أعاد تقرير "ديلي تليجراف" البريطانية بشأن بناء روسيا لاحتياطيات من ذهب السودان المهرب، ملف (تهريب الذهب) إلى دائرة الضوء بعد أن تلاشى عقب سقوط نظام الرئيس المعزول عمر البشير، القضية التي لطالما ظلت محل اهتمام الخبراء والمختصين، لجهة أنها أثرت على القطاع الاقتصادي بالبلاد، وسط مخاوف من نضوب المورد. وفي الوقت الذي ظهر فيه منتجو الذهب يداً واحدة مع الحكومة، تباينت آراء الخبراء الاقتصاديين والمحللين حول صحة مزاعم تهريب كميات كبيرة من الذهب إلى روسيا عبر شركاتها العاملة في البلاد، بيد أنهم اتفقوا على استفحال "سرطان" تهريب المعدن النفيس. وبحسب عضو اللجنة الاقتصادية ل"الحرية والتغيير" عادل خلف الله، فإن البلاد فقدت بين (216 – 272) طناً من الذهب المنتج خلال (3) سنوات، لكنه لم يجزم بأن جميع هذه الكميات تُهرب لروسيا، مشيراً إلى "غموض في حجم الإنتاج الفعلي للذهب وتضارب في الإحصاءات التي تصدرها الجهات الرسمية وأخرى عالمية.
إحصاءات مخيفة: في سبتمبر 2021، كشف تقرير مشترك أعدته لجنة الأممالمتحدة الاقتصادية لإفريقيا وفريق الاتحاد الإفريقي، عن فقدان البلاد قرابة (267) طناً من الذهب خلال (7) سنوات من (2013- 2018) عن طريق التهريب، بمعدل (80) كيلوجراماً يومياً. لكن وزارة المعادن تنفي وبشكل قاطع، تهمة تورط روسيا أو غيرها من الدول في تهريب الذهب من البلاد. إلا أن عضو اللجنة الاقتصادية بتحالف الحرية والتغيير، عادل خلف الله يقول في إفاداته إن الغموض في حجم الإنتاج الفعلي للذهب والتضارب في الإحصاءات التي تصدرها الجهات الرسمية، علاوة على تواتر التقارير المتعلقة بتهريب كميات كبيرة للغاية من الذهب يضع الملف أمام عدة شكوك، أبرزها أن جهات ومؤسسات تساعد في حالة الفوضى والتهريب. ويضيف خلف الله: بغض النظر عن صحة التقرير من عدمه، الحديث عن الإمكانات الحقيقية للبلاد في إنتاج المعادن "الذهب و20 معدناً لا تقل قيمته السوقية عن الأول"، ظل متواتراً في ظل تضارب المعلومات وغياب رد رسمي بشأن المعلومات حول التهريب، علماً بأن التقارير المتواترة داخلياً وخارجياً طالت أسماء بعينها. ويقول خلف الله إنه وحسب البيانات الصادرة عن المجلس الإفريقي للذهب، يعد السودان من أكبر (3) دول إفريقية في إنتاج المعدن، إلا أن الجهات الرسمية في تقاريرها الربع سنوية وغيرها تقدم أرقاماً وصفها بالمضحكة في مدار (24 28) طناً مقارنة ب(240 300) طن والمعلنة عبر بورصة دبي خلال الثلاثة سنوات الماضية، وتابع "هذا ما يؤكد خروج المعدن عن طريق غير شرعي مباشرة من البلاد أو عبر محطات". وأشار خلف الله إلى وجود مصالح من قبل السلطات والجهات المختصة في استمرار حالة الفوضى في القطاع، علاوة على التهريب، قائلاً: عدم تنفيذ المطالب التي دعت لها اللجنة الاقتصادية في المؤتمر الاقتصادي والخاصة بإنشاء بورصة للذهب والمعادن وبعد مضي نحو (3) سنوات من وعد رئيس الوزراء المستقيل في كلمته خلال المؤتمر، إضافة إلى العمل وفقاً لأحكام 2005، يؤكد أن هنالك تجنيباً من قبل السلطات لسيطرة الدولة على الموارد المعدنية.
