الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة يكشف عن إحصائيات بلاغات المواطنين على منصة البلاغ الالكتروني والمدونة باقسام الشرطةالجنائية    وفد المعابر يقف على مواعين النقل النهري والميناء الجاف والجمارك بكوستي    وزيرا الداخلية والعدل: معالجة قضايا المنتظرين قيد التحرى والمنتظرين قيد المحاكمة    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الشان لا ترحم الأخطاء    والي الخرطوم يدشن أعمال إعادة تأهيل مقار واجهزة الإدارة العامة للدفاع المدني    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    مصالح الشعب السوداني.. يا لشقاء المصطلحات!    تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    دبابيس ودالشريف    حملة في السودان على تجار العملة    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التيجاني الطيب: مسؤول شيوعي وشيوعي مسؤول ..
نشر في حريات يوم 28 - 11 - 2011


[email protected]
(1)
حين يكتب صحفي في تصريح من التيجاني الطيب:صرح مسؤول في الحزب الشيوعي أو صرح مسؤول شيوعي؛يمتلكني الغضب الشديد. واسخط علي عدم جودة صياغته،لأنه في هذه الحالة عليه أن يكتب:صرح شيوعي مسؤول. فالتيجاني لا يعرّف باضافة المنصب أو الموقع في المؤسسة،فهذا إسم؛بينما امثال التيجاني يعرّف بالصفة والخصال علي رأسها المسؤولية والالتزام،وهي التي تميزه داخل الحزب،وليس موقعه أو مهامه الحزبية.فقد تحول الرجل الي قيمة ورمز يتجاوز الالقاب والاسماء المضافة.فهو علي مستوى الشخصية والكينونة يمثل الاتساق المطلق أو هارمونية الداخل والخارج أي تطابق البرانية والجوانية،المظهر والجوهر.
هذا هو تجسيد الانسان الذي قيل عنه :أنه يفكر كما يريد،ويقول كما يفكر،ويفعل ما يقول.وقد جعل من الحياة معركة إنسانية كبرى من اجل الحق والعدل والحرية.هذه معركة نبيلة ادعي كثيرون خوضها.لذلك المهم،كيف خاض(التيجاني)
معركته وماهي أدواته وكيف استخدمها طوال حياته العامرة؟ لم يكن يقسم سلوكه وافعاله الي تكتيك واستراتيجية، بل اكتفي بالاستراتيجة فقط.لذلك،لم”يتكتك” أو يناور أو يراوغ مع الناس، ولا في السياسة،ولا في الحزب،ولا في اليومي.والعجيب أن السرية التي لفت حياته كلها وحاصرته،خرج منها اكثر وضوحا وصراحة،وقاطعا في رأيه كالسيف،مبينا مثل الشمس.والسر في هذا الاتساق هو الصدق –كلمة سهلة وفعل كتجمير الذهب.يتحايل عليه البعض بتلوينه،لذلك سمعنا بالكذب الابيض.ولكن(التيجاني) لم يعرف الكذب مهما كان لونه،فالشيوعي الحق لا يكذب لأنه واثق من امتلاك المستقبل،ولأن الصدق مفتاح كل الفضائل الاخري.ومن مفارقات السودان الذي ضحك فيه القدر،حدوث أغرب عملية مقايضة في تاريخه.فقد أخذ( الاسلاميون)من الشيوعيون طريقة تنظيمهم الحديدي،واعطوهم اخلاق سلفهم الصالح من المسلمين.لذلك،نجد عند(التيجاني)ورفاقه،الصدق والعفة،ونظافة اليد،والاستعداد للتضحية والفداء،وايثار عمر بن الخطاب. أما(الاسلامويون)فهم يكذبون كما يتنفسون،ويدلسون،ويأكلون مال النبي(ليس مجازا بل حقيقية:هيئة الحج والعمرة).
