كنا موعودين بمواصلة نقاشنا لمقولة أستاذنا عبد العزيز حسين الصاوي حول مطلوبات النهضة السودانية، ولكن الأجواء ملبدة بغيوم فأل وغضب، خاصة مع ارتفاع الأسعار والقرارات الحكومية المتخذة لمجابهة الأزمة الاقتصادية، وأهمها رفع الدعم عن المحروقات. ووسط هذا وذاك من أحداث جاء تحرك الجمعية السودانية لمكافحة التصحر للاحتفال باليوم العالمي للمكافحة في يوم 17 يونيو، والذي اتفق على ان يكون بالتعاون مع حزب الأمة في يوم 27 يونيو أي اليوم. وأثار الحدث لغطا كبيرا، نود أن نتداول حوله بعض الأفكار.الفكرة الأولى تنبع من مقولة الرسول (ص): إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها، وهذه المقولة تؤكد أن الإنسان عليه ألا يؤجل عمل الخيرات لانشغاله بأي أمر جلل، وقد رأى البعض أن ما حدث من اتجاه لوقف نشاط حزب الأمة الجماهيري، وقرار المكتب السياسي في يوم 26/6 بالاحتفاظ بحقه في مواصلة نشاطاته المسئولة والتي تصب في مصلحة الوطن، كان يتطلب الاتجاه نحو تصعيد سياسي، تناغما مع تحركات المناهضين لغلاء الأسعار المصاحب لرفع الدعم. وربما كان رأي هؤلاء صحيحا، ولكننا على العكس من ذلك نظرنا للأمر من باب الفسيلة التي بيدك والتي عليك أن تغرسها وقد نفخ في الصور!الموضوع الثاني له علاقة بما كان، أشار له المفكر الجزائري الضخم مالك بن نبي حول ذهنية الثورة التحريرية التي عمت البلدان المحتلة ،حيث أجّلت كافة القضايا لما بعد التحرير، وبعدها تواجه بانحرافات سببتها الملفات المؤجلة. وهي الفكرة ذاتها التي تلتف مع ما دعا إليه الصاوي كثيرا من أن الدقرطة والتنمية عمليات تبدأ من الأسفل للأعلى، فنحن إن ركزنا على إزالة البنى الفوقية التي تمثلها الحكومات فقط بحسبان أن ذلك هو المطلوب الوحيد للدقرطة، فإننا سوف نواجه بوضع زائف يوم نحصل على ما طلبنا ،حيث تكون كل البنى القاعدية والوسيطة معطوبة وغير مجدية في إنجاز التحول المطلوب. فلا مناص من وضع لبنات البناء الأولية في كل الملفات حيثما أتيحت الفرصة، سواء أكانت تلك اللبنة تخص الإدارة الاقتصادية، أو البيئية، أو الاجتماعية، علينا قبل تمام التغيير أن نبيّن رؤانا في كافة الملفات، وأن يكون (الحمام) جاهزا بأبنيته وبمائه الدافيء، لئلا يصبح الصبح علينا ثم نفكّر بعدها كيف نبني مغسلا نستعد به للاحتفال!أما الفكرة الثالثة فهي تأكيد أن الملف البيئي، والملف الخاص بالتصحر نفسه ليس مسألة أكاديمية محضة، إنه مربوط بالسياسة من ثلاث نواحٍ هامة:الناحية الأولى: أن التدهور البيئي في العالم وفي السودان هو قضية سياسية لا تخفى على أحد وهو مرتبط بسياسات الدول مثلما مرتبط بحقوقها وواجباتها، والتصحر على وجه الخصوص صار يشكل قضية سياسية بالدرجة الأولى، والمطلع على اتفاقية مكافحة التصحر يعلم ان المسألة مرتبطة بسياسات دولية ووطنية، وفي بلد كالسودان تصل نسبة الأراضي المعرضة للتصحر إلى 94%، خاصة بعد انفصال الجنوب، وتصل نسبة الأراضي المتصحرة والمتأثرة فعليا إلى 63% فإن الأمر خطر وجلل، ويحتاج لالتفات سريع من الحكومة ومن الساعين إلى تغييرها على السواء. والعاملين في الحقل يؤكدون أن السياسات موجودة، والقانون مدبج، ولكن ما ينقص هو الإرادة السياسية، هذه الإرادة السياسية هي مربط الفرس في الحديث عن التغيير.