مداخلة فى ندوة الدوحة 22-24 سبتمبر2012 ………….عناق الآخر: تجارب عالمية عطا الحسن البطحانى ……………. جامعة الخرطوم ………… لماذا تنجح بعض المجتمعات؟ أعتقد ان السؤال الكبير الذى يصلح كمدخل للنقاش هو: لماذا تنجح بعض المجتمعات فى مصالحة ذاتها وفى عناق الآخر (الآخر الداخلى والآخر الخارجى)، ولماذا تفشل مجتمعات أخرى فى مصالحة ذاتها وتفشل فى معانقة الآخر؟ وما هى الدروس التى يمكن استخلاصها فى كلا الحالين بالنسبة لنا فى السودان؟ لن أتحدث عن السودان، لأن ذلك هو موضوع الجلسة القادمة. قبل الإجابة على السؤال الذى طرحته فى البداية، أريد إبداء ملاحظة حول العنوان “عناق الآخر”. جاء العنوان معبرا عن حمولة ضخمة من العواطف والمشاعر، وأنا بالطبع لست ضد المشاعر، ولكنى أريد تحييدها (فى العنوان) ليسهل التعامل معها، فقبل كل شىء تجىء المعرفة: معرفة الآخر موضوعيا ومنطقيا. فالشخص لا يعانق من لا يعرفه هكذا بدوى هدى، والا لظنت به الظنون. أى المعرفة قبل العناق. جدلية الذات – الآخر. ومعرفة الآخر تستحيل بدون معرفة الذات. ومعرفة الآخر لا تتأتى قبل معرفة وفهم الذات، والذات لا تعرف الا بالعلاقة بالآخر: نحن وهم؟ ومعرفتنا بذاتنا تدخل فى مجال تحديدنا لهويتنا. وكما يقول على حرب: ” فإن الهوية إذاً تميزنا عن الآخر من جهة، فإنها تقربنا من جهة أخرى. فليس من شرط الهوية نفي الآخر أو إقامة سد يمنع الحوار بين الأنا والعالم”. (علي حرب، التأويل والحقيقة). هل الهوية تنفى الآخر؟ أم تقرب من الآخر؟ للإجابة على هذا السؤال، يمكن القول إن العلاقة مع الآخر لا تقوم فى فراغ، بل فى إطار سياق تاريخى تحكمه معطيات – بعضها محفز وايجابى وآخر سلبى، لكن فى كل الأحوال ذلك يتوقف على ديناميكية المعطيات البيئية، والثقافية، والدينية، والسياسية، والاقتصادية، وغيرها من مؤثرات. فأحيانا تذهب هذه المعطيات فى اتجاه تحويل الآخر الداخلى لآخر خارجى (مثال السودان وجنوب السودان بعد الاستفتاء والانفصال) وأحيانا تذهب فى اتجاه ضم الآخر الخارجى لآخر داخلى (مثال الاتحاد الاوروبى). معطيات تحديد/صياغة الهوية لا يوجد قانون حديدى يقول بعمل هذه المعطيات فى اتجاه معين دون الآخر. فهناك من يقول بأن المذاهب السياسية أو الدينية أو العرقية – العنصرية القائمة على بنية ثنائية تمثل مصدرا وجدانيا أكثر ميلا أقل احتمالا للآخر، لأن المنطق عند أصحاب هذه المذاهب هو العمل الدؤوب (بشتى الوسائل) على تحويل الآخر باستيعابه وضمه لهم ليس عناقا إنما انصهارا!! حركة التاريخ ونجاح المجتمعات منطق التاريخ فى بناء الأمم يقول إنه لا بد من وجود مركز يتحلق حوله آخر. كيفية تشكيل المركز لذاته (المستوعبة او الإقصائية) تحدد كيفية التعامل مع الآخر الداخلى والآخر الخارجى فى سياق واقع أو المعطيات التى تحيط بالمجتمع. كما جاء أعلاه، لا يوجد قانون حديدى يقول بعمل هذه المعطيات فى اتجاه معين دون الآخر. Not deterministic but contingent ، ومع ذلك