شاهد بالفيديو.. مشجعة المنتخب السوداني الحسناء التي اشتهرت بالبكاء في المدرجات تعود لأرض الوطن وتوثق لجمال الطبيعة بسنكات    شاهد بالفيديو.. "تعب الداية وخسارة السماية" حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي ترد على معلق سخر من إطلالتها قائلاً: "لونك ضرب"    مدرب السودان "كواسي أبياه": مواجهة غينيا الاستوائية ستكون قوية… واللاعبون قادرون على تجاوز الصعاب    تحولا لحالة يرثى لها.. شاهد أحدث صور لملاعب القمة السودانية الهلال والمريخ "الجوهرة" و "القلعة الحمراء"    الجيش في السودان يصدر بيانًا حول استهداف"حامية"    الخرطوم وأنقرة: من ذاكرة التاريخ إلى الأمن والتنمية    رقم تاريخي وآخر سلبي لياسين بونو في مباراة المغرب ومالي    مطار الخرطوم يعود للعمل 5 يناير القادم    شرطة ولاية القضارف تضع حدًا للنشاط الإجرامي لعصابة نهب بالمشروعات الزراعية    مصر تؤكد دعمها الكامل لوحدة وسيادة الصومال    استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وراء تزايد تشتت انتباه المراهقين    بدء أعمال ورشة مساحة الإعلام في ظل الحكومة المدنية    ما بين (سبَاكة) فلوران و(خَرمجَة) ربجيكامب    ضربات سلاح الجو السعودي لتجمعات المليشيات الإماراتية بحضرموت أيقظت عدداً من رموز السياسة والمجتمع في العالم    قرارات لجنة الانضباط برئاسة مهدي البحر في أحداث مباراة الناصر الخرطوم والصفاء الابيض    غوتيريش يدعم مبادرة حكومة السودان للسلام ويدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    نيجيريا تعلّق على الغارات الجوية    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    لاعب منتخب السودان يتخوّف من فشل منظومة ويتمسّك بالخيار الوحيد    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هو الطوفان إذن! من كتاب “المثقف وعقدة العصاب الأيديولوجي القهري(8)
نشر في حريات يوم 29 - 12 - 2012


عزالدين صغيرون
حروب عادلة
* ” يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية ، أو ميتافيزيقيا ، بحد السيف إن لزم الأمر..
يجب أن نقاتل من أجل التنوع ، إن كان علينا أن نقاتل..
إن التماثل النمطي كئيب كآبة بيضة منحوتة. ”
لورنس دوريل رباعية الإسكندرية
الجزء الثاني- بلتازار
تعليمات سماوية بالقتل
*”نحن لم نذهب إلى الفلبين بهدف احتلالها ، ولكن المسألة أن السيد المسيح زارني في المنام ، وطلب مني أن نتصرف كأمريكيين ونذهب إلى الفلبين لكي نجعل شعبها يتمتع بالحضارة ”
الرئيس الأمريكي ويليام ماكينلي
يخاطب شعبه عام 1898م مبررا غزو الفلبين.
هذا هو مفتاح الحل إذن : بأن يعاد إنتاج نظام الإنقاذ الإسلاموي “بدمج المعارضة في النظام السياسي” أي في ذات “النظام السياسي” القديم ، ولكن أي معارضة هذه التي يمكن أن يدمجها نظام الإنقاذ في نسيجه؟.
بالطبع لا يمكن أن تكون هي قوى اليسار والليبراليين وكل القوى التي تتناقض مع الطرح الأيديولوجي الإسلاموي، هو إذن اصطفاف منطقي لقوى اليمين الدينية، حزب الأمة والاتحادي/الختمي والإخوان المسلمون بكل طوائفهم (جماعات صادق عبد الله عبد الماجد والترابي وأنصار السنة وفلول العلماء وبعض الطرق الصوفية التي تقف على أعتاب الساسة) وبعض القيادات القبلية في وسط وشمال السودان.
فهل اصطفاف هذه القوى كفيل بتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي ووقف نزيف الدم في السودان، وبناء دولة سودانية حقيقية؟.
