كان حلقها جافاً ويديها ترتعشان ، قبضت على طرف ثوبها بقوة وتأكدت من إحكامها “لبلامتها” ، تحركت مسرعة وهى تتلمس بحذر الخطاب المخفى بحرص فى ثنايا قرقابها، كانت تتلفت خلفها خائفة وهى تهرول وسط ازقة امدرمان الترابية، وقفت متلاحقة الانفاس امام باب السنط الضخم طرقت بتعجل جاءها صوت متسائل عمن بالباب ردت بصوت خافت: انا العازة، استدركت مضيفة.. “العازة مرة على عبداللطيف..” انفتح الباب بسرعة و جذبتها يد “عبيد حاج الامين” لداخل المنزل، سلمت الرسالة وقبل ان تخرج مد رأسه مستكشفاً ومن ثم انطلقت من جديد لمنزلها حيث ينتظرها شخص مرسل من طرف زوجها البطل على عبد اللطيف وزملائه ، سلمته الرد وذهبت لمطبخها “تعوس” الكسرة. مدت يدها لتتذوق عجينها المتخمر وجدته حامضاً حد المرارة، تعوذت من خاطرة سيئة طافت بها، وأطعمت اطفالها كسرة حارة وطازجة ولكن بها بعض “المرار”.. نامت وهى تحتضن خوفها وفى منتصف الليل سمعت طرقاً عنيفاً على الباب وقبل ان تقف على قدميها كان الجنود البريطانيين قد داهموا الغرفة، امسكت بثوبها تحاول ان تستتر، وقف الضابط الانجليزى ينظرها شذراً وسألها عن المكان الذى يخفى به زوجها اوراقه رفضت ان تخبره. اندفع جنوده يقلبون المكان منقبين وقفت تنظرهم بابتسامة هازئة، غضب الضابط من نظرتها فزجرها صارخاً ولكنها بصقت بوجهه وهى تواصل ابتسامها، صفعها بعنف ردت صفعته بقوة أكبر وواصلت لكمه دون توقف، نشبت أظافرها بوجهه طرحته أرضاً وهو يقاوم مأخوذاً ولم ينقذه منها سوى جنوده ، وقف متنفضاً وأمر جنوده بربطها بسقف الغرفة “بالشعبة” و ظل جسدها متأرجحاً هناك لساعات طوال، لم ترد عليهم مطلقاً، صوب الجنود بنادقهم نحوها، ارتعدت وأغمضت عينيها مترقبة لصوت الرصاص، كانت ترتجف ولكنها زمت شفتيها حتى لا يلحظوا ارتجا فاتها، تململ الضباط السودانيون، ونظر بعضهم لبعض تقدم أحدهم من الضابط الانجليزي وهمس له إنهم يودون التحدث معه فى الخارج وهناك شرحوا له حرج موقفهم إن اشتركوا فى قتل امرأة سودانية وان حادثة كهذى ستخلق زوابع لا مبرر لها: “فالولية أمية ولا بتعرف تقرا ولا تكتب وما عارفة حاجة..” بعد نقاش طويل أفلحت جهودهم فى التوسط وتم إنزالها وخرج الجنود من منزلها تلسع ظهورهم نظراتها النارية.. بعد أيام قليلة وقفت بقاعة المحكمة تحضر محاكمة زوجها البطل على عبد اللطيف وزملائه، كانت المرأة الوحيدة ، وقفت مرفوعة الرأس عندما تم النطق بالحكم، جلجلت زغرودتها محلقة محتضنة وجه زوجها الذى برز من خلف القضبان .. تمددت زغرودتها وصارت لها حواف حادة، فجالت تدمى الأجساد الصامتة … كانت الموجات تلطم جانب السفينة بإيقاع رتيب، جلست تبحلق فى الظلام، من كوة صغيرة مد لها الجندى الانجليزي الطعام رفضت أن تتناوله، وعندما هتف باسمها لم تجبه ظنًا منها انه سيطلب منها تناول الطعام، ولكنه ظل يردد أسمها: بتول محمد عيسى .. بتول محمد عيسى.. فأجابته بعدم اهتمام فطلب منها أن تتقدم نحو الباب وعندما انفتح الباب فوجئت بان الوقت منتصف النهار ولم يكن ليلاً مثلما أوحت لها ظلمة الزنزانة. سارت خلف الجندي في الممر الطويل الذي أفضى بهما لمكتب الضابط، وهناك وجدت أستاذتها عميدة مدرسة “الدايات” المسز ولف جالسة تنظرها بعتاب قائلة: “بتول انت داية بساعد نسوان بس. مش بتاع سياسة ايه دخلك فى كلام طلبة كلية حربية ده..” أجابتها بهدوء: وايه جابك مسزوولف لبلدنا مش برضو سياسة. احنا دايرين استقلالنا زينا زى الرجال الفى الكلية الحربية”. صعقت العميدة وأطرقت لهنيهة ومن ثم طلبت من الضابط الافراج