يمكن القول إن هناك مجتمعات نجحت فى لم شملها، وعانقت آخرها، وتقدمت، عندما نجحت فى تجديد شروط حياتها المادية والروحية بطريقة استيعابية، ودون إقصاء لأحد من أطرافها، والأخرى لم تنجح لأنها ارتكزت على هيمنة واحدة من مكوناتها واستبعدت بعض أطرافها. عوامل النجاح باختصار شديد يمكن حصر بعض عوامل النجاح فى: 1. وجود درجة عالية من الانسجام أو التطابق بين أنشطة المجتمع المتصلة بالإنتاج، وتجديد سبل معاشه، والدفع بحيويته للأمام (أنشطته الاقتصادية والانتاجية)، وبين مؤسساته المتصلة باتخاذ القرار فيما يحدث له وبصورته عن نفسه (النظام السياسى). هذه معادلة لم تنجح بعض المجتمعات فى حلها. هذا باختصار الآن ولكن أرجو ان تتاح لى فرصة مستقبلا لأفصّل فى هذا الموضوع. 2. مركز ديناميكى ومفتوح يجد فيه الآخر الداخلى نفسه، وفوق ذلك مركز يقبل التجديد ولا يهاب إعادة التأسيس – تحت ايا من المشاريع الوطنية المتنافسة – إذا كان ذلك يصب فى دفع حركة المجتمع بأكمله للأمام. 3. وجود قيادات تتمع برؤية وبنظرة بعيدة المدى لمستقبل مجتمعها، ولها من القدرة الشجاعة لاتخاذ مواقف تصالحية تشكل جسرا للعبور للآخر. المثال هنا المهاتما غاندى، ومانديلا، ومهاتير محمد. نكرر هنا، ومع إقرارنا أنه من الصعب الخروج بقانون معين يحدد متى تتوفر شروط عناق الآخر ومتى لا تتوفر، إلا أنه من الممكن التأكيد على الأهمية البالغة لجود قيادات ملهمة، وذات رؤى بعيدة ساعد على تجسير الهوة بين الذات والآخر. ماذا تقول التجارب العالمية 1. أثبتت الحرب الأهلية فى الولاياتالمتحدة أن هناك أساسا اجتماعيا- ماديا لمصالحة الذات والسلم الداخلى. فنهاية الحرب حملت معها حزمة مصالح للشمال الصناعى وأيضا مصالح للجنوب الزراعى أعمته عنصريته فى رؤيتها فى بادىء الأمر. فتحرير طبقة العمال المستعبدين رقيقا فى مزارع الجنوب وانتقالهم كبروليتاريا صناعية فى الشمال يساعد فى تطوير الصناعة فى الشمال وهذه بدورها تؤدى لتقنيات تعمل – مع عوامل أخرى – على مضاعفة الإنتاجية الزراعية فى الجنوب. وهكذا كل الأطراف تكسب من إحلال السلام ومصالحة الذات ومعانقة الآخر الداخلى. 2. فى بعض دول امريكا الجنوبية، قايضت الأنظمة السلطوية التنازل عن السلطة بالعفو عن قياداتها. لا تزال قوائم الأشخاص مجهولي المصير تنتظر إجابة فى بعض الدول. لكن العامل المهم هنا هو حصيلة الحكم السلطوى والعسكرى – أى ماذا يترك وراءه بعد إزاحته من السلطة؟ بعض تجارب هذه الأنظمة تركت انطباعا أنه وبرغم كارثية تجاربها إلا أنها تساهم فى تكوين أو دعم مؤسسات وبناء كوادر فنية تسهل عملية الانتقال من مرحلة التلسط والاحتراب لمرحلة السلم والديمقراطية. أى ان ارثها يعمل – على الاقل – فى اتجاه الطرف الأول للمعادلة التى وردت أعلاه فى عوامل النجاح، وما يتبقى من الطرف الثانى من المعادلة يشكل أجندة عمل لمرحلة الانتقال وما بعدها. 