خلفية تاريخية إن مشكلة أبيي ترجع أساساً للخلاف الناشب بين أولاد أبيي المشرئبين للحكم والمتطلعين للمواقع الدستورية في غياب المناشط الاخرى التي يمكن ان تستوعبهم في غير نزاع وأن تمتص هذا التطلع وتحويله الى جهة أخرى ليجد المرء نفسه فيها. فالمشكلة أساساً هي بين الطليعة من أبناء أبيي وحركة «الأنانيا 2» وليس بين المسيرية والدينكا وذلك لأن أبناء أبيي طلبوا من الحركة استيعابهم في وظائف قيادية بالجنوب إلا أن حركة «أنانيا 2» رفضت طلبهم بحجة أن الوظائف لا تُعطى إلا للمقاتلين. لهذا السبب لم يُوفق أبناء أبيي في أي مواقع وظيفية عدا اثنين واحد في الجنوب وهو حسن دينج مجوك والآخر جستن دينج أقوير كمساعد للمحافظ في منطقة أبيي العام 1975م وذلك عقب إتفاقية السلام 1972م والتي دامت لمدة عشر سنوات تقريباً. هذا النزاع بين الحركة وأبناء أبيي بحجة عدم المقاتلة مع إخوانهم الجنوبيين دفع أبناء أبيي الى المشاركة الفاعلة في القتال حينما اندلعت حركة جون قرنق في العام 1983م وذلك لإثبات حقهم في الاستوزار وشغل المناصب الأخرى في المجالات العسكرية والمدنية. وقد أصبحوا ضمن ما يسمي بأبناء قرنق خاصة عندما انشطر ريك مشار من أبناء النوير ولام أكول من أبناء الشلك وكاربينو كوانين وآخرون وبدأوا مصالحات مع نظام الخرطوم 1997م. وفي نفس الوقت لم يجد جون قرنق مساندة فعلية من غير أبناء أبيي وأبناء جبال النوبة الذين صمدوا معه وحموا ظهره في وقت العسرة. ونتيجة لهذه الحوادث فقد تضخم حجم أبناء أبيي في الحركة بحكم هيمنتهم عليها وثقلهم في الساحة السياسية والقتالية والأمنية. هذه الهيمنة استمرت كما هي حتى بعد عودة ريك مشار ولام أكول الى حظيرة الحركة إثر خلافهما مع حكومة الخرطوم. وعند التوصل الى سلام إثر إتفاقية 2005م وجد أبناء أبيي أنهم خارج المائدة حيث تقسم كيكة المصالح. وفي غضب شديد تلقى أبناء أبيي هذا الخبر وهم له مستنكرون ويرددون أنهم في المرة الفائتة كانت الحجة بإبعادهم لأنهم لم يقاتلوا مع الحركات السابقة وقد استدركوا هذا الأمر هذه المرة فما هي الحجة الجديدة التي تحجبهم عن كيكة الإقتسام؟ وقد فوجئوا بالرد بأنهم في الشمال لأن موقع أبيي الجغرافي هو شمال حدود 1956/1/1م وبما أن أبناء أبيي يعلمون هذه الحقيقة مسبقاً فكان لابد من التحوط لهذه المسألة بعمل بروتوكول خاص لأبيي ليكون مجالاً لطهي مستساغ ومشهي ليكون مأكولاً طائباً من جديد. والسؤال الذي يقفز للذهن مباشرة هو من وراء هذا البروتوكول؟ إنه فرانسيس دينج مجوك من مركز الدراسات الاستراتيجية بواشنطن والذي يعمل فيه القس دانفورث. هذه هي اللعبة!. فالفكر المنقول من فرانسيس دينج مجوك ال دانفورث كان يرمي لشيئين مهمين هما بروتوكول خاص بأبيي وأن يحكم السودان بنظامين كونفدراليين واحد في الشمال الإسلامي والآخر في الجنوب تقليدي. إن الفكر السياسي الأمريكي كثيراً ما يكون مبنياً على ما أنتجته مراكز الدراسات البحثية الأمريكية وفق ما لدى الباحثين هنالك من رؤى تشكل السياسة الخارجية على وجه الخصوص. ولهذا جاءنا دانفورث متأبطاً أفكار فرانسيس دينج ليفرضها على الشعب السوداني المنكوب بأبنائه غير