حزمة تدابير لحل الأزمة: ويرى عادل خلف الله وهو خبير اقتصادي ومتحدث باسم حزب البعث، أن الحلول تكمن في إعادة النظر في القطاع والقوانين والعقود المبرمة مع شركات محلية وأجنبية، علاوة على العمل الجاد لمكافحة التهريب وإنشاء البورصة، مشيراً إلى أن الحل مرتبط أيضاً بالسياسات النقدية خاصة فيما يتعلق بالتضخم وسعر الصرف، وأضاف "كان الأولى اتباع حزمة من السياسات والتدابير التي تمكن البنك المركزي من بناء احتياطات من الذهب وما يقابلها من النقد الأجنبي عند شرائه عن طريق البورصة"، ويقول خلف الله إن ذلك يمكن الدولة من السيطرة على المعادن وضمان استلام مبالغها بما يعادل قيمتها بالنقد الأجنبي، ذلك ما يقود إلى السيطرة التلقائية على سوق النقد الأجنبي وانخراط السوق الموازي في العرض والطلب وفق السعر الحقيقي للعملة الأجنبية أو التلاشي. ويشير خلف الله إلى أن استمرار الغموض وتضارب البيانات حول الحجم الحقيقي لإنتاج الذهب و(20) معدناً نفيساً لا تقل قيمتها السوقية عن الذهب وعدم التحرك حول الحلول لإيقاف نزيف موارد البلاد المعدنية، يؤكد ضلوع نافذين ومؤسسات في حماية هدر الموارد أو على أقل تقدير حماية القوى والشركات الضالعة في التهريب. ويرى خلف الله أن استمرار هذاه الموارد والغموض والتهريب تمظهرات لأزمة سياسية لا مخرج منها إلا بإسقاط إجراءات 25 أكتوبر واتخاذ سياسات في إطار نظام مدني ديمقراطي تعددي تسيطر من خلاله الدولة على قطاع المعادن، علاوة على بناء أسس الحكم الرشيد.
وعود منتجي الذهب: وفي خطوة تعد الأولى من نوعها في أعقاب تصاعد أزمة تهريب الذهب، تعهد منتجوه في البلاد الخميس الماضي، بتوريد إنتاجهم من المعدن النفيس إلى البنك المركزي. وبحسب السلطات عقب لقاء منتجي الذهب بنائب رئيس مجلس السيادة، بحضور وزير المالية والتخطيط الاقتصادي، فإنه يتم توريد منتجي الذهب لجميع إنتاجهم من المعدن الأصفر إلى خزانة بنك السودان المركزي بدءاً من الجمعة الماضية. وقال عضو لجنة التعدين، طارق صالح علي إن هناك أخباراً سارة ستأتي خلال الأيام المقبلة، ستنعكس إيجاباً على سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية.
