المرحوم محمد عثمان عكر زوج خالتنا السيدة، من الرعيل الأول الذي ارتبط بمرفق السكة الحديد وجاب معه بلاد السودان بطولها وعرضها..محطة.. محطة .وبلدة بلدة…السميح ود عشانا ..الخ..وأيضا كانت تجمعه علاقة عاطفية بالحزب الشيوعي السوداني منذ بواكير حياته..وبلغ حبه له أن أطلق أسماء أبناءه على مشاهير وعظما ء الحزب.. أمثال عبد الخالق محجوب والشفيع احمد الشيخ عليهم رحمة الله ..كنت في زمن الدراسة في الجامعة في رمضان أو الأعياد اشد الرحال الى مدينة كوستي لأقضي معهم إجازة العيد…بعد أن استقر بهم المقام هناك..واذكر انه كانت تدور بيني وبينه سجالات حول الاشتراكية والحزب الشيوعي وحول مدلول تسميته..كنت عندما أناقشه في جدوى تغيير اسم الحزب حتى يلقى رواج جماهيري ،تثور ثائرته ويعتقد أن كل ما يتعلق بالحزب مقدس ولا يتغير أبدا..بل كنا عندما نجلس بعد الإفطار الرمضاني في الشارع مع بعض رفاقه القدامى واستمع الى أحاديثهم ذات الشجون حول مسيرة الحزب أو تساقط الرفاق وسقوط بعضهم وخفة اليد الثورية ..وعن النقل النهري ولد عم السكة الحديد لزم..ويدور الجدل الصاعد عن تدهور هذه المرافق الحيوية المستمر عبر الزمن ..أجد أن هؤلاء السودانيين البسطاء الذين كدحوا في هذه المرافق الحيوية منذ الاستقلال، لم يقدم لهم الحزب شيئا، سوى شحنهم بالسياسة والكراهية ..حيث لم يتطور هذا المرفق كما ونوعا إلا في زمن نميري وعبود. ظلوا يعملون بجد وإخلاص ورثوه من الانجليز ويدفعون صخرة سيزيف في انتظار المدينة الفاضلة التي لم تأتي أبدا..وحولتهم الايدولجيات الوافدة وبضاعة خان الخليلي إلى بوكسر وبنجامين ،كائنات انيمال فارم المسكينة..العم عكر رجل صعب المراس ..وصادف مجيئي لهم في كوستي عمل انجاز هام في البيت الذي اكتمل حديثا آن ذاك وهو إدخال الكهرباء..وطبعا هذا العمل كان في الزمن الجميل..مهمة إقناع العم عكر كانت مهمة الوفد الزائر..وهو يكن لي احترام استثنائي،لأني أجيد التعامل مع الكبار من أهلنا وتجاوز عنادهم بهدوء..استيقظت باكرا في رمضان واستلمت أوراق المنزل واستيقظ العم عكر ليجدني قابع أمامه في أبهى حلة لمشوار الكهرباء..ازعن للأمر وخرجنا سويا إلى الإدارة المركزية للكهرباء والمياه،لم يكن الأمر يستغرق الإنسان ماديا ولا معنويا ولا جمرة خبيثة ولا تشتري العمود ولا العداد..كل ذلك تأتي به حكومة ثورة مايو الاشتراكية ..قدمنا أوراقنا في العاشرة صباحا..وفي نفس اليوم ليلا كان البيت يسبح في الأضواء.. وأدرنا التلفزيون والثلاجة… وبعد كل هذه السنين والمياه التي مرت من تحت الجسر، جاءني نبا وفاته المحزن بعد أن أقعده المرض سنين عددا..عبر أثير التلفون البارد ..وأنا في هذا الركن الرشيد..اتامل أحوال البلد الذي خبث ودخل مرحلة(لا صحينا عاجبنا الصباح ولا نمنا غتانا العشم) كما انشد الراحل الشاعر عمر الطيب الدوش…وتيبست مفاصل وعروق السودان ومات مرفق السكة الحديد وابن عمه النقل النهري وشاخت المدن التي تحييها هذه المرافق ،عطبرة و كوستي بل تساقطت أطراف الوطن كمريض الجذام .. مات العم عكر كما تموت النسور..بعيدا عن أريج نسمات الشمال والرمال والنخيل..وجبل البركل العظيم حيث أجدادنا الخالدين..وانطفأ ذلك البريق عن عينيه النافذتين التين كانتا تلمعان ذكاءاً.. رحل وعرجت روحه الطاهرة إلى السماء ودفن في مدينة يضجر من نفسه فيها الضجر..كان موظفاً في السكة الحديد..ليس له أدنى علاقة بنظرية(الدجاجة والريش.).التي يروج لها اليسار البائس منذ أمد بعيد..كحالة من حالات جلد الذات..ومحاولة يائسة لتحريم البيع والربا معاً كما قال نبيهم ماركس العظيم…لم يوطنوا هذه الأفكار لتناسب النفوس الذكية لعامة الناس…وجعلوهم عالقين في متاهة صراع المركز والهامش لعقود مع احزاب المركز المتخشبة ..حتى قيض الله للسودان نبي جديد..ظل يردد”أنا عايز أحرر الناس من شنو وليس من منو”دون أن تعقل حكمته المتجلية وبرنامجه الاشتراكي الحقيقي “السودان الجديد” أذن واعية، حتى رحل بدوره مأسوفاً عليه …الحقيقة المرة التي لا يريد أن يتصالح معها الجميع ونحن في القرن الحادي والعشرين أن الحزب الشيوعي هو أيضا إصر وقيد من تلك الأغلال التي كبلت أعناق الكثيرين في السودان القديم ولا يزال .. فعلاً لا يصلح العطار ما أفسده الدهر..فهل يا ترى كائنات مرحلة الوعد الحق و الفجر الكاذب في السودان والعالم الثالث الإسلامي هم الإخوان المسلمين فقط؟!!…