضايا الشعر و الآدب. و تقول المصادر إن من أطلق عليها أسم " مدرسة الغابة و الصحراء" هو الشاعر النور عثمان أبكر و كانت تضم محمد المكي إبراهيم و الدكتور محمد عبد الحي و صلاح أحمد إبراهيم و علي المك و عبد الله شابو و يوسف عيدابي و أسحق إبراهيم أسحق و مصطفي سند و غيرهم. هذا الحوار في المؤسسات التعليمية يؤكد غياب المؤسسات الحزبية، التي كانت محاصرة أمنيا من قبل السلطة العسكرية، فأتجهت الأحزاب إلي المؤسسات التعليمية التي تعتبر مناطق الوعي لكي تقدم مبادراتها، و لكن كانت أقصر قامة من المبادرات التي جاءت من مجموعات الأدب و الإبداع.
إن هذا المبحث لا يتناول مسألة مضامين الفكرة، أى عدم الدخول في مشاكسات المجموعة و تعريفاتهم لقضية الهوية و الإنتماء، أو ما هي المجادلات الفكرية التي كانت تطرح داخل هذه المدرسة، إنما المبحث يركز عليها باعتبارها واحدة من روافد المثقفين السودانيين الذين حاولوا الإجابة علي أسئلة طرحت في الحقل السياسي، و عجزت النخب السياسية في الإجابة عليها، أو حتى إثارة جدل بين مجموعات المثقفين حولها، فالتوافق بين تياري العروبة و الأفريقية في أن الهوية السودانية هي مزيج بين الأثنين كجناحي طائر لا يمكن أن يطير إلا بهما الأثنين. في التعريف الذي ورد في الوكيبديا يقول (.فكرة مدرسة الغابة والصحراء على انتماء الشعر السوداني الى التمازج العربي الإفريقي «والذي يرمز له بالغابة رمز الأفرقانية والصحراء رمز العروبة» وهذا التمازج العربي الافريقي في السودان، هو الذي يشكل الأصل في الثقافة السودانية، حسب هذه المدرسة التي تعتبر في حد ذاتها رمزية دلالية للعنصر الأفريقي، الذي تمثله الغابة، والعنصر العربي الذي تمثله الصحراء، وهي بذلك تجسد الواقع الجغرافي السوداني والبيئة السودانية حيث تمتد الصحراء في السودان من الشمال حتى تخوم الوسط وشمال الوسط، حيث تقطن أغلبية القبائل العربية، أو تلك المتحدثة باللغة العربية، ثم يليها نطاق السافانا ذو الأعشاب والحشائش، والسافانا الغنية، ومنطقة الغابات الإستوائية في الجنوب وجنوب الوسط، موطن القبائل غير الغربية، ووجدت المدرسة ضالتها في نموذج السلطنة الزرقاء، التي سادت السودان أبان القرون الوسطى بتحالف بين قبائل العبدلاب العرب و الفونج غير العرب ، أي بتلاقح العنصرين الثقافيين العربي والأفريقي والذي شكل النواة السودان المعاصر) هذه المدرسة قد أخذت مساحة كبيرة في الجدل الفكري الذي ساد عقد الستينات في القرن الماضي، حيث أخذت هي التي تطرح أجندة الحوار في الساحة الثقافية، بينما تراجع الخطاب السياسي، لكن المدرسة نفسها التي تشكلت من مجموعات من المثقفين ينتمون لقبائل اليسار، منهم المنتمي و الآخر غير المنتمي كانوا هم أصحاب المبادرة؟ أم أن المبادرة كانت مطروحة علي مستوي المنطقة العربية؟ في العشرينات بدأت حوارات الهوية في السودان بعد إكتشاف مقبرة " توت عنخ أمون" و لكن مصر غير الدول الأخرى إن الجدل جاء في الحقل السياسي و فجره سعد زغلول رئيس حزب الوفد، و لكن في منطقة الشام الكبير أيضا قد أثيرت قضية الهوية في الوسط الثقافي و الأدبي و عبر صفحات المجلات، و في دول المغرب العربي كانت هناك حركة الطليعة و هي حركة تأسست وسط المبدعين التوانسة و ظلت تقدم رؤأها حول قضية الهوية و العروبة، هذا الحراك في الوسط الأدبي و الإبداعي في الدول العربية لابد أن يكون قد ألقي بظلاله علي النخب السودانية في عقد الستينات، خاصة كانت مجلات مثل الشعر و الأداب التي تصدر في لبنان و سوريا أيضا مجلة الرسالة قد أثرت في التكوين الثقافي و المعرفي للنخب السودانية. و كتاب الشاعر محمد المكي إبراهيم " الفكر السوداني أصوله و تطوره" أحد أفرازات ذلك الجدل الفكري في المنطقة، الذي يحاول أن يقدم فيه تطور الفنون و الأداب في السودان عبر الحقب المختلفة، و في ذات الوقت يفتح قنوات للجدل الفكري في البلاد، كتاب محمد المكي يمثل تحول في مسار الفكري السوداني الذي يؤرخ لحركة الإبداع في البلاد، و لكن المكي نفسه توقف إنتاجه المعرفي في مجال الفكر النهضوي، ربما يكون ذلك سببه لطغيان الأيدلوجية في الساحة و فضل الابتعاد دون الدخول معها في سجالات فكرية، فالسجالات الأيدلوجية في السودان أثارها كانت سالبة لأنها أنحرفت بالحوارات الفكرية إلي خطاب عزل الآخر.