يصنفه البعض ومن بينهم رفاق له بخبث،كشيوعي اصولي.ولكنه في حقيقته شيوعي أصيل،والفرق كبير بين الجمود،وبين الإمساك بالجمرة.فقد وهب عقيدته عمرا كاملا ،أكثر من ستة عقود؛فلابد من حدوث التماهي بين الاثنين:الحياة والفكرة.ويخفف كثيرون تقييمهم للشخصية بخبث أنعم بالصاق صفة”زول صعب” للتقليل من مكارم الالتزام الصارم.وكلمة “صعب” من قاموس اللؤم والخبث السوداني.فقد يراد بها”-متزمت أو مغلق أو عدائي أو بخيل أو متعصب أو شرس أو محرج.وكل هذه الصفات ليست لها أدني صلة باخلاق وقيم،نجح لئام وخبثاء الافندية داخل وخارج الحزب،في الصاق صفة”صعب” بالتيجاني،رغم أنه هين تستخفه بسمة الطفل،لمن حرص علي معرفة دواخله.وقد عرفت تلك الصفة ليس في الندوات ومن الكتابة.ولكن من صداقته لمظفر وخالد وبشري،والذين لا يبدأ أي عيد عندهم قبل أن يباركوا لعم التيجاني العيد.طقس يتوقعه ولا يفرطون فيه،وكأنه تميمة لفرحهم بالعيد.فقد يكون صعبا كفولاذ تصعب أن تثنيه عن المبادئ والقيم التي لا تهاون ومساومة فيها مثل الصدق والحزب والاشتراكية؛وما عداها فيه نظر.
يسهل (التيجاني)علي الباحث مهمته في اثبات وجود المثقف العضوي(غرامشي)والمثقف الكوني-التاوي،فالأول معروف لدينا وهو الذي يعبر ويندمج في طموحات شعبه وطبقاته الفقيرة،ويناضل من اجلها خلافا عن المثقف التقليدي الذي يعبر عن طبقات غير صاعدة.وهذا هو الرجل منذ نهاية اربعينيات القرن الماضي؛وامثال هذا موجود.ولمنه اكمل عظمته، وشموخه، وتميزه،بتحوله الي مثقف كوني أو تاوي/طاوي.فقد اراد أن يكمل جدارته الحزبية والسياسية باخري اخلاقية وانسانية.ويقدم(هادي العلوى) تعريفا رائعا للمثقف الكوني أو التاوي،بأنه ذلك الإنسان الذي يتخلي الخساسات الثلاث:الطمع في المال،والجنس،والشهرة مع السلطة.وقد صدق فهذه الخساسات هي سبب الرذائل كلها،لأن الطريق اليها يمر بالجبن،والكذب،وقبول الهوان.ولم تكبل (التيجاني)الخساسات الثلاث.فهو لم يسعي لامتلاك المال،لأنه يدرك أن المال هو الذي يملك المرء حين يحفظه ويحرسه،ويلهث خلفه.وهو مع زواجه الاسري،تزوج الشيوعية زواجا كاثوليكيا بلا فكاك،ولم يترك الحزب في قلبه مكانا لغرام أوعشق أخر.أما الخساسة الثالثة فلا تقرب من عاش تحت الأرض سنوات اكثر من التي عاشها علي ظهرها علنا.وقد كان حسن الحظ،إذ لم يكن له ملف أو فائل في أي مؤسسة حكومية أو خاصة للعلاوات والترقيات عدا ملف الأجهزة الأمنية.