لقد “كانت أهم مزايا نظام الإنقاذ أنه طرح فرصة حقيقية لتطوير نظام سوداني جديد يخلو من نقائض الاستقطاب الطائفي والعرقي والجهوي، بينما كانت عيوب الأحزاب الطائفية المعروفة تتضاءل أمام تمسكها المبدئي بالديمقراطية، كما قال الأفندي محقاً، لأن ” هذه الفئة جاءت من خارج النخبة التقليدية. وبالفعل فإن النخبة الإنقاذية أتت من الهوامش المتعددة للسودان: من دارفور ومن جبال النوبة وجيوب الفقر في الشمال والشرق والوسط. كانت الحركة الإسلامية التي جاءت بهؤلاء، قبل أن تجتاحها جائحة الإنقاذ، وعاء يجمع بين منتسبيها على أساس الكفاءة والعطاء، بدون سؤال عن نسب أو قبيلة. وقد رفع الله بفضلها قوماً ما كانت تتسع لهم مواعين النخب التقليدية. ولكن القوم ما أن توسدوا السلطة حتى نسوا كل ذلك. كانت البداية إعادة إدخال القبلية كأداة للتصنيف والتجييش. ثم تم إدخال الطبقية، حيث ضم قادة النظام وكبار أنصاره أنفسه إلى طبقة كبار الرأسماليين قبل أن يتوحدوا مع بقية المتمولين الذين أصبحوا يدخلون في المؤتمر الوطني أفواجاً. والآن فإن مسك الختام كان إعادة الطائفية إلى قلب السياسة عبر تعيين أشخاص في مناصب عليا بدون مؤهلات سوى النسب.
وفيما يتعلق بالاتحاديين فإن التصالح مع النظام هو تتويج للتحالف الرأسمالي، إذا أن كثير من أنصار الحزب من الرأسماليين قد انضموا إلى النظام سلفاً. كانت هناك فرصة في السودان لاستباق ربيع الثورات العربية ببناء نظام ديمقراطي ذي مرجعية إسلامية، يتخطى الطائفية دون أن يصادمها، ويوحد قبائل وأعراق السودان كما وحدتهم الحركة الإسلامية، بدلاً من أن يضرب بعضهم بعض، ثم يكون حرباً عليهم جميعاً، من المناصير شمالاً إلى النوبة جنوباً” (29).
ولكن هذا الذي يرجوه الأفندي لم يحدث، وما كان يمكن أن يحدث، لسبب بسيط، وهو أن المشروع الاسلاموي في أساسه كان مشروعا نخبويا أقرب إلى المافوية منه إلى الوعاء الوطني الشامل الجامع بسبب طبيعته الدينية قبل كل أمر آخر، وهو ثانياً وعاء ديني أممي يتجاوز مفهوم الوطنية في فضاءه الأيديولوجي ، وهو ثالثاً من حيث بنيته أقرب إلى البنية الطائفية والعشائرية المغلقة منه إلى البنية الحزبية المنفتحة على الوطنية.
ولم يكن هذا أمراً غامضاً أو مجهولاً منذ البدء .
فقبل أكثر من عقدين ،كما أشرت سابقاً ،كتبتُ تحت عنوان”الوضع الصحيح للعربة ليس أمام الحصان: رداً على حسن مكي” بأن ” التناقض الذي يجعل أفق رؤية دكتور حسن مكي الإستراتيجية يبدو مغلقاً يقود إلى لامكان، يتجلى واضحاً في قضيتين:الأولى هي قضية المشروع الإسلامي وكيفية تعميمه وعوامل نجاحه. أما الثانية فهي مشكلة الوفاق والحوار بين ممثلي المشروع الحالي وبقية القطاعات السياسية التي لا تجد نفسها على تناقض جوهري وأساسي معها (..) إن حيوية وأهمية هذه النقطة إنما تجد مبررها الطبيعي والبديهي في حقيقة بسيطة، ألا وهي : إنه يستحيل على شريحة واحدة، أو قطاع واحد، أو اتجاه سياسي واحد، أن يتصدى لمهمة تاريخية، وتحد تاريخي بمثل الضخامة والشمول التي يواجهها الكيان السوداني، بمعنى أن المهمة أكبر وأعظم من أن يتصدى لها قطاع واحد بنجاح أكيد” (30).
” في رده على سؤال حول مهمة إنجاز المشروع الإسلامي قال حسن مكي “الانقلاب الإسلامي تقوده الصفوة، العالمون،لأنه ليس مجرد حركة عشوائية، وهناك محاولات (لإبرازه) في إطار حركة إسلامية واسعة يقودها العالمون.. ولكنها كذلك تضم القبائل والطرق الصوفية والشخصيات الدينية والرموز السياسية وهذا مشروع مصيري يحتاج إلى الحنكة في الإخراج والحكمة في الإبراز والتؤدة في الطرح والمصابرة والمرابطة.. والكتمان.. مع عنصر المفاجأة وتوفر الظروف”" (31).