تهديد الأمن القومي: بدوره يقول أستاذ العلاقات الدولية والدراسات الإستراتيجية، د.محمد خليل الصائم إن هنالك تساؤلاً يدور حول "من يهرب الذهب"، علماً بأن المعدن الأصفر وبإقرار السلطات يهرب عبر مطار الخرطوم ومنافذ أخرى، وهذا ما يرجح فرضية ضلوع نافذين في الملف. وبحسب الصائم فإن الإنتاج الفعلي من الذهب يقدر ب(100) طن في السنة، ولا يدخل منه خزينة الدولة سوى (25 – 30) طناً، وأشار إلى أن بين (75 – 80)% من الذهب يتم إنتاجه بواسطة القطاع التقليدي غير المنظم "التعدين الأهلي"، وأضاف: نحو (5) ملايين يعملون في قطاع التعدين العشوائي والمهن الملحقة به مما يصعب السيطرة عليه ويعرضه للتهريب، وتابع "على السلطات أن تتعامل مع الملف باعتباره مهدداً للأمن القومي"، ولكنه جزم بأن لا أحد يستطيع اتهام بلد بعينه بالتورط في تهريب الذهب. ويضيف الصائم في إفاداته "في اعتقادي أن الذهب والبترول والمياه ملك لكافة أبناء الشعب وبذلك فإن الدولة هي التي يجب أن تسيطر على إنتاجه وتصديره باعتباره سلعة إستراتيجية". ويقول الصائم إننا وبحسب التصنيف المتعلق بإنتاج الذهب، نحتل المركز الثالث في القارة خلف جنوب أفريقيا وغانا، إلا أن غياب الرقابة وضعف القوانين خلفت الانهيار الاقتصادي الذي نعيشه، علاوة على التفاوت الطبقي ما بين غني وفقير بإذابة الطبقة الوسطى، مشيراً إلى أن القضية من مهددات الأمن القومي مما يتطلب مراجعة القوانين الضابطة للاستثمار المحلي والأجنبي بتقنين عمل القطاع الخاص وسيطرة الدولة على الموارد المعدنية. فلاش باك: تعمل الكثير من الشركات المملوكة لعدد من النافذين في التنقيب عن الذهب في معظم أنحاء السودان – بحسب تقارير وتملك الكثير من المناجم في مناطق مختلفة بما في ذلك شركات أمنية وعسكرية، لكن أشهر مناطق إنتاج الذهب قاطبة فهو منجم "جبل عامر" في ولاية شمال دارفور، في عام 2012 اكتشفت كميات كبيرة من الذهب في تلال جبل عامر، تقول التقارير إن كل (50) كيلوجراماً من التربة تحتوي كيلوجراماً واحداً من الذهب؛ ما دفع الكثير من المعدنين للتوجه إلى هناك، بل ومن بعض بلدان الجوار. تقول التقارير إن معظم ذهب السودان يهرب عبر الحدود ولا تستفيد منه البلاد، ويستخدم المهربون حيل كثيرة لتهريبه عبر الحدود، مستخدمين طرقاً سرية في الصحراء، وتخزينه في بطون الإبل، أو علناً عبر مطار الخرطوم بتواطؤ من مسؤولين في المطار وخارجه. ولعب التواطؤ الرسمي بمستويات الدولة العليا وضعف الرقابة في المطارات، دوراً مهماً في تهريب الذهب خارج البلاد، بل ووفقاً لتصريحات سابقة لمسؤولين حكوميين، فإن هناك شركات وشخصيات نافذة تساعد على تهريب الذهب، بل تحصل على تراخيص رسمية، وعلى الرغم من المفارقات الكبيرة في حجم الإنتاج بين التقارير الرسمية وتقارير الخبراء، فإن تقرير وزارة المعادن يقول إن الفرق بين الإنتاج والصادر كبير جداً، ويتراوح الفاقد بين (2) و(4) مليارات دولار سنوياً، بنسبة (37) في المائة من إجمالي صادرات البلاد. وتصنف التقارير الدولية لإنتاج الذهب حول العالم السودان الدولة رقم (13) بين الدول المنتجة للذهب حول العالم والثالثة بين الدول الأفريقية، بعد غاناوجنوب أفريقيا بإنتاج بلغ (76.6) طن في عام 2018، "غانا أنتجت 130.5 طن، وجنوب أفريقيا 129.8 طن" في العام ذاته، وذلك بحسب تقرير مجلس الذهب العالمي الصادر في أبريل 2019، وتعمل في التنقيب عن الذهب في السودان بحسب تقرير وزارة المعادن، (444) شركة بين محلية ودولية، تعمل في مجالات الاستكشاف والإنتاج وغيرها، وأكبرها شركة "أرياب" الفرنسية أولى الشركات العاملة في إنتاج الذهب.