باعلان الحزب الحاكم التشكيل الحكومي الجديد أمس فإن خطوته الاولى في تبني سياسة تقشفية بدأت عملياً ، حاملة تصوراته الخاصة لما تعنيه مفردة وسياسة (التقشف).. نية التعديلات في هياكل الدولة لم تكن مفاجئة للساحة السياسية والإعلامية، حيث طال انتظار التعديلات وترقبها في الشارع العام، بعد اعلان الرئيس البشير في 18 من الشهر الماضي عن إجراءات تقشفية لإنقاذ البلاد من الانهيار الاقتصادي تشمل تقليص هياكل الدولة بنسبة تتراوح بين 45-50% وخفض مخصصات الدستوريين وتحديد سيارة واحدة لكل مسؤول وتقليص المحليات وإلغاء مرتبات أعضاء المجالس المحلية ، ووعد الرئيس بخفض الإنفاق العام ومراجعة الميزانيات وتحديد أوجه الصرف وإيقاف إنشاء مباني حكومية جديدة وترشيد صرف الوقود وإحكام ضوابط منح الإعفاءات الجمركية والاستمرار في الخصخصة.. حديث الرئيس يومها امام البرلمان، أطلق العنان لخيال الحالمين بحكومة رشيقة لا تتجاوز ما اقترحه عضو البرلمان عباس الخضر بضع عشرة وزارة، لتأكيد أن ذات لهيب المعاناة يضرب الصف الاول.. احباط عام اكتنف الخرطوم في سياق خذلان أحلام مسبقة بتغييرات جذرية في جوهر هيكل الحكومة، واشارت توقعات مراقبين استنطقتهم (الرأي العام) قبيل الاعلان أمس بأن تكون ملامح التقليص الحكومي واضحة في ظل وجود وزارات متقاربة الاختصاص مثل الكهرباء والطاقة والصناعة في حقيبة واحدة ، والزراعة والموارد المائية والثروة الحيوانية في أخرى بحكم الانتماء للمستقبل والرهان، بالاضافة للعمل والموارد البشرية كحقيبة ، والثقافة والإعلام لارتباطهما بالوعي والاستنارة ، في ظل بقاء الوزارات السيادية مثل الخارجية والدفاع والداخلية والعدل ورئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء.. بيد أن المفاجأة المحبطة بحسب تعبيرهم كانت في تعليق عدد من التعديلات رغم وضوح الاختصاص مثل الثقافة والاعلام والارشاد لبحث امكانية الدمج، بالاضافة لبقاء النفط والتعدين والكهرباء مفترقين رغم انتمائهم لعائلة الطاقة، وبقاء التعليم العالي والعام كل على حدة رغم ارتباطهما غير الخفي ، واكتفت الحكومة بإلغاء التعاون الدولي ، ودمج الاتصالات في العلوم والتقانة ، ودمج العمل في تنمية الموارد البشرية، ليتحول حلم التقليص من 45%-50% طبقاً لحديث الرئيس الى كابوس محصور في نسبة تقارب 16%.. في خضم ذلك تبدو (لعنة) ما ، أصابت القادمين على ظهر التسويات من رحم الغيب، فكانوا عرضة للخروج المؤلم من كنف السلطة في سيناريو ( كأنك يا ابو زيد ما غزيت)، فكانت اشراقة سيد محمود أول المغادرين ، يرافقها الهد ، رغم ما كشفه مساعد رئيس الجمهورية د.