أعتقد أن الرسالة الأقوى لثورات الشعوب العربية، أو الربيع العربي، هي رسالة عنوانها الأمل والتحفيز، ويتلخص محتواها في أن أنظمة الاستبداد والطغيان هي مجرد «نمور من ورق». تقول الرسالة، إن هذه الأنظمة، مهما بلغت من القوة والجبروت، فلا بد أن تأتي لحظة تنكشف فيها هشاشة عظام بنيانها، وضعفها المهول لدرجة الدهشة الممزوجة بالغضب والحسرة من كيفية بقائها وصمودها كل هذه المدة! إنها اللحظة التي يقرر فيها الشعب رفضه الخضوع لحكم هذه الأنظمة، فيبدأ السير بخطى حثيثة وبعجلة تسارعية، في مسار جديد نحو المحطة الأخيرة في المشوار الأول، محطة التغيير. وأعتقد أن هذه اللحظة هي ما نشهده الآن في مسيرة حكم الإنقاذ. فنظام الإنقاذ، وعلى الرغم من نجاحه، وفق مبدأ التمكين، في السيطرة التامة على جهاز الدولة، واستخدامه كجزرة وعصا في علاقاته مع الأفراد والجماعات والأحزاب، ورغم محاولاته التستر بساتر البناء والتعمير من كبارٍ وطرق وسدود وشواهق، وساتر إغراق السوق بالسلع الاستهلاكية..الخ، إلا أنه فشل فشلاً ذريعاً في توطين نفسه مقيماً أصيلاً في كنف الحماية التي يبسطها الشعب السوداني على كل من يرضى عنه. وفي الحقيقة، كيف يرضى الشعب وهو الذي ظل، طيلة عمر الإنقاذ، لا يجد ما يستر به حاله، سواء على الصعيد الخاص عندما نفر منه الأمن والأمان، ولم يشعر بأي انفراج معيشي فاستوطنته الفاقة وحاصره المرض والجوع، أو على الصعيد العام، عندما افتقد السلام، واختنق برائحة الفساد، ولم ير أي نمو اقتصادي حقيقي يستوعب الشباب والكفاءات، ويفجر موارد البلاد لصالح شعبها؟ لفترة طويلة، وحتى اللحظة الراهنة، ظلت الإنقاذ تتفنن في الاستفادة من كل الأحداث التي مر بها الوطن، بل هي تفتعل بعضها افتعالاً، وتستخدمها كآلية لتمتين حكمها وإحكام سيطرتها على مقاليد الأمور في البلاد. مثلاً، في زمن الحرب الأهلية في جنوب البلاد رفعت الإنقاذ شعار «الدفاع عن الوطن ضد التمرد» لتكسب بعض دعم الجماهير. وعندما توقفت الحرب، نصبت نفسها بطلا للسلام، لتكسب دعم بعض الجماهير. وبعد انفصال الجنوب وتأسيس دولته، واشتعال الحرب الأهلية في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، استخدمت الإنقاذ شعارات التخويف من الخطر الداهم على العروبة والإسلام، ممزوجة بخطاب يفاقم حالة التوتر العرقي في البلاد. لكن اليوم، لم يعد وارداً أن تتعيش الإنقاذ على حساب ردة فعل الشعب الأولى تجاه الأحداث الجسام التي تواجه البلاد، فهذه البضاعة كسدت تماماً. فلقد انحبست الدموع في مآقي الشعب السوداني وهو يتساءل: إلى أين تسير هذه البلاد؟!. وبات يرقب المشهد السياسي، لا من موقع المراقب السلبي، وإنما من موقع من لم يعد تنطلي عليه لعبة تأجيل المطالبة بحقوقه بسبب تلك الأحداث الجسام التي تواجه البلاد، فاندفع متحركاً من أجل انتزاع حقوقه، وبوصلة حركته تشير إلى أن السياسات المتسببة في تلك الأحداث والانفجارات التي تواجه البلاد، هي ذات السياسات المتسببة في هضم حقوقه. ومن زاوية أخرى، ظل الرادار الشعبي يرصد ويسجل بدقة ما يدور في داخل حزب المؤتمر الوطني ووسط النخبة الحاكمة، من مشادات وانتقادات، أو