3. تجربة جنوب افريقيا تحمل كثيرا من المعانى والدلالات. ثلات نقاط فى عجالة: - إن كان هناك من إيجابية لتجربة الفصل العنصرى فهى قد نقلت مجتمع جنوب افريقيا نقلة تاريخية: من مجتمع تقليدى زراعى رعوى إلى مجتمع صناعى متقدم. وجاءت هذه النقلة فى اتجاه حركة التاريخ، أى نقلة للأمام، على الأقل من ناحية بناء القاعدة الاقتصادية الحديثة القائمة على الترابط العضوى بين مكونات المجتمع (نمط التنمية الرأسمالية الذى يربط بين رأس المال والعمل). - استعداد المركز للانفتاح واستيعاب الآخر تحت مشروع “جنوب افريقيا غير العنصرية وحقوق المواطنة “. ساهم التراضى بين قادة المجتمع (داخل جنوب أفريقيا وخارجها) فى خلق وتكوين رأس مال سياسى ورمزى وظف بمهارة فائقة لتفادى النزاع والاحتراب، وتطمين الأطراف المتوجسة من المصالحة. وتركت تجربة تراث ثر من “الحقيقة والمصالحة” والعدالة الانتقالية، وأظن أن هناك فى هذا الاجتماع من هو أقدر منى فى الحديث عن هذه المواضيع. - وجود حراك سياسى فى مناخ مفتوح مهد الطريق لبناء كتلة تاريخية قادت عملية “التسوية التاريخية البناءة” ولعب فيها حزب المؤتمر الوطنى الأفريقى بقيادة مانديلا دور الدينمو والمنظم لحركة الانتقال من النظام القديم للنظام الجديد. يعزى نجاح حزب المؤتمر الوطنى الأفريقى بقيادة مانديلا للتسامح والرغبة فى عناق وضم الآخر (والعفة عند المغنم) من خلال برنامج استيعابى وليس إقصائيا: اذ شكل برنامج حزب المؤتمر الوطنى الأفريقى القاسم المشترك الأعظم للقوى السياسية الفاعلة، وطرح البرنامج باعتبارانه ليس موجها ومستهدفا قوى سياسية/اجتماعية/قومية/ثقافية بعينها، إنما هو موجه لممارسات وسياسات وقناعات شكلت واقعا سياسيا/اجتماعيا/ثقافيا ثبت عجزه وفشله، وبهذا المعنى فبرنامج حزب المؤتمر الوطنى الأفريقى أصبح أقرب للمنبر الجامع والمؤسس للحد الادنى لمشروع وطنى للجماعات المحافظة، وللقوى صاحبة المصلحة فى التغيير على السواء. بعض الدروس والعبر الكل لابد ان يكسب من العناق – حتى اون كانت مصالحة بعدالة، أو مصالحة بدون عدالة. justice with reconciliation or justice without reconciliation لا بد من الإشارة هنا الى المردود المادى (الاقتصادى، الخدمات الأساسية ) الذى يتوفر لأطراف النزاع خاصة تلك المهمشة والمتضررة فى مراحل الصراع الداخلى. أى فى العناق لا يكفى الجانب العاطفى، بل لا بد من استيفاء جانب المصالح الاقتصادية والخدمية والتنموية. رأس المال الرمزى وتقنية العناق: لكل مجتمع ذاكرة مؤسسية تحفظ سبل حل النزاعات فى الماضى وتتجسد فى تقاليد وقيادات محلية وطقوس من المفيد مراعاتها أو على الاقل الاستفادة منها فى مرحلة الانتقال من الحرب للسلام. هذا بالطبع جنبا لجنب للطرق العلمية والمهارات الحديثة التى طفحت بها تجارب المجتمعات الناحجة. ليس هناك روشتة جاهزة للعناق – عناق الآخر: على كل مجتمع أن يجد طريقه ويفك شفرة عناقه للآخر ليواصل مشواره فى تجديد قواه الحيوية والسير فى اتجاه حركة التاريخ المتقدمة دوما للأمام.