المخلصين. من هنا بدا الصراع بين أبناء أبيي والحركة وليس ثمة نزاع بين المسيرية «الغبش» والدينكا نقوك، فالأمر كله لا يعدو أن يكون «سلبطة» ومماحكة تبريرية لمواقع سياسية يحتمل فقدانها. فالأمر سياسي بحت بدليل ان المسيرية والدينكا لم يتقدم أي منهما بشكوى ضد الآخر سواء الى لاهاي أو لأية جهة اخرى وإنما النزاع هو بين أبناء أبيي الذين تقمصوا الحركة وأصبحوا يتحدثون باسمها ولم يذكروا يوماً ما أي قضية لهم ضد المسيرية وإنما مع المؤتمر الوطني. فالمؤتمر الوطني ليس بالمسيرية والحركة ليست بالدينكا نقوك.. ماذا دهاك يا بلادي؟ أهو جنون البشر!؟! حينما صدرت الدراسة من مركز الدراسات الاستراتيجية بواشنطن وذلك قبل تقرير الخبراء بأقل من شهر وقد اطلعت عليها بنفسي فقد أصابتني الدهشة حينما وجدت أن تقرير الخبراء هو نفسه صورة منقولة من تلك الدراسة. وبمعنى آخر أن هناك توجيه مسبق للخبراء بتبني هذه الدراسة ولتوي رفعت الأمر لجهات الاختصاص العليا بالمؤتمر الوطني يومذاك بأن هذا الاقتران ليس من قبيل المصادفة وإنما هناك أمر يُحاك وراء هذا التلاقي. وقد أجابت هذه الجهة العليا بأنها تعلم بذلك وحينها ما علينا إلا البلاغ المبين. حينما تعثر أمر أبناء أبيي في الحصول على مواقع دستورية بالرغم ما هو مشهود لهم بمحاربتهم وقتالهم في الحركة وذلك بحجة أن أبيي تقع في شمال حدود خط 1956/1/1م، من هناك بدأت المراوغة لمعرفة حدود أبيي الأصلية علماً بأن القرية التي عاشت فيها بطون قبيلة دينكا نقوك الثمانية وليس التسعة تقع حوالى «47» كيلومتراً جنوب بحر العرب حيث يقبع قبر جدهم أروب بيونق الذي ما أن مروا به إلا وخروا له ساجدين ودفعوا من مالهم أتاوات القدسية ورسم الولاء لقيادته الكارزمية وقد فعلوا ذلك عند زيارة المنطقة مع الخبراء ووفدي الدينكا والمسيرية عند بحث هذه اللجنة المشتركة عن مواقع أبيي 1905م. الجدير بالذكر أن الحكم البريطاني قد خلف من ورائه حدوداً ثابتة بالخرسانة المسلحة تفصل بين كردفان الكبرى وبحر الغزال (Concrete pegs fixed on the ground) ويمكن الوقوف عندها في أي وقت. أما أسباب وجود دينكا نقوك في الموقع الحالي الذي ينازعون فيه المسيرية بأنه الموقع الأصلي لقراهم فإنه يرجع لغارات بعض القبائل من غير المسيرية التي كانت تهجم عليهم وتسترق أبناءهم وهم في حاجة ماسة لحماية حكومية ترعى مصالحهم وأمنهم. وبناء على اتفاق بين مدير مديرية بحر الغزال في ذلك الوقت ومدير كردفان فإن حماية هذه المجموعة من الدينكا من جهة بحر الغزال أصبح متعذراً لصعوبة المواصلات وبُعد المنطقة من رئاسة أقرب مركز إدارة. لهذا وافق مدير كردفان بترحيلهم شمال بحر العرب وفي الموقع الذي هم فيه الآن لسهولة الإشراف عليهم إدارياً وحمايتهم أمنياً من أية غارات من الجهات الاخرى. لقد تم ترحيلهم بالفعل على أقدامهم هم وأبقارهم عابرين بحر العرب الى الشمال. ولم تكن هناك أرض استقطعت مطلقاً (No land was ever administratively annexed or chopped off on maps and then attached to another province at all, but only the people of Abyie were displaced or relocated for security