( 2 )
تبدو هذه الشخصية أقرب الي المعجزة أو الملائكة،فهل يوجد ابن آدم واقعي بهذه الخصال؟وقد يدرج هذا الحديث ضمن:اذكروا محاسن موتاكم مع قدر من المبالغة أو أن يوم شكر(التيجاني)قد جاء،فيحق لنا أن نسرح ونمرح في المناحات والمدح بلا كابح أو رادع.لاتوجد أي مبالغة،وكل الذي يقال من صفات هي دون ذلك الرجل.ورغم أنني لم أكن صديقا شخصيا لصيقا له،ولكن هذا لا يمنع أن تدرك القيمة-الرمز التي تجبرك علي الاحترام والانصاف مهما كانت المسافة الفاصلة.وقد تكون في هذه الحالة اكثر موضوعية.فقد كانت تساؤلات تقلقني،مثل:كيف ظهرت مثل هذه الشخصيات في بلد مثل السودان يرزح تحت جبال من التخلف؟كيف كانت تنشئته وتكوينه؟من أين اكتسب هذه القدرة الاسطورية علي الصمود لرفع صخرة سيزيف التي تسمي السودان،وكلما ارتقي بها هو واصحابه درجات،جاء بكباشي أو عميد مهووس واسقطها في القاع مجددا؟وكيف لا تراوده ورفاقه وهم في شالا أو سواكن،لفحة يأس زغلولية:ما فيش فائدة؟
يمثل (التيجاني)جزءا من ظاهرة عامة هي:الشيوعيون السودانيون،وفي داخل الظاهرة حالة شديدة الخصوصية هي شخصه وشخصيته انتجتها شروط أن تكون شيوعيا عام1948 وفي السودان.شذوذ المكان والزمان ،هول التحدى وعظمة الاستجابة.كانت الجرأة الأقرب الي الجنون أن تخرج طليعة من الشباب تدعو للشيوعية،في بلد يرزح تحت الطائفية، وشبه الاقطاع،وذيول الرق،والفقر والمجاعات،والسخرة ونظام الشيل؛هذا علي المستوي السياسي والاقتصادي.أما اجتماعيا وثقافيا،مازال سائدا الختان الفرعوني،والشلوخ،ودق الشلوفة، والبطان.وتلبس النساء الرحط والقرقاب والكنفوس؛ويأكل الناس ملاح ام تكشو والجراد والفئران.ويتحدثون في مثل هذه المعطيات من الفقر والجهل والمرض أو الثالوث الذي يردده المثقفون؛عن الصراع الطبقي، وديكتاتورية البروليتاريا،والمرتد كاوتسكي،والمنشقة روزا لوكسمبورج.وهذا موقف شديد الالتباس،يراه البعض غير ماركسي لأنه غير عاكس للواقع.وهذا نقد غير دقيق،لأن الماركسية لا تقف عند تفسير العالم بل تغييره.بالتأكيد لا يحدث التغيير بالارادوية أي نتيجة ارادتنا الذاتية،ولكن هل من الممكن تسريع الثورة؟البعض يري أن الازمة الثورية في روسيا في اكتوبر عام1917،ناضجة تماما ولكن قدرات لينين والبلاشفة،كانت حاسمة.لم يقوموا ب” دفر” التاريخ الي الأمام،ولكنهم عظموا من دور الفكر والتنظيم في الثورة.هذا رأي ينفي عن الرواد الشيوعيين الاوائل الدونكيشوتية والتسرع،خاصة وأنهم لم يكونوا ينوون اقامة دولة شيوعية في هذا البلد المتخلف بل هم في حقيقة أمرهم ورغم تحرر وطني وتحديث.ولكن الطائفية والاخوان المسلمين ومعهم البريطانيون،في مرحلة تفاقم الحرب الباردة،تحالفوا في عملية خلق العدو:الخطر الشيوعي.وحولت القوى الرجعية والاستعمارية المعركة السياسية –الثقافية الي اخري دينية-عقدية لارهاب وعزل القوى الجديدة الصاعدة.وضمن هذا العداء والحصار تربي(التيجاني) ورفاقه وتم تعميدهم بالنار.ففي وسط هذا الجحيم كانوا يناضلون في قلب معركة الحداثة.تصور في مثل هذا المجتمع ركد طويلا وكأنه لم يغادر عام 1504حين اتفق عمارة دونقس مع عبدالله جماع.لقد اجترحوا مغامرة تأسيس المنظمات الحديثة:اتحاد نقابات السودان،الاتحاد النسائي،اتحاد الشباب،اتحادات المزارعين في الجزيرة وجبال النوبة نعم جبال النوبة.ومازلت حين أقرأ كتاب كامل محجوب:تلك الأيام،عن تأسيس اتحاد المزارعين في الجزيرة،شعرة جلدي تكلب.خاصة حين يحكي قصة القميص الواحد الذي يغسله بالليل ليلبسه الصباح.وهو الذي كان يمكن أن يكون افنديا ببدلة وبرنيطة.هذه هي تضحيات السلف الصالح والكادح،وقد كان التيجاني في قلب المدرسة أو المصهر للأسف،السودانيون دائما يبخسون اشياءهم.