عنها. سارتا معا خارجتين من السفينة التى اعتقل فيها طلاب الكلية الحربية المشاركين فى ثورة 1924م، عندما وصلتا للمرفأ كانت دراجتها التى أخذها الجنود مربوطة بجذع شجرة فنظرت لمسز وولف برجاء فهزت هذى رأسها مبتسمة وطلبت من الجندى إعطاءها الدراجة. ودعتها شاكرة وانطلقت بتول محمد عيسى تقود دراجتها في الشوارع المعفرة وبوجهها إصرار وتصميم وساقاها المنهكتان تدفعان بتروس الدراجة، ترسمان طريقاً عميقاً لم تفلح أى ريح فى محوه.. تشققت قدماها وهى تركض حافية فى الصخور الساخنة، صارت ترى أشباحاً وأضواءً تطوف حولها، ركعت على قدميها، رغبت ان تتمدد للحظات فقط. ولكن منظر الانجليز وعتادهم جعلها تقف وتهز رأسها تنفض عنه اى تعب، واصلت ركضها تجاه جبل قدير .. بدا الظلام يلف الطريق أمامها .. ظلت مواصلة ركضها وهى تسمع صوت الحيوانات تعوى وسط الاشجار. بدأت خيوط الشمس فى التسلل اليها تطمئنها بقرب نهاية تعبها.. من بعيد لمحت الملابس المرقعة لجنود المهدية وسط الحراب الطويلة، إمتدت الأيدى تسندها. بصوت مبحوح طلبت رابحة الكنانية ملاقاة المهدى. وقفت امامه باكية تأثراً لانها استطاعت ان تصل اليه رغم قساوة الطريق السفرى وهى راجلة.. وسط نشيجها وصوتها المبحوح أخبرته عن وجود مكان الجنود الانجليز، شكرها مشيداً بشجاعتها وانطلق يعيد تنظيم صفوف جيشه… شرخ صوتها فضاء صمت الشوارع .. هتفت منددة بالجمعية التشريعية عام 1946م.. ارتفعت حماسة المظاهرة تقدمت الصفوف عاقدة لحاجبيها قابضة على كفها وجدت نفسها فى الصفوف الأمامية وسط قيادات نادى الخريجين كانت المرأة الوحيدة فى المقدمة .. لم تهتم كثيراً فلقد اعتادت هذا الوضع فهى كأول فتاة تدخل الجامعة كانت تسمع كثيراً من التعليقات السلبية وكان أسمها “خالدة زاهر سرور السادات” كفيلاً بان يخلق مناخين مختلفين فى ذات المكان ممن يفرحون بانجازها، ومن يرونها وصمة عار على مجتمعهم. لذا لم يكن يقلقها ما يقوله الآخرون مطلقاً.. ظل صوتها يجوب شوارع أمدرمان وعندما تفرق غالب المتظاهرين راكضين وسط الأزقة الضيقة ملاحقين بهراوات الجنود ظلت واقفة تهتف فى وجه اللطمات.. وحتى عندما قادوها معتقلة واصل صوتها تحليقه .. لم ينحبس صوتها قط.. تلقفت الرسالة بفرح طفولى.. انه طابع البريد المصرى، نظرت “فاطمة محمد عبد الرحمن” للخط ذى الحواف المنمنمة فعرفته بسهولة انها صديقتها “بنت الشاطى”، فلقد راسلتها لسنوات وتعرف خطها جيداً. فتحت المظروف بحماس فلقد كانت تنتظر رداً منها على مسودة مسرحية كتبتها وارسلتها لها وللدكتورة سهير القلماوى تستطلع رأيهما.. أخذها حماس جارف وعيناها تعانقان عبارات الإشادة والتقدير لمسرحيتها “الوفد” والتى كتبتها بمساعدة الشاعر احمد محمد الشيخ “الجقير”، لصالح مساعدة الوفد السودانى المسافر للمفاوضات مع حكومة مصر وبريطانيا عام 1946م، أيام فقط فصلتها عن تحقيق حلمها بعرض مسرحيتها كانت قد دققت فى كل تفاصيل إخراجها وعندما اكتملت التدريبات والاستعدادات واصطفت النساء – اللاتى لم يرين مسرحية بحياتهن – منبهرات يراقبن ممثلات مسرحيتها. وقفت بالخلف تحاول ان تحصى الحضور وتتمنى ان تستطيع المسرحية تحصيل مبلغ ذي قيمة.. عندما علا التصفيق جاءتها أحدى المنظمات وبشرتها بالمبلغ الكبير جداً الذى جمعته المسرحية فاحتضنتها فرحة وانفجر صخب الممثلات المغتبطات وهن يلوحن بشواربهن المزيفة وجلاليبهن الرجالية.. ونامت بيوت حى “الاسبتالية” ذلك المساء متوسدة اغتباطاً لم تذقه منذ زمان.. وقفت “مبروكة الفوز” تهدىء ضيوفها الثائرين بوجوه