reasons) وحتى هذه اللحظة لم يحصل احد على أي مستند تم بموجبه استقطاع أرض من مديرية ليتم ضمها الى مديرية أخرى. ومن العجب أن تقر حكومة المؤتمر الوطني بأن هنالك أرضاً استقطعت كأمر مسلم به لتنص عليه في البروتوكول كأمر مفروغ منه. وقد وردت هذه التفاصيل في مذكرة أبناء المسيرية للسيد رئىس الجمهورية مبينة عدم وجود أرض مستقطعة أساساً وتليت عليه في لقاء بمنزله. بعد استقرار أبناء دينكا نقوك في المنطقة ونسبة لزيادة التعداد السكاني بحكم التوالد الطبيعي فقد انفصلت احدى بطون دينكا نقوك وفي وقت قريب لتشكل رهطاً جديداً كفرع قبيلة (as a new lineage or clan) ومن ثم أصبحت مشيخات أبيي تسعة. ماذا يفعل أبناء أبيي ليثبتوا حقهم في قسمة السلطة والثروة مع الجنوب وهم في الشمال؟ وهنا مربط الفرس!! ولابد من لي الذراع لإدخال أبيي في الجنوب لضمان أن أبناء أبيي قاتلوا مع الحركة وأنهم في نفس الوقت في الجنوب. ولا حجة يمكن ان تُقدم ضدهم حتى يُحرموا من الاستوزار ومن هنا بدأ صراع أبيي لتكون في الجنوب قسراً وعلى عينك يا تاجر. مآلات قرار لاهاي لقد احتكم المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في نزاعهما حول أبيي الى محكمة لاهاي وقد صدر قرار التحكيم وهو أشبه بالمثل القائل «لا يقمح المرفعين ولا ينجي الغنم» وهو قرار سياسي لعبت فيه جهات كثيرة وكان مضمونه هو عدم إلغاء تقرير الخبراء مبدأ وإنما «مجاوطته» بطريقة لا تغضب الأطراف الأربعة كثيراً وهذه الأطراف هي المؤتمر الوطني والحركة الشعبية «بقيادة أولاد أبيي» والمسيرية والدينكا نقوك. فالموضوع ليس فصلاً قضائىاً بحتاً وإنما تسوية سياسية وهذا ما أشار إليه القاضي الخامس السيد عون الخصاونة في لجنة التحكيم الذي رفض التوقيع على نتائج التحكيم باعتبار أن ذلك القرار يشكل سابقة قضائية خطيرة تتنافى مع الإرث القضائي الدولي وأسس العدالة التي ينبغي اتباعها. وبنفس الطريقة فقد رفض أحد الخبراء الخمسة التوقيع على التقرير لما تجاوزه الخبراء من صلاحيات التكليف. إن الخبراء قد أوضحوا في تقريرهم آنف الذكر بأن الأراضي الواقعة شمال أبيي الحالية خالية من المياه ويعني ذلك أن المسيرية لابد لهم من تجاوز تلك المنطقة جنوباً الى مواقع الرعي والمياه وبصفة عاجلة. وهذا أمر غير مُختلف عليه. ولكن الكارثة ستأتي حينما ينفصل الجنوب «لا قدر الله» وأن العرب الرُّحّل يسيرون بنفس نهجهم القديم وهم يعبرون هذه المناطق الى حيث الكلأ والماء وسلطات الجنوب تقول لهم لا مانع من العبور ولكن شريطة ألا يحمل أحد معه سلاح. وكيف لا يحمل المسيرية السلاح لحماية أموالهم ومواشيهم التي هي روح حياتهم التي بدونها هم لا يعنون شيئاً. وهنا يبدأ النزاع من جديد وقد تتطور الصراعات المسلحة لما لا تُحمد عقباه. وهل بالإمكان أن يُسمح للمسيرية بحمل أسلحتهم وأن يُحاسب الأفراد منهم فقط على الجرائم التي قد يرتكبونها. وهنا يأتي ما يستوجب على حكومة المؤتمر الوطني من الإجراءات والتحوطات الأمنية والبرامج الاستقرارية لاحتواء حاجيات المسيرية العاجلة وذلك بعمل سدود ونقاط مياه خاصة بالنسبة لمرحال الوسط الذي يتأثر مستخدموه مباشرة عند حركة