نافع علي نافع بأنه لا معنى لتغيير الوزراء وأن ما تم اعلانه ليس تعديلاً، وأن المغادرين سيكون لهم محل من الاعراب .. منسوبو الحزب الحاكم علقوا في وقت سابق على التعديلات الحكومية بأنها تمثل استجابة منطقية لما تعيشه البلاد من ظروف قاهرة، بل وتعاطي ايجابي مع خلاصات تجربة العالم العربي، التي تجنح نحو التقليل من الصرف الحكومي لصالح رفاهية الشعوب حتى لا تثور.. في المقابل تحليلات أخرى ترى أن نسبة التعديلات البسيطة التي جرت تشير الى عدم قدرة الوطني على التحلل من التزاماته تجاه منسوبيه، رغم سعيه لتأكيد وجود فرص للتغيير والتغيير المستمر بداخله، ما يعني فشله في تحقيق مبتغاه من التعديلات التي رفض تسميتها بذلك د. نافع .. كثيرون يرون أن الاجراءات الاخيرة، أكدت عدم استشعار الوطني بالاحتقان الجماهيري والسخط الشعبي الذي يبحث عن أقل ما يكون على المستوى الحكومي ، وقال المحلل السياسي ايهاب محمد الحسن ل(الرأي العام)(قسوة الوطني على وزرائه بتقليص وزاراتهم وإقالتهم ، كان يمكنها ترك الباب مفتوحاً لصالح اصلاحات حقيقية ربما ترضي الجماهير، لكن ما تم يكشف عجز الوطني عن استيعاب أهمية التقشف ببقاء 26 وزارة من جملة 31 وزارة، وهو ما لا يتسق مع حركة الاحتجاجات المنتشرة ، وتغلق باب الامل في انصلاح الحال). مراقبون توقعوا أن تكون الاجراءات لها ما بعدها ، وأن الامر منطقياً يجب الا يقف عند هذه الحدود، في حين يرى الناشط الحقوقي أنور سليمان، أن السيناريو غير قابل للتعديل وأن اصرار د. نافع على الايحاء بأن ما تم ليس تعديلاً هو بالونة اختبار لابقاء الاوضاع على ما هي عليه .. فيما يرى القيادي بالمؤتمر السوداني قرشي عبد الحميد ، أن التعديلات والتغييرات الطفيفة تعبر فقط عن موازنات المؤتمر الوطني الداخلية وترضيات لصفه الاول وقال ل(الرأي العام)( الجاز لا يمكنه ان يعمل تحت كمال عبد اللطيف اذا تم دمج النفط أو الطاقة في التعدين والعكس صحيح، وقس على ذلك) مبدياً استغرابه من تكوين لجنة خاصة للنظر في أمر وزارات الارشاد والثقافة والاعلام رغم وضوح انتماء الثقافة للإعلام وخصوصية الارشاد ، وأضاف :( إلا إذا اراد الوطني أن يعمل على اكساب الثقافة طابعاً دينياً) وتابع : ( فيما يتعلق برشاقة الحكومة فإن ما تم هو ذر للرماد في العيون، فأزمة البلاد ليست أزمة من الامس أو اليوم بل هي تراكم لازمات سياسية طيلة 23 عاماً في السلطة ، والدليل ان ذات العقلية هي السائدة وانعكاسها في بقاء ذات الاسماء). د.ربيع عبد العاطي المستشار الحكومي سخر من الاجراءات موضحاً عدم اتساقها مع ظروف البلاد وقال ل(الرأي العام)(اعادة الهيكلة بهذا الشكل لا تتناسب والاجراءات التقشفية المعلنة، فالامر يتجاوز قضية دمج بعض الوزارات في بعض) واضاف(القضية هي اعادة النظر في الهيكل بأكمله، ويجب التقليص بحيث لا تتجاوز 16 وزارة ، وإذا كان الوزراء من الوطني فعليهم التبرع بالمرتبات). اذاً ، المؤتمر الوطني مطالب بتبرير بقاء الوضع على ما هو عليه، وتوضيح ما اذا كانت وزارات محددة مرتبطة بأشخاص بعينهم وحصرياً عليهم، خصوصاً وأن ثمة من يرون أن بقاء الوزير في منصبه لوقت طويل يدمغ الوزارة بملامحه وأدائه ، أو أن يعلن عدم وجود مخصصات لهؤلاء الوزراء أو امتيازات بعد اعلان اقرارات ابراء الذمة، وهو ما اشار اليه قرشي ، مرجحاً عدم جدواه وقال( حتى وأن جاء الوطني بتكنوقراط فلن يستطيعوا اختراق الازمة ، لأنها ليست اقتصادية فحسب بل سياسية اجتماعية ..