هذه هي كل عناصر المشروع الوطني السوداني الذي يطمح إلى الخروج بالسودان من أزماته المزمنة، ويبشر بتأسيس دولة سودانية قوية وآمنة ومستقرة في نظر المفكر والمنظر الإسلاموي ، للحزب الذي قاد انقلابا عسكرياً على نظام ديمقراطي وسلطة منتخبة من الشعب، وكان هو يتمتع بعضوية التمثيل في برلمانها بنسبة أكبر من حجمه الطبيعي والمنطقي!.
وكما كتبت حينها “وواضح من حديثه هذا، إن هذا المشروع “خاص جداً” تقوده مجموعة ما، ولكنها تعرف تفاصيله بدقة، وهو ليس عشوائياً بهذا المعنى وحده .
“أما إذا أريد تعميمه على كل الأمة وإشراكها فيه، لأنه لا يمكن أن يصبح واقعاً إلا من خلال الناس، فإننا في هذه الحالة سنحتاج إلى “العشوائية” التي يتجنبها حسن مكي، والتي تعني إشراك وحق الجميع في المشاركة، وليس مجرد “البصم” والخروج للهتاف كلما أشار من بيده التفاصيل (..) إن مثل هذا الفهم الصفوي، وهذا التعامل الصفوي مع قضايا جماهيرية (حتى النخاع)، وفي وجه تحديات تستهدف الكيان السوداني كله وبكل قطاعاته يعكس قصوراً وخللاً لابد من معالجته، لأن المسافة بين التفكير الصفوي والتسلط ليست بعيدة” (32).
وهذا ما حدث بالفعل احترقت المسافة الفاصلة مابين الصفوية والتسلط، وشهد السودان والعالم أجمع ما حاق به وبأهله، حتى أصبح السودان عنواناً على فشل المشروع السياسي الإسلاموي، ولعل الخدمة التي أسداها “النظام بحركته البهلوانية الأخيرة هي توجيه ضربة قوية للطائفية التي خسرت ورقة التوت التي كانت تستر بها دكتاتوريتها الوراثية، فأصبحت عارية من كل زينة. ونحن نرى بوادر تمرد شعبي واسع ونخبوي واسع ضد الطائفية التي كان كثيرون يتمسكون بقشتها في وجه الدكتاتورية. أما وقد أصبحت الطائفية والدكتاتورية وجهان لعملة واحدة، فإن السودانيين أمام فرصة تاريخية للتحرر منهما معاً”(33)، كما يقول عبد الوهاب الأفندي بالفعل، وهو محق.
ورغم كل هذا يقول لك مرة: بأن الحل يكون بإشراك المعارضة في السلطة، رغم تصريحه بأن المعارضة أصبحت مجرد وجه آخر للسلطة، وهي في حقيقتها “سلطة” لا تختلف إلا في أنها تنتظر دورها .
ثم يقول في مرة أخرى بأن : الحل في التعددية، وهي القول الأول نفسه!!.
حروب عادلة
* ” يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية ، أو ميتافيزيقيا ، بحد السيف إن لزم الأمر..
يجب أن نقاتل من أجل التنوع ، إن كان علينا أن نقاتل..
إن التماثل النمطي كئيب كآبة بيضة منحوتة. ”
لورنس دوريل رباعية الإسكندرية
الجزء الثاني- بلتازار
تعليمات سماوية بالقتل
*”نحن لم نذهب إلى الفلبين بهدف احتلالها ، ولكن المسألة أن السيد المسيح زارني في المنام ، وطلب مني أن نتصرف كأمريكيين ونذهب إلى الفلبين لكي نجعل شعبها يتمتع بالحضارة ”
الرئيس الأمريكي ويليام ماكينلي
يخاطب شعبه عام 1898م مبررا غزو الفلبين.
هذا هو مفتاح الحل إذن : بأن يعاد إنتاج نظام الإنقاذ الإسلاموي “بدمج المعارضة في النظام السياسي” أي في ذات “النظام السياسي” القديم ، ولكن أي معارضة هذه التي يمكن أن يدمجها نظام الإنقاذ في نسيجه؟.
