«يتوق كل من يؤلف كتاباً إلى المديح. أما من يصنف قاموساً فحسبه أن ينجو من اللوم». د.جونسون أثار صدور كتاب في جريدة- مختارات القصة القصيرة في السودان جدلاً واسعاً وغباراً كثيفاً وردود افعال واسعة متضاربة، وأحياناً إنفعالية تنم عن التربص والغضب وكأنما كانت تنتظر الفرصة لتزيح الغطاء عن قدور الضغط التي في الصدور، ومن ناحية اخرى فان المشهد برمته يفصح عن الحيوية النقدية والأدبية مثلما يفصح عن خلل في الموازين- أكاد اقول إنه فادح. والحق ان تصنيف المختارات عمل شاق مثله مثل تأليف القواميس حسب صاحبه ان ينجو من اللوم ليكون من الظافرين، أنظر مختارات أبي تمام والبارودي من القدماء ومن المحدثين ادونيس وعبدالصبور وغيرهم في لغات العالم المختلفة امثال ديدهيوز ويتس الذي الغى من المختارات التي حررها شعراء اعتبروا مهمين في نظر النقاد، وقد يجد د.مهدي عزاء في ذلك ولكن الواقع ان هؤلاء جميعاً كانوا من الشعراء الذين حكموا الذائقة الشخصية عند الانتخاب ولكن ذلك قد يكون السبب فيما تعرض اليه د.مهدي من هجوم لانه ببساطة لجأ الى ذوقه الشخصي كمعيار للاختيار. لقد كان بامكانه ان يستخدم سلطته كباحث متمرس مكتمل الادوات ويقوم بدراسة ميدانية شمولية للقصص المتوافرة لديه، وينظمها في خيط منهجي معين ولكنه آثر نظرة الفنان القاص لما بين يديه من مواد وألقى عليها نظرة طائر متعجل ورغم ان الذين بادروا بالهجوم على الرجل من شباب الكتاب وكهولهم كانت دوافعهم تتراوح بين الموضوعية وصراع الاجيال والافيال المسيطرين على الحقل الادبي، كما يدعون بالاضافة الى اسباب ذاتية حفزت من فاتهم الاختيار لهذه المجموعة، إلا ان المرء ليحار في المنهج الذي اجترحه د.مهدي لانجاز هذه المختارات، هل كان الغرض تمثيلياً أم كرونولوجياً ام طولياً، أم انه التزم بالمعنى الحرفي للانطولوجيا ام كان مذهبه فنياً بحتاً والحق ان المختارات لم تلب أياً من هذه الشروط ولو كان الهدف تمثيلياً فلماذا اختار نماذج قديمة أو متوسطة القيمة لكتاب ابدعوا اعمالاً اكثر نضوجاً مما نشر في المختارات فهل تمثل «نخلة على الجدول» الشأو الرفيع الذي وصل اليه الطيب صالح في «الرجل القبرصي» وهل يمكن مضاهاة «ماذا فعلت الوردة» المنشورة قبل ثلاثين عاماً ب«قيامة الجسد»لعيسى الحلو، وهل «المخزن» لعثمان الحوري تضيف الى معرفتنا به اكثر من «اكياس النايلون؟ هذه مجرد أمثلة، ثم ان القصة القصيرة تحفل بروائع تجاهلها المحرر مثل «كرسي القماش» لعلي المك و«باب السنط» لسعد الدين ابراهيم و«القمر المتخنق» لعبدالقادر محمد ابراهيم و«سكين الفراغ» لاحمد مصطفى الحاج و«هاهينا» لبشرى الفاضل وقصة «اذا طرقت ابوابكم فانبذوني» البالغة الجمال لمختار عجوبة.. وهلمجرا. ولماذا أغفل المحرر كتاباً لهم بصمة في مسيرة القصة السودانية، أمثال محمود محمد مدني ونبيل غالي ومبارك الصادق وعثمان حامد ومحمد خلف الله سليمان وعادل القصاص وعبدالعزيز بركة وهاشم كرار... الخ.. وهم يمثلون القصة القصيرة في السودان خير تمثيل أو على الاقل هم خير من بعض الذين اوردهم المحرر. ومن ناحية اخرى فقد ضرب المحرر عرض الحائط بانماط من القصة تمثل جانباً مهماً من المشهد المتكامل فغابت عن المجموعة القصة الكبسولة ولها محبوها من قديم ومن روادها الطيب صالح ويبدعها الآن نخبة من الشباب «عبدالمنعم الحاج على سبيل المثال» كما أدار كتفيه للحكاية الالكترونية التي يكتبها شبان وتظهر دائماً على الشبكة العنكبوتية ولها معجبون كثيرون في اوساط اليافعين العرب «وهم قراؤنا المغتربون. أليس كذلك؟»والأمر المحير ان تبدأ المجموعة بابراهيم اسحق وتنتهي بمعاوية نور «المجدد الاول للقصة في العالم العربي»، حسب قول المحرر، ولا شك عندي ان معاوية- رغم ريادته- قد كتب هذه الاقصوصة بيد الناقد البصير اكثر منه المبدع ليعرف قراءه على اتجاه في القصة كان جديداً آنذاك. وقد اعتذر د. مهدي في حديث نشر أخيراً بجريدة (الصحافة) عن أخطاء لا يد له فيها ومنها سقوط بعض الاشياء اثناء مراسلاته مع الناشرين وحذفهم لمعلومات مهمة، كما ابدى اعذاراً تتصل باخطاء البريد الالكتروني، وظني ان هذا لا يعفيه من المسؤولية الفادحة التي تصدى لها. وقد تحجج ايضاً بطبيعة الانطولوجيا التي يجب ان تشمل الجيد والرديء وقد يكون هذا صحيحاً اذا كانت الانطولوجيا موجهة إلى قارئ محلي يتوق لمعرفة تطور القصة في بلده، اما وان الانطولوجيا موجهة من الهامش الى المتن اي من الكاتب السوداني إلى القاريء العربي فيتوجب علينا ان نعرض عليه أفضل ما عندنا لننال منه جواز المرور أو صك الغفران أيهما شئت. اخيراً تبقت نقطتان: الاولى اننا نتساءل عن ماهية كتاب في جريدة، وهل مجرد الحاقه بصحف عربية توزع مليوني نسخة « يا للهول» يجعل ادبنا ينتشر «انتشار النار في الهشيم»، في الاصقاع العربية، ام ان الأمر يحتاج الى الدأب والاستمرار واستراتيجية اعلامية وثقافية مستدامة لان الابداع لا ينقصنا ولكننا نفتقر الى الثقة بالنفس وأن نرمي بعقدة النقص راء ظهورنا،إن القاريء الحقيقي للكاتب السوداني موجود في اعماق هذا البلد الطيب- اي القاريء السوداني وهو الحافز الحقيقي للانطلاق إلى العالم الاوسع وللمزيد من شحذ ادواته وتجويد عمله رغم اننا لا ننكر ما لكتاب في جريدة من اسهام في اذاعة ونشر الادب السوداني، هذا اذا كانت المختارات تعبر حقاً عن عبقريتنا الخصوصية. النقطة الثانية تتعلق بمحرر المجموعة الباحث النشط والقاص العتيق د.محمد المهدي بشرى فان عليه ألا يوهن عزمه ما لقيه من نقد واحياناً قسوة وتجريح لينجز لنا مجلداً خاصاً عن القصة يتناول فيه بالدرس جذورها واتجاهاتها ومجالات تطورها وهو جدير بذلك.