بعض الخبثاء، تناقلوا على أيام الانتخابات المصرية نكتة تقول بإقتضاب شديد: (سنصوّت لمرسي، ونأخذ المرشد رهينة لحين تحقيق مطالبنا)..وفي هذه النكتة -على لؤمها- إشارة واضحة لأهمية المرشد العام لجماعة الإخوان في مصر، ومكانته الرفيعة في أوساط الإسلاميين هناك. فالدكتور محمد بديع الذي أُدرِج ضمن أعظم مائة عالم عربي في الموسوعة العلمية العربية الصادرة في العام 1999م، يمسك بأهم خيوط اللعبة السياسية، ويعدّ رقماً سياسياً وإسلامياً عصياً على القفز من فوقه في معادلة السياسة في مصر. فهو زعيم الجماعة الأكثر قوة وتنظيماً، الجماعة التي خرج من رحمها حزب الحرية والعدالة والرئيس مرسي ود. هشام قنديل، وقناديل أخرى تضىء سماء السياسة في مصر. فتح المرشد قلبه ل(الرأي العام) التي لاحقته منذ ساعة وصوله لمطار الخرطوم، فكان هذا الحوار بصالة المغادرة قبل دقائق معدودات من صعوده إلى الطائرة مساء أمس الأول، حيث لم يتسع وقته لطرح غير هذه التساؤلات التي أجاب عنها بتلقائية من تعود على ذلك مسبقاً: * لما كان مجيئك للخرطوم بهدف المشاركة في مؤتمر الحركة الإسلامية الثامن، فإن تقيّيمك لمؤتمرها يصبح سؤالاً متوقعاً؟ - أنا سعيد في البداية أن أخاطب الرأي العام السوداني من خلال صحيفة (الرأي العام)، فهذه أول زيارة أقوم بها بصفة خاصة لأى قُطر من الأقطار منذ أن توليت مسؤوليتي كمرشد عام لجماعة الإخوان المسلمين، وأول ما لحظته وأحسست به هو أن السودان يتحرك بالفطرة حتى في المؤتمرات. فالفطرة بالحب هى التي تحركه وهذا أجمل ما في أي شعب في الدنيا.. *وماذا عن المؤتمر على وجه التحديد، خاصة وأنك شهدت إلى جانب الجلسة الإفتتاحية، الجلسة الإجرائية التي تنافس فيها د. عبد الرحيم علي ود. الطيب إبراهيم محمد خير على رئاسة المؤتمر؟ - الحمد لله عندما حضرت المؤتمر الثامن للحركة، أحسست أن الانتخابات التي تعتبر في كل الدنيا تنافساً بين متنافسين أو متعارضين، وجدت في السودان أن المتنافسين تربوا على قيم وأخلاقيات هذه الحركة الإسلامية الراقية. وبالتالي كان النموذج الذي أعتقد أنه لا يوجد في الدنيا أبداً، فما يوجد عادة هو نوع من المجاملات العامة التي نراها بين المتنافسين ذراً للرماد في العيون، لكن هذا كان موقفاً قلبياً عاطفياً حقيقياً صادقاً، وهذا أمر أغبطكم عليه، وإن شاء الله يديم ربي عليكم في السودان هذا الحب وهذه المودة التي رأيتها من أعلى شخصية ممثلة في فخامة الرئيس وإلى كل الشخصيات التي التقيت بها على مختلف المستويات سواء أكانت تنفيذية أو شعبية. *كيف تنظر إلى مستقبل الحركة الإسلامية في السودان التي يعتقد البعض بأنها شاخت ربما؟ -الذي يرتبط بالقرآن والسنة لا يشيخ، ويظل متجدداً لأن القرآن لا تنقضي عجائبه. وهو كما قال لنا الأستاذ البنا الدافع الروحي الذي وصفه رب العزة وقال عنه في كتابه العزيز إنه روح (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا)، وأيضاً مادة الروح هذه في القرآن الكريم (نزل به الروح الأمين)، ولم يقل للنبي (ص) على أُذنك لأن هذا يعتبر نقلاً مادياً من كلام إلى سماع، لكنه قال على قلبك لأن هذا هو مجال الميديا للقرآن الكريم، ولذلك قال الأستاذ البنا رحمة الله عليه مستنبطاً من هذه المعاني القرآنية ومخاطباً الإخوان المسلمين منذ نشأة هذه الجماعة المباركة سنة 1928م: (أنتم روح جديد يسري في جسد هذه الأمة فيحييها بالقرآن)، تخيل روحاً جديداً تسري في جسد الأمة من خلال أعضاء هذه الحركة كى يحيوا الأمة، فهل يشيخ هؤلاء؟ أو يهرموا؟ =يضحك= *هل تريد أن تقول إن الحركة الإسلامية في السودان لن تهرم؟ - نعم، فهم شباب متجدد، ولو رأيت شيوخ الحركة كيف حيويتهم وكيف نشاطهم، تشعر أن الشباب يغار منهم، ولكنهم مصرون فعلاً كما سمعت منهم بنفسي، على أن يجعلوا شباب هذه الحركة يتولون المسؤوليات لأنهم يعرفون أن هذا الدين دين وُضِع لإعداد القادة نماذج لا يوجد مثلها في العالم، نماذج شرعية تسقط شرط السن والتكليف والبلوغ عن حافظ القرآن الكريم كى يكون إماماً وتصح إمامته للبالغين. *هل صحيح أن لديكم مآخذ على الحركة الإسلامية في السودان كونها جاءت إلى الحكم عبر مدخل معيب وهو مدخل القوة والإنقلاب؟ - شوف يا حبيبي، لكل قُطر ظروفه وأحواله التي لا يمكن لأحد آخر أن يتدخل في تقييمها، حتى صار مثلاً عربياً أصيلاً (أهل مكة أدرى بشعابها)، ولهذا نقول إن العبرة بالغايات والأهداف والمقاصد والنيات، وكم رأينا من نظم ادعت الديمقراطية وجاءت بانتخابات زورتها وتلاعبت بها، ثم جثمت على صدر الأمة و.. =مقاطعة= * هذه إجابة ميكافيلية فيما يبدو، فكأن الغايات عندك تبرر الوسائل، أياً كانت؟ - لا لا، أنا أقول إني لا أتدخل أبداً في آليات وصول أحد, لأن هنالك ظروفاً يحكم عليها أهل البلد وهم أدرى بها من أى شخص آخر، لكن أقول العبرة في ماذا قدمت لبلدك؟.. وفي النظام الإسلامي عندنا صور متعددة حتى للأربعة الخلفاء الراشدين لكنهم كلهم في النهاية يقدمون نموذجاً إسلامياً رائعاً. *دعنا ننظر معك إلى ما قدمته الحركة الإسلامية في السودان، هل أنت راضٍ عما قدم خلال ال( 23) سنة الفائتة؟ - يمكن أنا الفترة التي تابعت فيها هذا الأداء قصيرة جداً، أما ما أحسسته من تحركي بين الشعب السوداني في مستوياته المتعددة، فكل نظام لابد أن يكون له انتقادات عند شعبه، وطموحات يريد تحقيقها. وأنا سمعت أنهم الآن يتناقشون ويجمعون الاقتراحات حول انتقادات الحركة والعمل السياسي والحزبي، ويطلبون من الجميع أن يقدموا اقتراحات لتحسين الأداء. وأيضاً هنالك اقتراحات تقدم رغم سلامة الدستور الموجود حالياً ليعد دستور أفضل حتى ولو أخذ أمر نقاش وسماع الآراء من جميع الاتجاهات وكل الفصائل عاماً أو عامين فلا داعي للاستعجال. * على قِصر متابعتك لأداء الحركة الإسلامية، لكن برأيك إلى أي مدى قدم الإسلاميون في السودان مثالاً لدولة إسلامية؟ - من أهم وأول ما يجب أن يقدم هو نموذج الإنسان الذي يتقي الله، وهذا أنا أسميه (الشاسي)، فإذا وجدت مثل هذه الشخصية التي تخاف الله عز وجل، ووجد المؤمن الصادق الصالح، وجدت معه كل أسباب النجاح. صحيح قد يخطىء في الممارسات وقد يتعثر وقد تواجهه مصاعب يضعها في طريقه شياطين الإنس والجن، فهؤلاء وضعوا معوقات في طريق الأنبياء، لكن إذا علم الله منهم صدق النية والإخلاص بنموذج يخاف الله عز وجل، فهذا أطمئن إليه وإلى أدائه، وهذا أفضل ما قاله (ص) في حق هؤلاء المسؤولين والرؤساء أمران اثنان.. الأول قال: (خير أُمرائكم الذين تدعون لهم ويدعون لكم، وشر أُمرائكم الذين تدعون عليهم ويدعون عليكم). ثم قال (ص) في دعاء إن شاء الله يصيب كل مسؤول يتقي الله ويخافه في من دونه: (اللهم من ولى من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به). *وماذا عن (الشاسي) الخاص بالحركة الإسلامية في السودان.. هل هو سليم برأيك أم ربما كان يعاني شقوقاً؟ - فيه نقص بشري طبيعي يعالج إن شاء الله على مدى نجاح ونضج التجربة يوماً بعد يوم، لأن الكمال لله وحده، ولو جئت لأية تجربة إسلامية في أية دولة من الدول ستجد فيه قصوراً, وهذا ليس عيباً وإن شاء الله يكون (من جهلنا نخطئ ومن خطئنا نتعلم). * هل ستستفيدون من أخطاء الإسلاميين في الحكم بالسودان؟ - ليس من الأخطاء فحسب، بل من كل التجارب. فنحن على سبيل المثال العلاقة بين الحزب والحكومة، والحزب والجماعة عندما جئنا لنضع له قواعده في مصر، بحثنا في جميع النماذج التي تمت على مستوى العالم من أندونيسيا إلى المغرب، وجمعنا كل التجارب وأستطيع أن أقول لك من ضمن ما كنت تسأل عنه إن كل تجربة لها خصوصيتها ولها أخطاؤها وعليها ملاحظات ولها إيجابياتها أيضاً، فعندما تأتي لتقوّم أو تقيّم، فيجب أن تأخذ بصورة متكاملة حسب الظروف ما لهذا وما عليه، حتى لاتظلم أحداً في تقييمك. * عندما سألتك عما إذا كنتم ستستفيدون من تجربة الإسلاميين في السودان كان في ذهني مناطحتهم للغرب، وأنت ترى الآن ما يشبه المواجهة مع إسرائيل، فهل ستتفادون المنعطفات التي تؤدي إلى مثل هذه المواجهات؟ - مستحيل، وصعب أن يرضى عنك عدوك بأي حال من الأحوال، لأن الذي ضرب عندكم مصنع اليرموك وضرب مصنع الشفاء في عام 1998م، هو الذي ضرب غزة بالأمس، وهو الذي ضرب مدرسة بحر البقر في مصر.. فكيف يرضى عنك عدوك وأنت تقول إنني أحمل رأية الإسلام؟ * إذا كان العدو واحداً كما تقول، وفي ظل التقارب الكبير بعد الربيع العربي بين الإسلاميين في مصر وتونس وليبيا والسودان، هل يمكن أن يمتد هذا التقارب ليلامس حلم البعض ويشكل نواة ربما لدولة إسلامية تجمع بين هذه الدول؟ - شوف يا حبيبي.. هذه أمور سقف طموحاتنا فيها عالياً، لكن علينا أن ننزل إلى مستوى الواقع حتى نعالج الواقع ولا نكون خياليين. الأصل في الأمر أولاً أن نكوّن اللبنة الصالحة لأن كل دولة من هذه الدول عبارة عن لبنة صالحة و(طوبة) نعدها إعداداً جيداً حتى تكون صُلبة، و(بعيد فيين لما تجي تبني من هذه اللبنات مبنى كبيراً يحتاج إلى رسم هندسي وخبراء)، يعنى هذه الأمور طموحات حقيقة لكن الواقع يقول لابد لنا من إعداد جيد، فالناس ظلت لفترة طويلة تظن أن هذا النموذج الإسلامي مستحيل أن يحدث على ظهر الأرض. * رغم حديثك الإيجابي عن الحركة الإسلامية السودانية، لكن بعض المراقبين يرون أنكم تنظرون إليها كعبء وليس رصيداً في الواقع؟ - ما التقى مسلمان إلا أفاد الله أحدهما من صاحبه خيراً، وأنا أقول لك هنالك تجارب عندكم هنا ناجحة وجيدة، وهنالك أشياء تحتاج لعلاج ستدرس وستعالج، ولابد أن تبدأوا أنتم العلاج لمعرفة أسباب هذا القصور ولماذا حدث، ونحن أيضاً عندما ندرس لا نأخذ أية تجربة على علاتها إنما كما قال (ص) الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق الناس بها، ونحن سنأخذ الصالح النافع منها، وبإذن الله تعالى يكون في كل تجربة جزءاً صالحاً نافعاً ننتفع به إن شاء الله. * في ماذا تلتقون مع الحركة الإسلامية في السودان تحديداً؟ - نلتقي في كل الثوابت والمبادىء والقيم، فهذه لا خلاف عليها. أما الطريقة والأسلوب والتجربة فكل بلد له تجربته الخاصة به، وأقول عندنا في مصر خلطة مخصوصة اسمها (الكُشري)، وعندكم هنا (الويكة) وهى شىء مختلف تماماً، ولازم كل واحد يعرف خلطته ويأكل ما يعجبه. * هنالك إختلاف بين التجربتين إذن؟ - نعم.. نختلف في أن التجربة قد تكون غريبة عن تجربتنا نحن، وأنا لا أتصور مثلاً أن الإعلام الموجود في مصر كان ممكن يتركني أُصلى الجمعة وأخطب فيها بينما فخامة الرئيس ليستمع خطبة الجمعة من مرشد الإخوان المسلمين، فهذا أمر إعلامنا لا يتركنا فيه أبداً بهذا الشكل (فاحمدوا ربنا أنو عندكم إعلام جيد وطيب). * بماذا تنصح الإسلاميين في السودان؟ - جزاك الله خيراً.. فأنا أود أن أقول لكل الإسلاميين في كل دول العالم: أنتم تنوع جميل جداً كألوان الطيف، فأحذروا الفرقة والخلاف والصراعات والتنافس على الدنيا، فأنتم هدفكم الآخرة والجنة، وبالتالي هذا الهدف يجمع ولا يفرق، فإذا كان الله غايتك والرسول (ص) زعيمكم والقرآن دستوركم، فلن يحدث أي خلاف، ولذلك أقول واجب على كل أعضاء الحركات الإسلامية مهما تنوعت واختلفت من صوفية سلفية وإخوان حتى سنة وشيعة لابد أن يشعروا جميعاً أننا عندما نطوف حول الكعبة ونتوجه إلى الكعبة في كل بلادنا، نتوجه إلى بيت واحد ونعبد رباً واحد ونرتبط بقرآن واحد ورسولنا واحد ونصلي إلى قبلة واحدة ومنهاجنا واحد. لكن هذا التنوع رب العزة سبحانه وتعالى أراده، مثل ألوان الطيف وقلت لهم إن ألوان الطيف لا يمكن أن تنتج اللون الأبيض إلا إذا تحركت في إتجاه واحد وبسرعة واحدة، فهيا نجمع كل ألوان الطيف الإسلامي والسياسي والمجتمعي كى نتحرك لخدمة هذا البلد وحمل هذه الأمانة. وأقول حتى رسول الله (ص) وهو في مكة قبل نزول البعثة كان يحضر حلفاً اسمه (حلف الفضول) لنصرة المظلوم، أي أنه يبحث عن المشترك حتى مع غير المسلمين كي يجمع القلوب ويتفقوا عليه، ولهذا أقول كلمة للأستاذ البنا كان يذكرنا بها دائماً في كل رسائله وهى (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه)، فهيا نضع أيدينا في أيدي بعض فالأمانة ثقيلة، وقد جرّبت الإنسانية الإشتراكية والشيوعية وضاعت وتاهت سنين طويلة، والآن تذوق مرارة الرأسمالية وآن للشعوب أن ترى نور الله عز وجل وتضىء به حياتها.. و(جزاك الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته فأنا بعرف الصحافيين كويس وواضح أنك صحفي ناصح وما حتخليش حاجة إلا وتسألني عنها). = قال ما بين القوسين أعلاه، وهو يصافحني بلطف لينهي الحوار قبل أن تنتهي الأسئلة بالطبع.