الماشية الى الجنوب. إذن لابد من خطة إسعافية عاجلة وقبل الاستفتاء في 2011م لمقابلة احتياجات المسيرية الرُّحّل وذلك تفادياً لإدخالهم في معارك هم أساساً ليسوا طرفاً فيها، وإنما هي نتاج سياسات فاشلة من المركز. ومن عجب ألا يعترض المركز على تكوين لجنة الخبراء التي يرأسهما أمريكي كان سفيراً في الخرطوم وتم طرده من قبل و الشخص الثاني منسوب للبريطانيين وهو أمريكي كذلك. وبالرغم من أن التعيين تم من جهة الإيقاد إلا أن حق الاعتراض كان موجوداً بالنسبة لحكومة المؤتمر الوطني علماً بأن الإىقاد يهيمن عليها الظل الأمريكي ونسبة لتجاوز هذا الثنائي لصلاحياته وهو يجر الآخرين من كينيا وجنوب افريقيا فقد دعا ذلك كله العضو الخامس من اثيوبيا رفض التوقيع على التقرير. أثر التحكيم على الوسط المحلي من جهة نظر المسيرية فإن التحكيم جائر وسياسي بحت والمقصود منه الاحتفاظ بتقرير الخبراء الذي يحمي مصلحة أبناء أبيي ليكونوا داخل الجنوب وذلك وفق منطلق فرانسيس دينق وهو في مركز الدراسات الاستراتيجية الذي ينفذ له خططه ونواياه القس دانفورث. أما ما يدور في الرأي العام في المنطقة فإن قرار التحكيم سوف لا يكون من المسلمات كواقع يهدد المسيرية باستخدام البند السابع من اختصاصات مجلس الأمن. إن الواقع سيكون خراباً لأبيي مهما تدثرت بدروع وصلاحيات مجلس الأمن وقد استمعت الى بعض أبناء المسيرية الذين يقولون إنه حينما كانوا في حالة حرب لم يتمكن أحد من أخذ أرضهم فكيف يتم نزعها وهم في حالة سلم. إن الأمر يتطلب من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية التدخل لتدارك أي تداعيات لهذا القرار قبل أن تنفجر الأحوال الأمنية هناك وتنعكس حتى على الخرطوم. إن الأمر يتطلب معالجات عاجلة ودراسة مستعجلة للموقف قبل إنفلاته والتحكم فيه مبكراً حتى لا يخرج الأفراد من قياداتهم القبلية وتظهر من جديد حركات مماثلة لدارفور ووادي سوات بأفغانستان بالرغم من وجود مجلس الأمن. إن أبيي كنا نحسبها ونأمل فيها أن تكون بوتقة انصهار (as a crucible or a melting pot) لقبائل التماس ومثالاً يُحتذى في التلاقي والتلاقح الاجتماعي ومنتجعاً للتآخي وبناء الثقة وصيانة للنسيج الاجتماعي وجسراً للتواصل والتكامل وتذويباً لفوارق العرق وركيزة وآلية لصيانة النسيج الإجتماعي. إلا أن مثل هذه السياسات التنازعية فإنها لا محالة تسبب الفرقة والنفور وتزعزع الثقة وتُغِّيب الشفافية وحُسن النوايا وتجلب التشكك وتُبقي الحذر. إن بيئة التعامل القبلي تكون بذلك قد اهترأت واهتزت وسيطرت عليها المخاوف والتردد في التعامل وتربت فيها روح العدائيات (Belligerent and Pugnacious Attitudes) هذه البيئة الجديدة قد صورت سابقة خطيرة للتعامل بين القبائل بعضها البعض وتشكل دعوة لعدم استضافة أي جسم غريب وسط القبائل ولو كان ذلك استجارة حتى لا يكون سرطاناً يحتوي القبيلة الأصل وينكر عليها سماحتها وفضلها في إيوائه من قبل. العوامل التي دخلت وأزّمت الموقف؟ أهم هذه العوامل آثنان هما: البترول وأطماع الأمريكان. مع اكتشاف البترول ارتفعت شهية الحركة بقيادة أبناء منطقة أبيي للمال بالتنسيق مع الطامع الأكبر الأمريكان. وهناك من يقول إن أبيي تمثل مركز حوض البترول ومن يقول آخر إن المركز يقع في حقل دفرة وقد تم احتواء الاثنين في حدود مشيخات دينكا نقول ومن طرائف الأمور أن قرية دينج ألور قد وقعت خارج حدود منطقة أبيي الجديدة. فقد حدثني أحد أطراف المسيرية أنه إن جاز لأسرة دينج ألور بالرحيل الى داخل حدود أبيي فإنه يجوز بالمثل لبعض قرى المسيرية المجاورة بالدخول في الإطار الجديد وذلك لأن الحدود الجديدة لا تبعد الآخرين من غير أبناء دينكا نقوك. إن الأمريكان يسيل لعابهم على مال البترول في السودان وأن المنطقة الغنية بالبترول والفقيرة في إحقاق الحق لقاطنيها يتلمظ لها لسان الأجانب من وراء الصفوة من أبناء دينكا نقوك وها قد فعلوا على خلفية ضعف قيادة المؤتمر الوطني. إن الأمر يمكن احتواؤه منذ البداية بالثبات على حدود السودان العام 6591م كماأصر عليها الدكتورغازي صلاح الدين في مشاكوس الذي أبعد لسبب من الأسباب لتأتي من بعده مضاعفات التساهل والتليين. إن الموافقة على مبدأ وجود بروتوكول خاص لأبيي وإخراج اتفاقية جبال النوبة (ملوص) لم يكن صدفة. وهذه هي النتائج دماء وأشلاء ونقص في الأموال والأنفس والثمرات، وسيجد المسيرية وغيرهم من المظلومين سيجدون حقهم أمام خالقهم يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا سلطان إلا من أتى الله بقلب سليم. مقترحات الحلول: 1. استسلاماً للأمر الواقع فإن الموضوع قد خرج من أيدي السودان ليكون تحت مسمع ومرأى وإشراف المحيط الدولي ومجلس الأمن بقيادة أمريكا والذي هو بدوره يبحث عن ذرائع للإنقضاض على السودان كمن هو في البحر ويقول لغريمه (كتحتني بالتراب). هذا الموقف يجعل المؤتمر الوطني في حالة انكماش سياسي ولا يستطيع إدخال أصبعه في رماد العام الماضي لأنه يحسب أنه مازالت في داخله (ملّة) أي نار. هذا التوجس مع الحسبنة الشديدة يجعل نظر المؤتمر الوطني يعشو عن الدخول في أي أمر يتعلق بقرار محكمة التحكيم. ولكن ما هي البدائل؟ لابد إذاً من عمل خطة إسعافية سريع لاحتواء مردود إفرازات هذا لقرار علماً بأن قرار الخبراء قد نص صراحة بأن الأراضي شمال أبيي جافة وخالية من المياه على طول المرحال الوسط (Torrid Zones) وهي الخاصة بالمزاغنة وأولاد كامل ولابد من توفير سدود وآبار بصفة عاجلة لاحتواء احتياجات هذا القطاع من المسيرية، 2. ثانياً لابد من التفكير الجاد لبناء قرى نموذجية تحتوي على كافة الخدمات الأساسية لتكون نواة للاستقرار مع بناء داخليات للتلاميذ وتمويلها لاستيعاب أطفالهم لإحداث التغييرات الاجتماعية والنهضة التعليمية والنقلة المستقبلية من بيئة رعوية الى استقرار يتم فيه تحويل المنطقة عن طريق التعليم الى مهن أخرى غير الرعي والبعد بهم عن أسلوب الحياة المتخلف لسبل كسب عيشهم. إذن لابد من عمل دراسة كاملة للتخول الاجتماعي والاقتصادي علماً بأن الأرض واسعة تستوعب المسيرية وغيرهم في حالة تغيير نمط استخدام الأرض وغيرها من الموارد المتاحة وفي حالة تراخي السياسات وإغفال احتواء هذه المسائل فإن الناتج الطبيعي سيكون حركات مسلحة وتخريب في آبار البترول وعدم استقرار أمني قد يلاحق الخرطوم ويومها