لعل أهم خبر كان يحرك قنوات التلفزة يوم الأحد الماضي (طبعا بعد أخبار الإعصار المالي في الولاياتالمتحدة وتداعياته على أوروبا) هو التصريح الذي أدلى به البريغادير مارك كارلتون سميث أكبر قائد عسكري بريطاني في أفغانستان، وقال فيه إنه لا ينبغي توقع نصر حاسم على طالبان، بل الاستعداد للتفاوض على صفقة سياسية مع الحركة. ونصح العسكري البريطاني ب (خفض سقف التوقعات) وقال: (إننا لن نربح هذه الحرب. إن الأمر ينحصر الآن في خفض مستواها إلى حدود يمكن للقوات الأفغانية أن تتعامل معها). وقال العسكري البريطاني إنه يقول ذلك رغم أن قواته ألحقت بطالبان ضربات موجعة خلال هذه السنة لكنها في نفس الوقت تكبدت خسائر فادحة ناهزت ال (32) قتيلا و(170) جريحا. وكان مربط الفرس في حديثه قوله : إذا أبدت حركة طالبان استعدادا للجلوس حول طاولة المفاوضات من أجل بحث تسوية سياسية، فإن ذلك سيكون بمثابة تقدم قد ينهي التمرد. وهو كلام مبتور يكمله تساؤل غالبا يطرحه المحللون : وماذا إذا لم تستجب طالبان لمبادرة التفاوض؟ وكان قد سبق تصريح القائد البريطاني تصريحات وتسريبات للصحافة في فرنسا وألمانيا والولاياتالمتحدة حول جدوى الاستمرار في الحرب الأفغانية. لقد أدخلت الحرب الأفغانية ومن بعدها الحرب العراقية ثقافة جديدة في شأن التدخلات العسكرية لحسم نظام وطني قائم. فالحرب الأفغانية أنهت حكم طالبان والحرب العراقية أنهت حكم البعث وكانت آخر الحلقات الحرب الإثيوبية في الصومال التي أنهت حكم المحاكم الإسلامية. وفي الحرب الأخيرة تساءل كثير من المحللين : وماذا بعد سقوط المحاكم الإسلامية، حيث كانت معالم نظرية جديدة قد بدأت في الظهور. تتكون النظرية من ثلاث مراحل: المرحلة الأولى، يفاجأ النظام الحاكم بضربة عسكرية صاعقة تشارك فيها كل أسلحة الجيش أو الجيوش الغازية وخاصة سلاح الطيران والقذف الصاروخي الذي يكون له الفصل في الحسم المبكر للحرب. وفي المرحلة الثانية، ينهار النظام الحاكم تحت وطأة الضربات الساحقة وتتشتت قواه العسكرية وإن لم يخل هذا التشتت من معارك هنا وهناك يعتبرها بعض المحللين نوعاً من (فرفرة المذبوح)، لكن في الحقيقة تنبع قيادة جديدة في الميدان تحل محل قيادة الدولة وتبدأ في اعادة تجميع الصفوف ورسم إستراتيجية حرب طويلة النفس. وفي المرحلة الثالثة، تبدأ مرحلة اكتساب المهارات وتطوير القدرات الذاتية وتهيئة المقاتلين لحرب طويلة الأجل في وقت لا تزال القوة الغازية تمني النفس بنهاية سريعة للحرب. هذا ما حدث في أفغانستان والعراق والآن يتشكل في الصومال بنفس التفاصيل والملامح. النظرية ثبتت الآن في أرض الواقع، ومبادرة التفاوض تأتي من أمل في إنهاء الحرب وغالبا ترفض طالبان المبادرة لأن نظريتها تقوم على مبدأين : الأول إن حربها طويلة الأجل وهي بالتالي ليست مستعجلة لإيقاف الحرب، والثانية إن حرب العصابات غالبا لن تقبل إلاّ بنصر حاسم في النهاية.