من ظواهر الانفتاح الجديدة .. الوافدة على مجتمعنا التي لاحظها والدي «المغترب» عند قدومه إلى السودان في إجازة قصيرة : «ان مقامات الناس الرسمية قد طغت على مقاماتهم الاجتماعية» .. بمعنى أن الناس في مجتمعنا باتوا يقدمون احترام القيمة الرسمية والمهنية للشخص على احترام مقام القرابة أو كبر السن .. على عكس الصورة المجتمعية التي كانت سائدة قبل اغترابه والكثير من أبناء جيله في سبعينات القرن الماضي! في تلك الحقبة عندما عمل والدي معلماً بمدرسة قريته في الشمالية لفترة من الوقت كان جميع من في المدرسة جيراناً وكان معظمهم أقارب .. هذا القرب المادي والمعنوي حتم على أهل القرى ولا يزال يحتم عليهم حتى اليوم تجاهل الكثير من رسميات العمل الوظيفي .. و لأن (فرَّاش) مدرسة القرية كان هو نفسه (عم فلان) الذي ينتصب المدرس الشاب كالرمح للسلام عليه عند دخوله مجلس والده ويخف إلى إكرامه حافياً، ويسكت في حضرته تأدباً .. لأجل تلك الاعتبارات لا يستطيع ذلك الشاب أن يرتدي بزة الموظف في علاقته الرسمية بهذا العم داخل أروقة المدرسة .. من ذلك المنطلق كان هذا (العم فلان) يصنع من (عِمَّته) وسادة وثيرة يضعها تحت رأسه ويتمدد تحت (الزير) البارد المندِّي .. وما أن يمر بجواره أحد المدرسين مهرولاً في طريقه إلى موعد الحصة حتى يهتف به فراش المدرسة الذي يرقد بزاوية شبه مائلة تحت (الزير) : « .. يا ولدي .. بالله .. معاك موية ..» ! فأهل القرى يعتبرون الحديث بمفردات رطانة أو لهجة محلية واحدة أبلغ صورة من صور الانتماء إلى بعضهم البعض، لذلك هم متفقون ضمنياً على تجاهل الفوارق الطبقية داخل وخارج أروقة العمل الرسمية .. والخفير العجوز الذي يتصادف كونه جاراً لوالد المدير قد يجابه نفوذ مديره الرسمي بسطوته الاجتماعية و(الجيلية) عليه كجار أو صديق قديم لوالده .. وهكذا ! .. هذا العرف القديم .. الممتد والضارب بجذوره في تربة الثقافة الاجتماعية لعموم أهل السودان الذين يعولون في مختلف صور تواصلهم على روح القطيع ! .. احتج والدي على أنه بات يخبو شيئاً فشيئاً بسبب مثالب الانفتاح ! بطبيعة الحال أتفق كثيراً مع نظرة جيل والدي إلى وجوب احترام اعتبارات السن والقرابة داخل وخارج أروقة العمل الرسمية، كما أتفق معه على سمو البعد الاجتماعي لنزوعنا المحلي الشائع نحو التبسط والقفز فوق الفوارق الطبقية .. لكني أختلف كثيراً مع القائلين بالإفراط في تعميم هذا النوع من المعاملة .. والكثيرون الذين يتساءلون عن السر في تفضيل المستثمرين و أصحاب العمل للعمالة الوافدة على العمالة المحلية برغم ارتفاع التكلفة و التبعات الإدارية المربكة لاستقدامهم ينسون أن (ود البلد) الذي يتحول إلى غريب أديب وملتزم بمجرد رحيله للعمل في دول أخرى يستمرئ الخلط بين الرسمي والشعبي والعام والخاص عندما يكون هنا بين ظهراني أهله .. لهذا السبب يلجأ المستثمر وصاحب العمل إلى خيار العمالة الوافدة الملتزمة بشروط المهنية التي توفر عليه الكثير من الوقت و الجهد المهدر في مجابهة عشوائية العمالة المحلية التي تستمرئ العشوائية والكسل وتعوِّل في اطمئنانها على الجيرة والقرابة والعشم ! طيِّب .. لماذا لا نتفاءل بأن يتمخض (تلقيح) العمالة المحلية بالعمالة الوافدة عن مردود إيجابي على مستوى الالتزام والمهنية تستفيد منه العمالة المحلية قبل أصحاب العمل ؟!