سوف لا تكون هنالك أبيي ولا مسيرية ولا بترول. إن الآثار السالبة التي بدأت تظهر في المنطقة بسبب البترول من نفوق للحيوانات وسرطانات في الإنسان جعلت المواطن المحلي يفكر من جديد ويسأل نفسه ماذا استفدت من البترول غير أنه أتى لي (بالبلاوي) والمحن واستفاد منه غيري ودون اعتبار لما جلبه لي من ضرر. ومن هنا تكمن مبررات الحركات لمناهضة السياسات المركزية ورفض هذه الحركات لتخريب بيئاتها النظيفة بسبب البترول ومن ثم اختلال النسيج الاجتماعي وتنامي حالة الإمتعاض والتذمر ضد المركز وبالتالي سينعكس ذلك في صناديق الإقتراع في الإنتخابات القادمة واللاحقة حتى لو زال هذا النظام. وذلك لأن حالة النفور والتشكك التي انغرست في جيل الحاضر من السهل نقلها الى الأجيال القادمة. لهذا لابد من احتواء المسألة بالخدمات الأساسية بصفة عاجلة لمحو مثل هذا التفكير من أذهان المواطنين هناك ولتكون مصدات وحواجز نفسية ضد التشكك وعدم الثقة والمصداقية ولإزالة الغيوم المتراكمة والكثيفة والتي قد تحجب الرؤية تماماً. كذلك لابد من توعية إعلامية وسط هذه القبائل لتهدئة الخواطر وامتصاص الغضب وتبريد النفس الحار مع التركيز على الإنجازات الملموسة والواقعية في المنطقة لاحتواء أثر قرار التحكيم الجائر بالنسبة لهم وهم لايحتاجون لمعسول الكلام بل المطلوب الابتعا دعن التسويف مثل (سنعمل لكم) والبديل لذلك (إننا عملنا لكم) فالوعود العرقوبية لا مكان لها في تلك البيئات بل أنها أدعى أن تخلق مزيداً من الشكوك وعدم الثقة وقد تدعو للتصرفات غير المسؤولة التي تنعكس سلباً على الأمن والاستقرار المحلي وما حدث بالأمس القريب بدخول مجموعة كبيرة من العربات الرباعية الدفع في منطقة سموعة والتي تقع على بعد قريب من المجلد وبقيادة أحد أبناء المسيرية وهو تابع لحركة العدل والمساواة، خير شاهد على ذلك. ويومها لو أنفقت حكومة الإنقاذ كل مال البترول لما تمكنت من احتواء الموقف وحادثة اليوم هي امتداد طبيعي لما يجري في دارفور. إن البيئة السياسية والاجتماعية والأمنية كلها فوق برميل بارود ملتهب وقابلة للانفجار في أية شرارة خاصة أنه قد رسخ في مخيلة الغالبية من الناس هنا أمن مشكلة أبيي ما هي إلا صنيعة الإنقاذ بسبب تراخيها في الأمور والسكوت عن طغيان أبناء أبيي في الحركة كما لا يفوتنا أن نذكر أن جبال النوبة هي بؤرة توتر أخرى فإذا انفجرت الأزمات في هذا الحزام الذي وصفه الانجليز بأنه حزام البقارة الأمني وتجدون ذلك مكتوباً في الخرائط السابقة فإن أمر السودان كله سيكون في عجب وليس لأحد أن يحسده عليه. وأخيراً نقول ماذا يضير الحكومة لو تبنت فكرة بناء قريتين نموذجيتين واحدة في أبيي القديمة (74) كيلومتراً جنوب بحر العرب وأخرى في أبيي الحالية وعملت تسوية لمشكلة البترول التي أزَّمت الموقف مع حل مشكلة استوزار أبناء أبيي الذين يتصارعون فوق أهلهم وباسم أهلهم الدينكا والمسيرية. وليس لأي من المسيرية ولا الدينكا ناقة ولا جمل في هذا الصراع الفوقي بسبب الأطماع الذاتية غير الإفرازات السالبة والمضرة بالنسيج الاجتماعي والتعايش السلمي وصدق المثل القائل (إنك لا تجني من الشوك العنب). *محافظ سابق