بالطبع لا يمكن أن تكون هي قوى اليسار والليبراليين وكل القوى التي تتناقض مع الطرح الأيديولوجي الإسلاموي، هو إذن اصطفاف منطقي لقوى اليمين الدينية، حزب الأمة والاتحادي/الختمي والإخوان المسلمون بكل طوائفهم (جماعات صادق عبد الله عبد الماجد والترابي وأنصار السنة وفلول العلماء وبعض الطرق الصوفية التي تقف على أعتاب الساسة) وبعض القيادات القبلية في وسط وشمال السودان.
فهل اصطفاف هذه القوى كفيل بتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي ووقف نزيف الدم في السودان، وبناء دولة سودانية حقيقية؟.
لقد “كانت أهم مزايا نظام الإنقاذ أنه طرح فرصة حقيقية لتطوير نظام سوداني جديد يخلو من نقائض الاستقطاب الطائفي والعرقي والجهوي، بينما كانت عيوب الأحزاب الطائفية المعروفة تتضاءل أمام تمسكها المبدئي بالديمقراطية، كما قال الأفندي محقاً، لأن ” هذه الفئة جاءت من خارج النخبة التقليدية. وبالفعل فإن النخبة الإنقاذية أتت من الهوامش المتعددة للسودان: من دارفور ومن جبال النوبة وجيوب الفقر في الشمال والشرق والوسط. كانت الحركة الإسلامية التي جاءت بهؤلاء، قبل أن تجتاحها جائحة الإنقاذ، وعاء يجمع بين منتسبيها على أساس الكفاءة والعطاء، بدون سؤال عن نسب أو قبيلة. وقد رفع الله بفضلها قوماً ما كانت تتسع لهم مواعين النخب التقليدية. ولكن القوم ما أن توسدوا السلطة حتى نسوا كل ذلك. كانت البداية إعادة إدخال القبلية كأداة للتصنيف والتجييش. ثم تم إدخال الطبقية، حيث ضم قادة النظام وكبار أنصاره أنفسه إلى طبقة كبار الرأسماليين قبل أن يتوحدوا مع بقية المتمولين الذين أصبحوا يدخلون في المؤتمر الوطني أفواجاً. والآن فإن مسك الختام كان إعادة الطائفية إلى قلب السياسة عبر تعيين أشخاص في مناصب عليا بدون مؤهلات سوى النسب.
وفيما يتعلق بالاتحاديين فإن التصالح مع النظام هو تتويج للتحالف الرأسمالي، إذا أن كثير من أنصار الحزب من الرأسماليين قد انضموا إلى النظام سلفاً. كانت هناك فرصة في السودان لاستباق ربيع الثورات العربية ببناء نظام ديمقراطي ذي مرجعية إسلامية، يتخطى الطائفية دون أن يصادمها، ويوحد قبائل وأعراق السودان كما وحدتهم الحركة الإسلامية، بدلاً من أن يضرب بعضهم بعض، ثم يكون حرباً عليهم جميعاً، من المناصير شمالاً إلى النوبة جنوباً” (29).
ولكن هذا الذي يرجوه الأفندي لم يحدث، وما كان يمكن أن يحدث، لسبب بسيط، وهو أن المشروع الاسلاموي في أساسه كان مشروعا نخبويا أقرب إلى المافوية منه إلى الوعاء الوطني الشامل الجامع بسبب طبيعته الدينية قبل كل أمر آخر، وهو ثانياً وعاء ديني أممي يتجاوز مفهوم الوطنية في فضاءه الأيديولوجي ، وهو ثالثاً من حيث بنيته أقرب إلى البنية الطائفية والعشائرية المغلقة منه إلى البنية الحزبية المنفتحة على الوطنية.
ولم يكن هذا أمراً غامضاً أو مجهولاً منذ البدء .
