الإسلام السياسي : الكُفر بنعمةِ التعدد! محمد قواص (*) أيا تكن التوصيفاتُ السياسية للحراك العربي الراهن، وسواء كانت ثوراتُ المنطقة وانتفاضاتها ربيعا أم خريفاً، فإن العربَ يكتشفون حقيقةَ حالهم بعد عقودٍ زيفته ومحضته لمعاناً وفق شعاراتِ النُظم الاستقلالية وتعريفاتِ الزعيم المُلهم واجتهاداتِ القائد المعلم. لكن ما هي حقيقة حالنا؟ خرجت المنطقةُ من السطوة العثمانية بصفتها جزءا من كلٍ يحكمه الباب العالي. فكان أن قيلَ أن أتراكاً يحكمون العربَ كما يحكمون، وفقا لعاديات الأمور آنذاك، أوطانا وقومياتٍ أخرى. وحين حلّ موسمُ الحقبة الإستعمارية، قيل أن فرنسا وبريطانيا ودولٌ أخرى تحكمُ مِصر والعراق وفلسطين والجزائر ولبنان وكياناتٍ أخرى. وبالإنتقال من سطوةٍ إلى أخرى يكتشفُ أهل المنطقة هوياتَهم المستجدة والمتجددة. هي اذن مِنطقةٌ متلوّنة متعددة مختلطة، تتقاطعُ في دواخلها القبائلُ والعشائر والطوائف والقوميات. هي تلك المنطقة التي رآها شارل ديغول الفرنسي أعقد أرضٍ على هذه الأرض. هي هذه المساحةُ التي تتعايشُ فيها الأديان ولا تتناكف فيها الطبقات (التي أمعن كارل ماركس في تشريحها). هي هذه الأنحاء التي ما فتئت منذ بطن التاريخ تبحثُ عن تشكّلِها واستقرار حراكها. على أطلال هذا الإستعمار الراحل تمّ ارتجال هوية أو هويات. خرجَ العروبيون يبشرون بخلاصِ الأمة من مخاضها من خلال جمع العرب في وعاء واحد. عليه يجتمعُ من تكلم لغة الضاد بغضّ النظر عن التباس الجغرافيا والتاريخ، وبإغفال خرائط الإثنيات وعلم الأنتروبولوجيا، وباستخفاف ندوب المذاهب وحكايات القبائل التي يتشكّل منها جسد وروح المنطقة. للمنطقة تاريخ متنوّع، يعود إلى جماعات متباينة، ويرتبط بجغرافيات متفرّقة. بين الجزيرة العربية وبلادِ الشام وأراض المغرب الكبير وشعوب وادي النيل ما يفرقُها وما يجمعها في حكايات الزمن. وفي حقباتٍ عدّة، بما فيها الحقبات العربية والإسلامية، كان هناك ما يفرّقها أكثر مما يجمعها. وللمنطقة راهنٌ يطلّ بتعددية في الطباع والطبائع، واختلاف في الرؤى والمصالح. يومياتُ أهل الخليج العربي وهمومهم لا تلتقي بالضرورة مع تلك قي المغرب العربي أو لدى شعوب وادي النيل أو المشرق، وما يوحّدها لا يرقى إلى مستوى يتيح لها سياقا “طبيعياً” للوحدة. بكلمة أخرى لا يتيحُ المفهوم العروبي (بما فيها البعثي) وحدةً، ولا حتى في حدها الأدنى، بين سوريا والعراق. كما لم تسمح تلك العروبة (الناصرية) بوحدةٍ بين مِصر وسوريا، ولم تتح الفكرة الوحدوية أي نجاح لمشروع المغرب العربي الكبير. أما الصدامات التي شهدتها العقود الماضية ين ليبيا ومصر، وبين مصر والسودان، وبين العراق والكويت، وبين سوريا والاردن، ناهيك عن النزاعات الحدودية لدى دول الخليج..الخ، فهي عجّلت في انهيار نظريات الهوية الواحدة مقابل صلابة الهويات الحقيقة الأصيلة. في العالم شعوبٌ وكتل تتحدث بالفرنسية أو الإنكليزية أو غيرها. ومع ذلك فلم تتفتق عبقرية بشرية على جمع السنغاليين بالفرنسيين بكنديي الكيبيك في دولة عمادها لغة فولتير، فقط لأن شعوب تلك النواحي تنطق بالفرنسية. لكن في هذا العالم، بالمقابل، تمّ جمع ثقافات وهويات وتباينات وأجناس في دول وكيانات وفق شروط تتعلق بمشاريع جامعة. وحين تسقطُ تلك المشاريع ترتفع أخرى ببراغماتية عجيبة، فتموت كياناتٌ وتولد أخرى. تولى يوهان فيشته الألماني التنظير لعلاقة اللغة والدم بارتقاء الأمم. تولّت الفكرة إنجاب هتلر وربعه. رحل هتلر ورحلت أفكار اللغة والدم. وتولى الفرنسي أرنست رينان التنظير لرباط الأرض في تشكّل الأمم. مُذّاك والناس يجهدون لتقديم الذرائع تلّو الذرائع للتجمع على أرض تشكّل أُمتهم. قدّمت لنا القوميةُ العربية العربَ كأمةٍ واحدة في اللغة والثقافة والدين والمزاج. وحين لم يصدّق البعضُ ذلك (لأن سُنّة الوجود