في حوار مع جريدة الصحافة وصف الدكتور عبد الله علي إبراهيم شعراء الغابة و الصحراء بأنهم كانوا جيلا (مفعما باليسارية السمحة أختلطت عندهم الممارسة بالتنظير، بمعنى إنهم كانوا يساريين رومانسيين لا واقعيين" و رفض إبراهيم الفكرة التي تستند عليها المدرسة، و الطرح الذي تتبناه لأن موضوع الهوية في نظره هو أكثر من مجرد معادلة ثقافية رائعة و جميلة كالذي تطرحه الغابة و الصحراء) و ربما تكون رومانسية هؤلاء الشعراء، هي التي ولدت الفكرة عند عبد الله علي إبراهيم و زملائه، في تأسيس "أبادماك" كمنظمة تعني بالفنون و الأداب الواقعية، خاصة إن مقولة عبد الله علي إبراهيم هي مقولة فكرية تشير لقناعاته "الواقعية"كفلسفة تمثلها الماركسية " انعكاس المادة علي الدماغ" الذي يشتغل بالفكر لا يستطيع الهروب من قواعده التي تحكم مقولاته المعرفية، لكن "أبادماك" كأسم مستلف من التاريخ. هل كان يمثل رمزا للهوية السودانية و من أين يبدأ الجدل حولها، فهي ذات الفكرة التي دعا إليها الدكتور جون قرنق لكي يجعل هناك قاعدة ثقافية يمكن الرجوع إليها في قضية الهوية. فالغابة و الصحراء لم تكن جمعية أو منظمة تحكمها ضوابط إنما كان جدلا بين مكونات فردية، أردوا أن يثيروا من خلال الجدل العقل السوداني المعطل، خاصة في قضايا الهوية و النهضة، و من المعقول إن يجد هذا الجدل إستجابة من مجموعة منظمة، داخل مؤسسة حزبية تحاول أن تدفع بهذا الجدل من تقوقعه حول قضية الهوية إلي رحاب الفكر. لكنها لم تفعل لماذا؟ هذا السؤال لا يجاوب عليه غير الدكتور عبد الله علي إبراهيم.
و في حقل إبداعي أخر" الفنون التشكيلية" أيضا أنشغلت مجموعة من الفنانين التشكيلين بقضية باسئلة الهوية في السودان، علي رأسهم الدكتور أحمد الطيب زين العابدين، حيث الساحة كانت قابلة مثل الحوارات، و كان في حوار قد أجراه عصمت معتصم البشير مع الدكتور أحمد الطيب زين العابدين في مجلة الثقافة السودانية العدد 26 يوليو 1994م، قال الدكتور أحمد الطيب زين العابدين عن السودانوية ( تعني السودانوية إنها في الأصل تعني منحى تاريخيا ثقافويا في دراسة الحضارة السودانية. بدأت أول ما بدأت عند علماء المصريات الذين أكتشفوا أن هناك بجانب الحضارة المصرية القديمة حضارات جنوبية متفردة و مختلفة، وصل إلي مثل هذه الحقيقة رجال أمثال الأثري البريطاني "ولسن بيرج" في أول هذا القرن، و تعمق هذا الفهم عند علماء الأثار و الاتاريخ أمثال وليم أدمز، و براين هيكوك، هير إلي أن كرسي الدراسات النوبية قد استقل من المصريات، و خلقت هذه الاجتهادات الأكاديمية لدى العلماء الأوروبين و الأمريكان وعيا بالثقافة القومية السودانية لدي المهتمين بأمور الثقافة من المثقفين الوطنيين خاصة قفي الخمسينيات، و تزامن كل أولئك مع نهضة وطنية تحررية ظهرت أثارها في الأدب السودانية، فقامت مدارس ذات توجهات وطنية تحدثت عن أفريقانية و عروبة الثقافة السودانية، و عن هذه الخصوصية الحضارية التي أهتمت بها مدارس أبداعية مثل مدرسة الغابة و الصحراء) إن الدكتور أحمد الطيب زين العابدين ذهب ينقب في التاريخ و الممالك السودانية القديمة، لكي يجد أرضية ثقافية مشتركة للمجمعات الثقافية التي تستوطن في السودان رغم التنوع الثقافي، و هنا يلتقي مع مجموعة " أبادماك" الرمزية التاريخية، و إن كان الدكتور أحمد الطيب زين العابدين لأم يكن أيدلوجيا و لكنه كان يبحث عن الإجابة للأسئلة المطروحة. و السودانية كفلسفة في مجال الهوية جاء الحوار حولها بعد رحيل مؤسسها كمدرسة في حقل الإبداع. الملاحظ في التطور الفكري في السودان إن الأحزاب السياسية لأنها كانت خاضعة لسيطرة الكارزمة دون المؤسسية، قلصت مساحات الحرية و الممارسة الديمقراطية عجزت في التواصل مع الجدل الفكري الإبداعي المطروح، الأمر الذي أثر سلبا في هذا الحراك مستقبلا.
