الوجه الذي ينضح بالصلاح كان يشيع اطمئناناً على كل من حوله، العم سعيد بابتسامته الملائكية مثل في ذاكرة الكثيرين أنموذجاً للتوكل و(الرضاء بالمقسوم عبادة)، كان رجلاً معتدل المزاج، (صافي لبن) صيفاً وشتاءً، يحدثك عن الرزق كمن يتذوّق فاكهة طازجة، يتلمظ طعم منطقه الحلو ويرتاح لإحساسه بالقرب الدائم من الحي الذي لا يموت. ما يملكه العم سعيد في هذه الفانية (حمار) وبيت متنقل من الشعر و(خُرج) بضم الخاء، تجده خاوياً في أغلب الأحيان، وحينما يمتلئ فإن أقيم محتوياته تكون خبزاً جافاً أو (ويكة) أو (رأس) سكر وشاي.. (عم سعيد) يحرص على أن يغسل (العَرّاقي) الوحيد بعد أن يصلي العشاء وقبل أن يستلقي للنوم حتى يرتديه في اليوم التالي.. لا يحمل نقوداً لأن جيبه رهين برزق مبني على المجهول. أكثر ما يدهشك في هذا (السعيد)، عبارته الخالية من كوليسترول الدنيا حين تسأله عن حاله، فيفاجئك: (بسطن يشفق)، ويردفها بقسم (والله بسطن لمن مشفقنا ومخجلنا)، سألت نفسي كثيراً عن حالة الرضاء التي يعيشها رجل لا يملك شيئاً من حطام الدنيا، وحينما جهرت باستفساري زجرني والدي رحمة الله عليه وقال لي إن هذا الرجل في سعادة لو علم بها الملوك لقاتلوه عليها بسيوفهم، وأخذ يحدثني عن رهانه على كنز القناعة وحالة النقاء التي وسمت سعيد بوقار الرضاء بالمقسوم، والإيمان بأن في السماء رزقكم وما توعدون. ذات مرة اقتفيت أثر سعيد وقد هالني منه ما رأيت من سعادة، وإيمان واطمئنان وتوكل، تعمدت أن أذهب وراءه لأرى بأم عيني تفاصيل لحظات في حياة رجل (سعيد).. أعجبني وجهه الصبوح وحديثه الواثق، وشغفه بالتوكل، والإحساس بالقرب من كريم (ما شق حنكن ضيّعو). كان مقر إقامة سعيد يبعد عن شندي المدينة أكثر من (عشرين كلم)، كل أملاكه في الدنيا (غنماية لبن)، وحمار يتنقل به في شوارع المدينة يقطع الأشجار و(يكسِّر الحطب) ويرضى بالقليل ويرفض أن يأخذ الكثير، في ذلك اليوم صادفت سعيداً ولسانه يلهج بشكر الله والثناء على عطاياه التي لا تُحصى، أخبرني أن الله أكرمه أيّما إكرام، فقد منحه عافية مكّنته من إنجاز كثير من الأعمال، كما أبلغني أنه صرف كل ما اقتناه من مال في رزق حلال سيحمله إلى بناته الخمس دون أن يفكر في يوم غد، ما أسعد سعيد كان ملوة (تمر) ومثلها من (الويكة) و(نصف ربع عيش فيتريتة)، وكانت سعادته قد بلغت مداها وهو يعلمني أنه يتفائل جداً بالعودة إلى المنزل بدون (مليم) لأن الله سيرزقه غداً مثلما يرزق الطير تماماً (تغدو خماصاً وتعود بطاناً). على تخوم مقر إقامته، كانت (بنياته) يتقافزن فوق كتفه وعلى ظهر (الحمار)، الصورة تحاكي مقاطع النبيل شاعر الشعب محجوب شريف، (مريم ومي بنياتي سمعتن صوتي طيتن هي). سعيد أخذ يوزع القبلات على على خدودهن ويدس التمر في الأيادي الصغيرة، المكان كان يزدحم بالرضاء والحب، والقناعة، أجمل ما لاح لي في قسمات تلك اللحظة أنها كانت صادقة لا تحتمل الزيف والخداع. ما أحوجنا لاقتفاء سيرة عم سعيد والحياة يجافيها اليقين بأن الرزق على الله، فقد جعلني الرجل أدرك أن القناعة بالمقسوم هي سر السعادة الدائمة وأن الثقة بالله أبلغ درجات الإيمان، ودّعت الرجل وفي خاطري عبارته الغارقة في الحمد (بسطن يشفق).. كيفك يا عم سعيد، (والله بسطن لمن مشفقنا ومخجلنا).