(3)
تصاعدت حملة الرجعية الصليبية،وكانت تنوي التبكير بمسرحية شوقي محمد علي في معهد المعلمين العالي عام1965.ففي3/10/1954،نشرت صحيفة”الايام” الخبر التالي:-” أن منشورات قد وزعت في العاصمة وأرسلت لبعض الناس بالبريد تهاجم الدين الإسلامي وتنادي بحياة الشيوعية”.ونتيجة لذلك نظمت حملة في بعض المساجد،وطالب بعض الخطباء بهدر دم الشيوعيين.ولكن في ذلك الوقت بعض الحكماء في البلاد،قبل أن تغزو الانتهازية البلاد والاخلاق.فاسرع السيد عبدالرحمن المهدي بدرء الفتنة.وبعد أكثر من عشرين عاما تآمر اسماعيل الازهري،والصادق المهدي،وحسن الترابي،علي الديمقراطية وليس علي الحزب الشيوعي.فقد قاموا بطرد نواب انتخبهم مثلما انتخب من طردوهم.هنا كان اغتيال الديمقراطية الثاني،بعد التسليم والتسلم في 17 نوفمبر1958. وكانت سانحة لكي يرد عبدالخالق محجوب أصالة عن نفسه،ونيابة عن التيجاني الطيب وكل السلف المناضل.وكتب مقالا عنوانه:كيف أصبحت شيوعيا؟يقول فيه أنه بعد الحرب العالمية ومع صعود الوعى الوطني،انتطم مثل غيره من الطلبة المتحمسين في هذه الحركة علي أمل المساهمة في تخليص وطنه من النير الاستعماري.ويضيف:-”تحدوني حالة الفقر والبؤس التي كان ومازال يحس بها جميع المواطنين االمتطلعين الي مستقبل مشرق ملئ بالعزة والكرامة”.وتعلقت آمالهم علي زعماء الاحزاب ولكن هذه الآمال تضاءلت،مما اجبر الشباب علي البحث عن بديل لأن الزعماء-حسب رأيه-لا يحملون بين ضلوعهم نظرية سياسية لمحاربة الاستعمار.وهداه تفكيره الي النظرية الماركسية التي نشأت خلال تطور العلم.وعرج الي موقفهم من الدين قائلا:-”لم اتخذ الثقافة الماركسية لأنني كنت باحثا في الاديان،ولكن لأنني كنت ومازلت أتمني لبلادي التحرر من النفوذ الاجنبي(…)اتمني واسعي لإسعاد مواطني حتي تصبح الحياة في السودان جديرة بأن تحيا-ولأنني اسعي لثقافة نقية غير مضطربة تمتع العقل وتقدم البشرية إلي الأمام في مدارج الحضارة والمدنية.”ولهذه الغايات النبيلة وهب عبدالخالق والتيجاني ورفاقهم الآخرون،كل بطريقته، حيواتهم راضين.ليس في فكرهم صراع مع الدين والإيمان،بل ببساطة:جعل الحياة في السودان جديرة بأن تحيا!هذا هو المطلب والأمل حتي اليوم.