الناحية الثانية: إن السياسات الخرقاء التي اتخذت بشأن البيئة والتي تركت التصحر يسعى ويرعى في ديارنا ويعرّي التربة مثلما يستضيف ذلك الضيف الرملي الأصفر الثقيل حتى حول النيل، من رعي جائر، وإحجام عن تنفيذ مخططات الأحزمة الخضراء، ووقف الاتفاقيات التي أبرمتها حكومة الديمقراطية مع دول كالنرويج وإيطاليا لتخضير السودان، وغيرها من سياسات التخبط المتخذة كانت هي السبب وراء كوارث عديدة للوطن. فليس خافيا على أحد أن حرب دارفور دارت في الأساس حول الموارد وكان سببها الأساسي هو زحف التصحر والتعرية وما اثر به على النزاعات بين القبائل الرعوية والزراعية، وقد التف الأمر مع الإثنية ومع السياسات المنحازة فأسفر عن تلك الحرب اللعينة التي شردت نصف سكان الإقليم نازحين ولاجئين. كذلك فإن انفصال الجنوب، الذي تسببت فيه سياسات خرقاء ايضا، له أثره على البيئة وعلى موارد المياه، وعلى تقلص مساحة الأراضي الخصبة، وانفجار الجنوب الجديد زاد الطين بلة لأنه الحزام المحتوي على أخصب أراضي السودان وأصلحها للزراعة.. فالتصحر هنا ناتج عن سياسات خرقاء، وهو كذلك سبب في نزاعات وحروب تزيد الأمر سوءا على سوئه، ولا حل حالي ولا مستقبلي لقضايا البلاد بدون سياسات ناجعة لوقف التصحر من جهة، ولمعالجة نتائجه الكارثية على الحياة والمواطن في السودان من جهة أخرى.الناحية الثالثة: إن مكافحة التصحر في السودان وفي غيره من الدول هو قضية أكبر من طاقة بلداننا، ومسببات التغيرات المناخية التي أدت لارتفاع درجات الحرارة ولتغير خارطة الأمطار مرتبطة بأشياء من ضمنها ثقب الأوزون الذي تسببت فيه البلدان الصناعية بالدرجة الكبرى، الشيء الذي جعل بلدان الجنوب تطلب تعويضا من الدول الملوثة يصب في خانة مكافحة التصحر ومشاريع حماية البيئة، ولكن هذا التعويض لا يكون مستحقا إلا بشروط أهمها الحكم الديمقراطي الراشد، مثلا اتفاقية كوتنو الأوربية تغدق للتنمية في بلداننا اعترافا بدورهم في معاناتنا أموالا طائلة لكنها تشترط شروطا عديدة من بينها الحكم الراشد والتصديق على نظام روما الأساسي والاعتراف بالمحكمة الجنائية الدولية. وهذا يعني أن قدرتنا على مجابهة التصحر وعلى التنمية المستدامة رهينة، مثلها مثل خيرات كثيرة تفوتنا، بالسير الجاد نحو الدقرطة داخليا والاعتراف بالقانون الدولي الإنساني وآلياته العدلية.هذه النواحي الثلاثة، حتى لو لم نفكر بذهنية الفسيلة يوم القيامة، ولا ذهنية البناء من القاعدة والاستعداد بالبديل، كافية لجعل أي سياسي مهموم بحال بلاده لا ينظر للوقفة من أجل مكافحة التصحر في السودان وهو يقول كما يقول من رأينا: الناس في شنو وناس (جمعية مكافحة التصحر) و(حزب الأمة) في شنو؟ وليبق ما بيننا