التعدد وفق “جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”)، أطبقت الفكرة الواحدة على أي فكرٍ آخر، فكان أن أخرجت الإيديولوجيا من معطفها مروّحة قهرٍ، وعجّلت في صناعة قناعٍ رمادي يخفي “عورات” الأمة ويوئد ألوانها. يأتي “الربيع” على أنقاض الشتاء. يبددُ الدفء سطوة المعطف الثلجي الأحادي اللون. تكشفُ الألوان “عوراتٍ” تتسق مع طبيعة الطبيعة وسرّ وجودها. هكذا يكشف لنا الربيع العربي عن “عواراتنا”، وتخلع “الأمة العربية” بذّتها الرسمية الموحدة. يعيد أهل المنطقة اكتشاف نسيجهم. هم عرب وكرد وأمازيغ وأعراق أخرى. هم مسلمون ومسيحيون وأديان أخرى. هم أقباط وموارنة وسُنّة وشيعة واسماعيليون ومذاهب أخرى. هم اسلاميون وعلمانيون، يساريون ويمينيون وتيارات أخرى، هم مؤمنون وملحدون وأشياء أخرى. في سقوط الإيديولوجيا سقوط لهويات الإيديولوجيا. سقط النظام الشيوعي قبل عقود، فعادت الألون إلى عالم مسخته التوتاليتاريا إلى مخلوق مستحدث يختصرُ تاريخ أمم وأصول حضارات. وفي سقوط الإيديولوجيا عندنا، تتقدم تعددية تتحرى مقاومة نزوع طارئ لإحالة المنطقة من جديد إلى حالة إسلامية واحدة، يجوز فيها تطبيق احكام الشرع. والمشكلة ليست في الشرع واحكامه، بل في البشر الذين يشهرونه سيفا على مسلمين وغير مسلمين بغرض إحكام سطوة وإرساء سلطة باسم ما هو فوق البشر. والمشكلة ليست في الشرع واحكامه، بل في عبادٍ يتحرون السيادة على العباد باسم دينٍ أول أحكامه تحرير العباد. في زمن الربيع تُمنعُ طفلةٌ من الغناء لأن ذلك مثيرٌ للفتنة، دون أن نسمع عن علاج لأولئك الذين أثارتهم فتنة غناء طفلة. في زمن الربيع يُتهم خصوم النظام الإسلامي بأنهم “مسيحيون” في منطقة أنجبت عيسى، فبات البشر يصنفون بين من مِنا ومن ليس مِنا. في زمن الربيع العربي يتناقض الإسلام السياسي مع أهل “دار الإسلام” ويتماهى ويتفاهم ويتعايش مع شروط “دار الكفر”. وفي التصنيفان المتقادمان في القرن الواحد والعشرين الأمر وجهة نظر تتصلب وتلين وفق الحاجة لإستقرار سلطة “المؤمنين” وأمرائهم الجدد. في زمن الربيع ينشطُ افتاء البشر لتبرير سطوة البشر. تتقدمُ السلطة عبر الشيخ والسيّد والداعية منتقية من الدين ما خفّ حمله مغفلة جوهر الايمان وأصله. في زمن الربيع يتجزأ الدين إلى أحزابٍ وجماعات وفرق، ويتحوّل الإيمان إلى وجهة نظر نغرفها بكيفية خبيثة من كتابٍ وسُنة. في زمن الربيع يُنادى على الناس للتصويت على دستور بشري وفق معادلة من مع دين الله ومن ضده. خرجت المنطقة (بالمنطق تارة وبالهزيمة تارة ثانية وبالثورة البوعزيزية تارة أخرى) من هويةٍ نفخ بها الزعيم القائد ونظامه. ويُراد في زمن الربيع جرّ المنطقة إلى هوية يُبشر بها الشيخ القائد ونظامه. وبين العروبة والإسلام في طبعتيهما السياسية الإيديولوجية نزوعٌ بنيوي نحو التسلط وتوجهٌ آلي نحو التفرد. في سعي المنطقة الراهن للحاق بركب الحداثة وما بعدها، لا يروم التغيير استبدال ديكتاتورية متقادمة بديكتاتورية طازجة، ولا احلال ديكتاتورية عسكرية أو مدنية بأخرى دينية. فالزمن الراهن يُسقط من عدته منطق حكم الولي الفقيه كما منطق حكم المرشد. هو زمن تنتهي فيه عهود السطوات، ليس لأن الأمر خارح تقليعات العصر فقط، بل لأن الأمر لا يتسق مع حركة التاريخ وحراك الأمم ومحرك الشعوب. هكذا حصل في مناطق الآخرين ولا شيء سيحول دون حدوثه عندنا. فنحن لسنا حادثة خارج سياق التاريخ و لسنا صدفة تتمرد على منطق العمران الخلدوني. في زمن “الربيع” نراقب بعجبٍ زحف متظاهرين لدعم “القاعدة” في مالي، ونتأملُ بأسفٍ التصفيق لجهاديين أحرقوا مكتبة عريقة هناك. نتذكر ما كتبه الشاعر الألماني هاينريش هاينه في القرن الثامن عشر: “حيث تحترق الكتب، يحترق الإنسان”. في هذا الزمن ما زلنا نبحث عن الإنسان فينا. ———- (*) صحافي وكاتب سياسي