(4)
تبلورت الفكرة،ليبدأ (التيجاني)والكثيرون من رفاقه ملاحم الجهاد الأكبر،بعد أن أنجزوا الجهاد الأصغر:وضوح الفكرة والرؤية.وكانت البداية في مصر:نضال وغربة لشباب غض واخضر ولكن حديد الإرادة لا يرتضي بغير المستحيل بديلا.وكانت التجربة في مصر خصبة ورائعة،ومفعمة بالتحدي،معلمة ومثقفة(بكسر اللام في الأولي،وكسر القاف في الثانية).فمصر بلد أكثر تقدما وخبرة،فتعلم (التيجاني)ورفاقه من المصريين مع الشيوعية حب الحياة(العمل مصر كان في الأصل حلواني)،والصبر والمثابرة،واللعب بالبيضة والحجر مع الطائفية والرجعية والابتلاء الاخواني(كم قد قتلت وكم قد مت عندهم ثم انتفضت فزال القيد والكفن)،والانفتاح علي العالم والدنيا(هنري كورييل،الاغاريق،الأرمن،اليهود،الشوام).آمنوا بشعار وحدة النيل،فكانت مدرسة اخري في التضامن،والتضحية،والرفاقية؛يكتب(التيجاني) في شهادة عن الشيوعي المصري احمد رفاعي:-” إن الإيمان بمبدأ الكفاح المشترك بين الشعبين المصري والسوداني والإخلاص له،والعمل وفق مقتضياته من سمات الوطني الأصيل.تغيرت الظروف،ولكن ذلك المبدأ،وبدون أي تقليل من الالتزامات المستجدة،يبقي الحاجة الموضوعية لتحقيق أهدافهما ومصالحهما الثابتة”.(احمد رفاعي:يساري متميز، القاهرة، دار الثقافة الجديدة،2000:115).
كانت علاقات كفاح مشترك وليست مزارع مشتركة واستثمارات مفردة.وبالمناسبة(احمد الرفاعي)هو الذي رافق جثمان المناضل السوداني صلاح بشري من القاهرة الي عطبرة.ويحكي (رفاعي) عن رفيق الزنزانة،حين جاءه خبر وفاته:-” احسست بالمأساة،صلاح كان زميلي في مدة السجن..صلاح بشري ابن السودان،طالب الهندسة .. المريض بالسل..الممنوع عنه الدواء حتي يركع..صلاح المرح الذي يعيش في مصر كما كان في السودان.كل من رفاقه يناديه يازول.يضحك يرقص.يغني الالحان السودانية في بساطة ومرح..صلاح ابن عطبرة”.ويتذكر اكثر:-” ..ياللفظاعة لقد كان صلاح معي في السجن منذ مدة قصيرة. رأيته..وهو ينزف دائما من صدره..سمعته وهو يكح حتي يوشك صدره أن يتمزق.تذكرت معاركنا في السجن من أجل الوصول الي تركيب زجاج لمنع البرد في شهر يناير.اعتصامات في السجن من أجل السماح له بكوب من الحليب.وتذكرت..ادارة السجن وهي ترفض بحجة أن ذلك ليس مدرجا في اللائحة”. (ص130) وصلاح امتداد وصورة اخري للتيجاني وعبدالخالق،وصل بها الدهر الي مداه.وكان من الممكن أن يكون أيّ منهم صلاحا.فقد تعرض(التيجاني)في ذلك الوقت للسجن نفسه.ويقول(مبارك عبده فضل):-”…إنما كانت هناك ظاهرة ملفتة للنظر،هي انفراد تنظيم حدتو بوجود عناصر سودانية ضمن معتقليها في الهايكستب أذكر منهم:التيجاني الطيب،عبدالرحمن عبدالرحيم الوسيلة،عبده دهب،سوداني جنوبي كان اسمه:تيدي لاركث جيمس(؟)”.(كتاب: الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني-حدتو.القاهرة،دار الثقافة الجديدة،2000:20)وكان يتعرض لنفس المعاملة التي اودت بحياة(صلاح بشرى)ولكنه عاش من قل الموت-كما يقول الفلسطينيون.لم يكن موتهم سهلا،فهم الذين ينشدون قصائد كمال حليم في صلاح بشرى،مغرب كل يوم عند التمام:-
بين صخر وحديد واعاصير وسل
وقيود وسدود قتلوا منّا بطل
هذه هي مدارس(التيجاني)ويخطئ من يظن أنه تعلم الشيوعية في مدرسة الكادر فقط.هذه هي المعارف والتجارب الذي جعلت منه المثقف الكوني الذي ركل كل خساسات الدنيا وينافس اعظم الصوفيين دون أن يكون ممسكا بمسبحة أو مرتديا رقعة.فهو من فصيلة إنسان المستقبل:الشيوعي المسؤول، والسلف الصالح،والتاريخ اليقظ،وحلم البشرية الممكن منذ افلاطون:العدالة والحرية!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.