إذا صَدَقَتْ التسريباتُ التي أفادت بأن الحزب الاتحادي الأصل قرر المشاركة في حكومة الإنقاذ المقبلة، يكون -بلا أدنى شكٍ- قد وقع في الفخ، وحفر قبرَهُ، وحرَّر وثيقةَ وفاته بيدَيْهِ، فالحزب الأعرق في السودان إن خطى هذه الخطوة يكون قد قضى على ما تبقى من تماسك الحزب، وشوه تاريخًا مجيدًا لقيادات سابقة حفرتْ بأظافرِها لوضع الأسس السليمة للعمل السياسي في البلاد والتأسيس للدولة المدنية الديمقراطية، فحزب الزعيم الأزهري رافع علم الاستقلال من المحزن أن ينتهي به الحال مُلْحَقًا بذيل نظامٍ شمولي، أعظم انجازاته فصل ثلث الوطن، وإشعال الحروب في بقية أطرافه تمهيدا لفصلها والتخلص منها، من أجل عيون مشروعه السياسي والفكري المُدَمِّر. لا أحد يمكن أن يفهمَ في هذا الظرفِ التاريخي الرافض للأنظمة الشمولية، الأسبابَ التي يمكن أن تدفعَ مولانا الميرغني صاحب مقولة الشهيرة (سلم تسلم) ليسلم رقبة حزبه طائعًا مختارًا لفك الإنقاذ المفترس، الذي يتحرَّق شوقًا لهذه الفرصة، ولن يتوانى لحظةً في طحن عظام الحزب العتيق وامتصاص رحيقه؛ ليثبتَ أولا للساحة السياسية صحةَ مقولات رجاله الذين ما انفكوا في تصريحاتهم وأحاديثهم يدمغون الأحزاب التقليدية بعدم المصداقية وعدم المبدئية، ويُرَوِّجُون لذلك من أجل تشويه صورتها والقضاء عليها، ومن جهة ثانية توفر مشاركة الاتحادي للنظام المتهالك سندًا معنويًا وجماهيريًا هو في أشدِّ الحاجة إليه، ريثما يتخطى منعطفَ الربيع العربي، ويخرج من وحل الأزمات الخانقة المحيطة به، ومِنْ بَعْدُ يسهل التخلص من مزاحمة (أبو هاشم) وحزبه على الكعكة كيفما اتفق، وما أسهل ذلك على تنظيم أدْمَنَ حبْكَ المؤامرات والانقلابات، ونقض المواثيق والعهود. يجد المرءُ صعوبةً في هضم وتصديق هذه الأنباء، وكل القراءات السياسية الرزينة لواقع السلطة الإنقاذية اليوم، توضِّحُ أنَّ هرولتَها خلفَ الحزبين الكبيرين (الأمة) و(الاتحادي) ليشاركوها تشكيل الحكومة القادمة (ليست لله)؛ بل هي (لشيءٍ في نفس يعقوب)، وتدل حقيقتها على مدى الضعف الذي أصاب الحزب الحاكم، ومدى الهلع والخوف من أن يمتد إشراق الربيع العربي -الذي عمَّ بنوره عدة دول عربية، وأزال عن كاهل شعوبها أنظمة الاستبداد الدكتاتورية- ويعصف بليل عهدها الكالح الظلمة. كما أنَّ التجاربَ قد أثبتت أن نظام الإنقاذ نظامٌ إقصائي مغلقٌ ومتعصبٌ لبرنامجه السياسي ورؤاه الفكري، وهو ما يُصَعِّبُ أمر المشاركة، ويجعل من الشريك -إذا ما أراد الاستمرار في المشاركة- مجردَ ديكورٍ و(تمومة جرتق)، وإلا سوف تنبذه الإنقاذ نبذَ نوى التمر، وتطرحه صريع الحسرة والندم، هذا إذا لم تغتاله معنويا وتدمغه بالعمالة والخيانة بعد أن (تشم نفسها)، وتتجاوز بدفعه وسنده المنعطفات التي تواجهها، هذا ما حدث مع الحركة الشعبية التي أُجْبِرَتْ على طلب الانفصال، واستمرَّ الحالُ مع الحركة الشعبية قطاع الشمال التي يراد بالحرب المستعرة في النيل الأزرق وجنوب كرد فان اليوم القضاء المبرم عليها، وهو السيناريو الراجح حدوثه مع الحزب الاتحادي إذا ما قرَّرَ المشاركةَ لأن الحزبَ العريق -بلا شك- لن يكتفي من المشاركة بدور (تمومة الجرتق)، ولن يرضى بلعب دور الكومبارس، وهذا ما سيقوده في نهاية المطاف للمحرقة، بعد أن يكون قد فقد أرضيته في الصف المعارض، وهو هدف نظام الإنقاذ المُضْمَر، واستراتجياته القائمة على تشويه صورة الأحزاب، وتلويث سمعة قياداتها التاريخية، ثم طرحها بعيدا عن الساحة السياسية لتعاني الوحدة كمريض الجذام، وتقضم البنان حسرة (والعياذ بالله). وإذا تجاوزنا كلَّ ما ذكر إلا أن هناك سؤالا يظلُّ يؤرق منام أي حزب سياسي تراوده أحلام مشاركة الإنقاذ السلطة وهو : هل الظروف التي يمرُّ بها النظامُ الحاكم مجرد سحابه صيف ومنعطف يسهل تجاوزه والاستمرار في الحكم أم هي أزمة حقيقية ضاقت حلقتها حول عنقه وباتت تهدد وجوده ووجود كل من تحالف معه؟!! هذا السؤال يجب الإجابة عليه قبل التفكير في المشاركة؛ لأنه سَيُطْرَحُ بقوة مِنْ قِبَلِ قواعد الحزب، وبعض القيادات الاتحادية الرافضة تمامًا لمجرد التفاوض (مجموعة حسنين)، وسيكون (القشَّة) التي ستقصم ظهر البعير، وتشتت وحدة الحزب الاتحادي الأصل، الذي مَلَّتْ قواعده الطريقة الضبابية وغير الديمقراطية التي يدار بها وتتخذ القرارات. من الواضح أن التسريبات عن مشاركة الحزب الاتحادي في الحكومة القادمة مجرد أمنيات يتمنى النظام الحاكم (المزنوق) إن تتحقق وستظل كذلك حتى نسمع من قيادات الحزب القول الفصل وحتى إن صدقت سيكون خيارا معزولا لأفراد في قيادة الحزب يصعب إقناع القواعد به وهو ما سيؤدي بكل تأكيد لانفجار الوضع وسط القيادات الرافضة وقواعد الحزب الشبابية المطلعة على حالة الغليان في الشارع والعليمة بسر هرولة النظام خلف حزبها. ولا شك أن أيامًا عصيبة ومصيرية تنتظر مولانا، إذا ما قرر المجازفة بالمشاركة التي ستفقده كثيرا من شعبيته وسط مريديه، وتُضْعِفُ الإجماعَ عليه، وتذهب ببريق سلطته البابوية، والراجح في هذه الحالة أن يرثَ مكانتَهُ وزعامة الحزب الاتحادي الأصل المعارضُ الجسورُ السيد حسنين؛ الذي يمتازُ بوضوح الموقف والرؤية من نظام الإنقاذ. 25/10/2011م