ملاومات بلغة اجتماعات الحزب الحاكم، وصلت حد الاتهامات المتبادلة وحد تسريب قصص الفساد والاعتداءات على المال العام في محاولة من البعض لتبرئة أنفسهم وتحميل المسؤولية للبعض الآخر، كما وصلت حد حرب المذكرات من قواعد وقيادات الحركة الإسلامية المطالبة بالتغيير. والرادار الشعبي لم يكتفِ بالرصد والتسجيل، وإنما أخضع نتائجهما لتحليل دقيق توصل بموجبه إلى نتيجتين مهمتين: الأولى، تفاقم أزمة النظام الداخلية من جراء اشتداد حدة التضارب في مصالح النخب الحاكمة، والتي تنعكس في التضارب في السلطات والتخصصات والأفعال بين مؤسسات الدولة المختلفة، مما يؤكد فعلا أن الإنقاذ بدأت تنهش في لحم بعضها البعض. والنتيجة الثانية، ماذا لو أن هذا التناقض وهذا التضارب بين نخب ومجموعات النظام المختلفة، وصل حد الاصطدام؟ ألن يكون مخيفاً جداً، مثلا لو أخذ كل من هذه المجموعات يستعين ويستقوى بهذا القسم أو ذاك داخل مؤسسات الدولة المسلحة، أو داخل مليشيات الدفاع الشعبي أو مليشيات الحركة الإسلامية، أو المليشيات القبلية؟! صحيح أن الإنقاذ لم تقف ساكنة، بل بادرت بتحرك واسع في إطار خطة مرسومة، تضمنت إجراء بعض الإصلاحات، والتي في نظرنا مجرد تغييرات شكلية، وذلك بهدف تهدئة النفوس وتفويت الفرصة على دعاة التغيير وثورة الربيع السوداني. وبدأ تنفيذ الخطة باللقاء التلفزيوني للسيد رئيس الجمهورية، والذي حاول من خلاله توجيه عدد من الرسائل منها: 1/ نفي وجود أزمة في البلاد، ولكنا نواجه مشكلات وتعقيدات اقتصادية مفروضة علينا، ليس من السهل علاجها، وما على الشعب إلا الصبر. 2/ لا كبير على القانون وعلى الانتقاد، ولكن عندما شرع البعض في التوغل داخل ملفات الفساد، ووجه بسلاح الاعتقال وإيقاف الصحف. 3/ رسائل تحذير ووعيد إلى المعارضين وأصحاب المذكرات داخل المؤتمر الوطني، وإلى الولاة الذين يحاولون «التطاول وعمل بطولات» على المركز، وتذكيرهم بأن الذي اختارهم فعلاً في مناصبهم هو المركز وليس الانتخابات!! 4/ رسائل بإيقاعات طبول الحرب موجهة إلى دولة الجنوب بعد اتهامها بدعم المتمردين على الدولة.. وإلى غير ذلك من الرسائل. أما بقية بنود الخطة، فمن ضمنها: - إحلال وجوه جديدة في بعض المواقع القيادية الرئيسة لحزب المؤتمر الوطني في محاولة لإضفاء صفة التجديد والرد على المطالبات بتغيير الوجوه القديمة. ونحن لا ندري، ولا يهمنا، إن كان هذا الإحلال سيشفي غليل أصحاب المذكرات داخل الحزب، لكننا نتساءل مع السائلين: ما هي صلاحيات هذه الوجوه الجديدة في التعامل مع ملفات الحرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، ملف دارفور، العلاقة مع جمهورية جنوب السودان، محاربة الفساد، ملف التمكين والتحرير في الخدمة المدنية.. وغير ذلك من الملفات الشائكة والمتشابكة مع أزمة الوطن؟ - من على منبر تلك المناسبة الخاصة في قرية الشبارقة، عبر السيد رئيس الجمهورية عن تصميم الإنقاذ على إعادة تأهيل مشروع الجزيرة، ودعمه بقوة في ذلك، وفي ذات المناسبة، السيد والي إقليم الجزيرة! مشروع الجزيرة الذي كان يعد أكبر مشروع مروي تحت إدارة واحدة في العالم، والذي كان، حتى العام 1989، ناجحاً ورافدا ومغذيا للدخل القومي، وفي نفس الوقت سبباً لمعيشة مزارعي وأهل الجزيرة، قبل أن توسعه أيادي الإنقاذ تخريباً وتمزيقاً، فتقتل الحياة في عيونهم. وفي نفس الوقت الذي كانت تتوالى فيه الوعود المنثورة في تلك المناسبة الخاصة، كان طلاب كلية التربية بجامعة الجزيرة، ومعظمهم من أبناء المشروع، يتظاهرون في مدينة الحصاحيصا، معتبرين تلك الوعود مجرد بالونات هواء، وتخوفاً من أن تكون دعوة إعادة التأهيل تلك بداية لاستكمال خصحصة المشروع وتسليمه للمستثمر الأجنبي، ليواجهوا بعنف شرس، نسف كل الإدعاءات حول وجود الحريات وحق التعبير! وكان العنف الذي ووجهت به مظاهرات الطلاب، مفرطاً لدرجة أن عدداً من الطلاب فضل القفز في «الكنار» على الوقوع في يدي الشرطة!! - فجأة انتابت كل قادة الإنقاذ حمى الحديث عن محاربة الفساد، بل والتلميح بمفسدين وفاسدين من داخل المنظومة نفسها. ولكن، بذات الفجاءة، جاءت إشارات الاعتقال وإغلاق الصحف إلى أجل غير مسمى!! - ارتفعت الأصوات معلنة جدية محاربة الغلاء، وإنعاش التعاونيات، وفتح مراكز البيع المخفض، ولكن لم يكف الدولار عن التقافز بعيداً عن إمكانية المواطن، وهو يمد لسانه للبائع والمشتري. - المناقشات التحضيرية للمؤتمر القومي للتعليم، تتم داخل الغرف المغلقة، وفي نفس الوقت لم تمنع فضيحة صندوق دعم الطلاب مع طلاب داخلية الوسط بجامعة الخرطوم، لم تمنع تكرار فضيحة أخرى بمبيت أكثر من «150» طالبة جامعية من جنوب كردفان في العراء جوار مقابر حمد النيل بأم درمان. - كتائب جبهة الدستور الإسلامي تتنادى، ولهيب المعارك يشتد في جاوا وبحيرة الأبيض في جنوب كردفان! ونحن نقول «يا أيها الناس، الدستور عقد اجتماعي، ولا يمكن أن يبرم عقد اجتماعي على أسنة الرماح»!! - بعد وضع العراقيل المالية أمام الصحف واسعة الانتشار، بما في ذلك حجب الإعلانات، فيعجز أصحابها عن الإيفاء بمتطلبات التكلفة العالية، يتدخل المؤتمر الوطني من وراء حجاب ليلعب دور المأذون الشرعي في زواج المال والإعلام، فيتوالى بيع وشراء الصحف، حتى تنعقد السيطرة كاملة لحزب المؤتمر الوطني وسدنة الإنقاذ، في محاولة «لتقفيص» الرأي الآخر. تلك كانت بعض بنود خطة الإنقاذ في إنقاذ رقبتها من ثورة التغيير، فهل يا ترى ستنجح، أم ستأتي الخطة بنتائج عكسية تصيبها في مقتل؟ وبغض النظر عن حقيقة وجود هذه الخطة، أو أنها من بنات خيالنا، فإن الأسئلة المركبة التي يطرحها الجميع كل صباح ومساء، تظل باقية: إلى أي مصير تُساق هذه البلد؟ ولمصلحة من؟ وهل يمكن السكوت أكثر من ذلك؟ وأليس هنالك من مخرج؟ وما هو دور المعارضة؟ وأين المبادرات الشعبية؟ وكيف يكمن التصدي لسؤال وقف الحرب، وقف الحرب الأهلية في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ودارفور، ومنع اندلاع الحرب بين الدولتين؟ وقبل ذلك كله، كيف يمكن لنمر من ورق أن يصمد؟ وغير ذلك من الأسئلة التي يجب أن تطرح ويجب أن نقول نحن إجاباتها، وهي في تقديرنا أسئلة متعددة لأزمة واحدة اسمها بقاء نظام الإنقاذ في الحكم!! ومن جانبنا، سنواصل تقديم مساهمتنا في الإجابة عن هذه الأسئلة في المقالات القادمة.