لكن هناك سؤالا مهما مطروح علي الدكتورين عبد الله علي إبراهيم و أحمد إبراهيم أبوشوك، باعتبارهما متخصصين في التاريخ، و مهتمان بالتاريخ المعاصر و قضايا الفكر، فكتابات عبد الله حول المؤسسات التي شكلت الوعي السوداني منها "الصراع بين المهدي و العلماء، و الثقافة و الديمقراطية في السودان، الماركسية و مسألة اللغة في السودان، و بخت الرضا و غيرها من كتب الأدب و الثقافة و هي مجموعة ترتبط بخيط واحد حول قضايا الفكر و الثقافة في السودان، و تطرح هي أيضا أسئلة و خاصة كتاب " بخت الرضا لأنه يحتوي علي خلاف مع مرجعيات أخرى. و أيضا سلسلة كتابات الدكتور أحمد إبرأهيم أبو شوك حول " السودان السلطة و التراث" خمسة أجزاء تؤرخ للحركة السياسية الثقافية للسودان المعاصر. فالسؤال هل الحراك الثقافي الأدبي و الإبداعي، الذي كان في بداية عقد الستينات، و الذي حاول أن يجيب من خلال الإنتاج الإبداعي علي الأسئلة التي طرحتها ثورة 1924م، حول قضية الهوية و الانتماء كان له أثرا في ثورة أكتوبر، و تعزيز قضية الوعي الجماهير خارج دائره الحزبية؟
هناك ملاحظات كثيرة حول قضايا الجدل الفكري الذي حجب التفكير حول قضية النهضة. لملاحظة الأولي إن الإبداع كان مهموما بقضية الهوية، أكثر من أهتمامه بقضايا النهضة، و ربما يرجع لعقل البندقية الذي أصبح مؤثرا إن كان في التمرد الذي يحمل السلاح ضد السلطة المركزية، و السلطة الحاكمة التي لم تستطيع أن تفكر خارج دائرة البندقية، هؤلاء كانوا سببا في تمحور الجدل حول قضية الهوية. الثانية إن الجدل كان دائرا في المؤسسات التعليمية " جامعة الخرطوم و القاهرة الفرع" باعتبارهما شعاع الوعي، كما إن القوي المثقفة أو الواعية كانت ضعيفة داخل المجتمع، فكانت الجامعات منارا للوعي، هذه المنارات كانت تطرح فيها القضايا من خلال الفئات التي تمثل الإبداع. الثالثة إن قضية الجنوب كانت القضية التي يتمحور حولها الجدل لذلك اشتغلت النخبة بالقضية في جانب واحد هو الهوية، و سادت مقولة الأزهري "تحرير لا تعمير" إلي جانب مشاكسات الأيدلوجيين التي عطلت تطور الإنتاج العقلي الفكري.
واحدة من الإشكاليات التي كانت تؤثر علي الجدل الفكري، إن القوي الأيدلوجية بعد إن تمددت الحركة الإسلامية في المؤسسات التعليمية، تحول الجدل السياسي من جدلا فكريا يمكن أن يسهم في عملية الوعي الجماهيري، تحول إلي صراع من أجل نفي الأخر بشتى الطرق، هذا المنهج الجديد في الساحة السياسية، و انسحابه علي الساحات الأخرى التعليمية و الإبداعية، قد أثر سلبا علي الحراك الثقافي، و أضعف دور الثقافة في تنمية الوعي الجماهيري. هي قضية بالفعل تحتاج إلي حوار فكري و تاريخي لمعرفة الأسباب التي منعت أن تطرح أسئلة النهضة في البلاد. نسأل الله حسن البصيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.