بعضهم، لقد اشتدت حماسة النقاش وانفلتت عبارات التجريح، فصال فى المكان غضب طائش، فعرفت انه حان الوقت لتتدخل.. صمت المتجادلون بمجرد وقوفها، هزت رأسها دلالة الأسف، ذكرتهم بان نقاشهم بدأ للتفاكر حول توزيع المنشورات ضد الاستعمار وليس للخلاف فيما بينهم. أمسكت بيدها بورقة المنشور، وهددتهم انها “ونسوان البيت” سيوزعونها ان لم يتركوا تشاحنهم. هدأ المكان ومازحها احدهم لأنها تمسك المنشور بالمقلوب، فقد كانت أمية لا تعرف القراءة ولا الكتابة. جادلته ضاحكة “انا المرة الجاهلة دى فاتحة بيتى لاجتماعاتكم وما خايفة من الانجليز. ارجل من الرجال البقروا الجواب مسددين ابوابهم، هى الرجالة شنب؟ الرجالة حرة قلب”. واندفعت حرارة حديثها فى الدماء، فانطلق الرجال الموجودون متفرقين من حى الموردة الى كل شوارع العاصمة موزعين منشوراتهم و”حرة قلب” تطرد المستعمر. . تململ الجنود وهم يستمعون الى ” التومة ام ريش” صاحبة عصارة الزيت الضخمة والتى جلست بقربها ” حجة ود الرجا” تاجرة الذرة.. كانتا المرأتان الوحيدتان فى المجلس الأدارى الذى كونه المفتش البريطانى “السير برمبل” لتنظيم سوق أم درمان. ولم يستطع تجاوزهما لمكانتهما وتأثيرهما فى السوق..علت ابتسامات وجوه التجار، وأمسك بعضهم نفوسهم بصعوبة من الانفجار يضحكون شامتين وهم يواصلون الاستماع الى “التومة ام ريش” وهى تنتقد بعبارات لاذعة اقتراح “السير برمبل” بتغطية اللحوم بقماش حماية لها من الذباب. اختتمت حديثها للمفتش المشهور بقسوته بان الحل ليس فى تغطية اللحوم بل بمحاربة الذباب نفسه، والتفتت للحضور الرجال وهى تواصل تعبيئتهم ضد الاستعمار بحديث مبطن وانتهرتهم قائلة: “وانتو يارجال السوق تقتلوا الضبان ولا تدارقو منو بالقماش”. انفجر الحماس ووقف بعضهم يهز بيمناه هاتفاً لها: ابشرى ابشرى بالخير.. وظلت الحجة التومة ام ريش توزع من حديثها ريشاً كريشها يجعل أمدرمان تزاحم الطيور فى سماوات الحلم بالحرية .. ان النساء يعانين كثيراً من التمييز فى التوثيق. فغالب المراجع الكبيرة في السودان التى تتناول الاستقلال تكاد تخلو من فصل او فقرة مخصصة تتناول دورهن فى الاستقلال. فرغم الوجود المحدود للنساء فى الحياة العامة فى ذلك الوقت الا ان الموجودات قمن بتمثيل النساء بأفضل صورة. لقد كانت الممرضات واقفات جنباً الى جنب مع الممرضين، وعارضن بشدة القانون الانجليزى الذى منعهن من الاشتراك فى نقابة العاملين، وشاركن فى النقابة رغم انف الاستعمار، وصرن عضوات فاعلات فى النقابة، ومشاركات لا يترددن فى تنفيذ اى منشط. وفى اول مظاهرة طلابية فى السودان كانت بالصفوف المتقدمة طالبتان هما خالدة زاهر وتكوى سركسيان، وهما الطالبتان الوحيدتان بالجامعة. ان الاستقلال الحقيقى للنساء لم يكتمل بعد. فانعتاقنا من التمييز والدونية الكامنة فى الثقافة الذكورية المسيطرة هو الاستقلال الحقيقى. والنساء اللاتى تفيض بهن الشوارع ومؤسسات العمل لازلن مستعمرات لتخلف لا يرى فيهن سوى اجساد فقط، ومالم يتحرر الذهن السودانى من تمييزه العنصرى والنوعى يظل الحديث عن التنمية والتحديث مجرد احلام.. أننا كنساء قاتلن جنب الى جنب مع الرجال من أجل الاستقلال بقدر و”وسع” طاقتنا فى ذلك الحين لا نطالب بالكثير في تأريخه، فقط يرضينا ان نعرف عن نماذج ملهمة لنا فى مسيرة استقلالنا الحقيقى وتحررنا. ان الاستعمار الذى يقوم به التفكير التقليدى تجاه النساء ويبدد طاقاتهن لتصب فى صالح السلطة الذكورية يستدعى “الحجة أم ريش” لتهبنا من ريشها لنطير محلقات نحو سماوات الحرية.