فقبل أكثر من عقدين ،كما أشرت سابقاً ،كتبتُ تحت عنوان”الوضع الصحيح للعربة ليس أمام الحصان: رداً على حسن مكي” بأن ” التناقض الذي يجعل أفق رؤية دكتور حسن مكي الإستراتيجية يبدو مغلقاً يقود إلى لامكان، يتجلى واضحاً في قضيتين:الأولى هي قضية المشروع الإسلامي وكيفية تعميمه وعوامل نجاحه. أما الثانية فهي مشكلة الوفاق والحوار بين ممثلي المشروع الحالي وبقية القطاعات السياسية التي لا تجد نفسها على تناقض جوهري وأساسي معها (..) إن حيوية وأهمية هذه النقطة إنما تجد مبررها الطبيعي والبديهي في حقيقة بسيطة، ألا وهي : إنه يستحيل على شريحة واحدة، أو قطاع واحد، أو اتجاه سياسي واحد، أن يتصدى لمهمة تاريخية، وتحد تاريخي بمثل الضخامة والشمول التي يواجهها الكيان السوداني، بمعنى أن المهمة أكبر وأعظم من أن يتصدى لها قطاع واحد بنجاح أكيد” (30).
” في رده على سؤال حول مهمة إنجاز المشروع الإسلامي قال حسن مكي “الانقلاب الإسلامي تقوده الصفوة، العالمون،لأنه ليس مجرد حركة عشوائية، وهناك محاولات (لإبرازه) في إطار حركة إسلامية واسعة يقودها العالمون.. ولكنها كذلك تضم القبائل والطرق الصوفية والشخصيات الدينية والرموز السياسية وهذا مشروع مصيري يحتاج إلى الحنكة في الإخراج والحكمة في الإبراز والتؤدة في الطرح والمصابرة والمرابطة.. والكتمان.. مع عنصر المفاجأة وتوفر الظروف”" (31).
هذه هي كل عناصر المشروع الوطني السوداني الذي يطمح إلى الخروج بالسودان من أزماته المزمنة، ويبشر بتأسيس دولة سودانية قوية وآمنة ومستقرة في نظر المفكر والمنظر الإسلاموي ، للحزب الذي قاد انقلابا عسكرياً على نظام ديمقراطي وسلطة منتخبة من الشعب، وكان هو يتمتع بعضوية التمثيل في برلمانها بنسبة أكبر من حجمه الطبيعي والمنطقي!.
وكما كتبت حينها “وواضح من حديثه هذا، إن هذا المشروع “خاص جداً” تقوده مجموعة ما، ولكنها تعرف تفاصيله بدقة، وهو ليس عشوائياً بهذا المعنى وحده .
“أما إذا أريد تعميمه على كل الأمة وإشراكها فيه، لأنه لا يمكن أن يصبح واقعاً إلا من خلال الناس، فإننا في هذه الحالة سنحتاج إلى “العشوائية” التي يتجنبها حسن مكي، والتي تعني إشراك وحق الجميع في المشاركة، وليس مجرد “البصم” والخروج للهتاف كلما أشار من بيده التفاصيل (..) إن مثل هذا الفهم الصفوي، وهذا التعامل الصفوي مع قضايا جماهيرية (حتى النخاع)، وفي وجه تحديات تستهدف الكيان السوداني كله وبكل قطاعاته يعكس قصوراً وخللاً لابد من معالجته، لأن المسافة بين التفكير الصفوي والتسلط ليست بعيدة” (32).
وهذا ما حدث بالفعل احترقت المسافة الفاصلة مابين الصفوية والتسلط، وشهد السودان والعالم أجمع ما حاق به وبأهله، حتى أصبح السودان عنواناً على فشل المشروع السياسي الإسلاموي، ولعل الخدمة التي أسداها “النظام بحركته البهلوانية الأخيرة هي توجيه ضربة قوية للطائفية التي خسرت ورقة التوت التي كانت تستر بها دكتاتوريتها الوراثية، فأصبحت عارية من كل زينة. ونحن نرى بوادر تمرد شعبي واسع ونخبوي واسع ضد الطائفية التي كان كثيرون يتمسكون بقشتها في وجه الدكتاتورية. أما وقد أصبحت الطائفية والدكتاتورية وجهان لعملة واحدة، فإن السودانيين أمام فرصة تاريخية للتحرر منهما معاً”(33)، كما يقول عبد الوهاب الأفندي بالفعل، وهو محق.
ورغم كل هذا يقول لك مرة: بأن الحل يكون بإشراك المعارضة في السلطة، رغم تصريحه بأن المعارضة أصبحت مجرد وجه آخر للسلطة، وهي في حقيقتها “سلطة” لا تختلف إلا في أنها تنتظر دورها .
ثم يقول في مرة أخرى بأن : الحل في التعددية، وهي القول الأول نفسه!!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.