حظيت أعمال ونتائج المؤتمر العام الثالث للمؤتمر الوطني بتقريظ معهود من كتاب الرأي والأعمدة في الصحافة السودانية من مؤيدي المؤتمر، ولم يصدر حتى كتابة هذه السطور تقييم علمي موضوعي من الآخر السياسي المعارض أو المراقب المحايد. وقد لا تعني فعاليات المؤتمر في مجملها هذا الآخرإلا أن البيان الختامي الذي صدر في ختام الجلسات التي استمرت من الخميس الأول من اكتوبر الجاري الى الثالث منه مضافاً إليها وربما متقدماً عليها خطاب المشير عمر البشير رئيس الحزب رئيس الجمهورية يستحقان دراسة موضوعية بحسبانهما «البيان والخطاب» السياسة المعتمدة من الشريك الأكبر في حكومة الوحدة الوطنية ومؤسساتها المختلفة للمرحلة القادمة. ---- ولا تتحمل الظروف السياسية والمرحلة المفصلية التي خطا نحوها السودان خطوات واسعة اعتبار الخطاب والبيان مجرد كلمات منمقة تُقال في هذه المناسبات دون أن تعني شيئاً، فالرسائل التي حملاها موجهة بوضوح للداخل والخارج، خاصة وأن هذا الأخير بعد ان استمع الى شكاوى المؤتمر الوطني «عن مؤامراته التي تعرقل التزامه بالمعايير الدولية في المجالات كافة» قرر على عكس العقدين الماضيين الصبر وتصديق التعهدات غير المكتوبة والاكتفاء بالترحيب بكل خطوة إيجابية مهما صغر حجمها». إن القراءة السريعة والمتأنية لحد ما للبيان الختامي وخطاب البشير مع استبعاد الشك في نوايا المؤتمر الوطني وكبار مسؤوليه ولو الى حين تكشف عن جدية واضحة للإنتقال الى مربع سياسي جديد يتناسب مع ضرورات التحول العملي نحو الديمقراطية والتداول السلمي الفعلي للسلطة. إن استبعاد الشك الى حين يعني إنتظار تحويل التعهدات الواردة في البيان والخطاب الى واقع ملموس وذلك بالاستجابة لمطالب المعارضة الموضوعية والمتمثلة في المقام الأول بإعادة النظر وتعديل وإلغاء القوانين المقيدة للحريات. هذا على صعيد الشريك الأكبر، أما المعارضون فهم مطالبون بالنظر الى الكوب المليء بالماء الى منتصفه واعتبار التعهدات المتعلقة بالتحول الديمقراطي وتداول السلطة أساساً لميثاق تلتزم به كل الأطراف حتى تتجنب البلاد المطبات الدامية التي مرت بها كينيا وزيمبابوي وإيران الى حد ما، واعتبارها «الخطاب والبيان» المرجعية التي يحاسب على أساسها المؤتمر الوطني سياسياً. ولا يغيب عن ذهن المراقب أن البند ثانياً في البيان الختامي قال: «يؤكد المؤتمر الوطني ان التطور الدستوري والسياسي في بلادنا بعد اتفاقية السلام يحتاج الى ممارسة سياسية راشدة ومسؤولة لتأمين الاستقرار السياسي، والمؤتمر الوطني يؤكد للشعب السوداني وأحزابه السياسية أن الحرية تعتبر مبدأ دينياً ووطنياً، وأن الحرية السياسية حق وليست منحة، والمؤتمر الوطني بحكم مسؤولياته يؤكد أنه ملتزم بتهيئة المناخ الحر والمعافى للممارسة السياسية بالتضامن مع كل الشركاء وبالتعاون مع كل جهدمخلص». وفسر البشير هذه الفقرات بشكل اكثر وضوحاً بقوله: «الإنتخابات حق دستوري والتزام مثبت في الدستور، إنها تكون حرة ونزيهة لأن هذا العمل عبادة لله تعالى وأن نضمن لا تزوير ولا غش لأنها تقرب الى الله ولا تقرب لله بالغش والتدليس». تحويل هذه المعاني الى حقائق يفرض على كل الأطراف البدء في حوار عميق «ليس شرطاً أن يكون مباشراً» عبر المنابر التي قالت السلطات الأمنية إنها رفعت عنها رقابتها ومضايقتها «الصحافة والندوات الحزبية». هدف الحوار هو الاتفاق على معايير الإنتخابات الحرة، النزيهة والشفافة، وهي معايير تقول الأدبيات الدولية إنها تبدأ منذ الإعلان عن تحديد موعد إجراء الإنتخابات. فمثل هذا النوع من الإتفاقات يوصد الباب تماماً أمام التشكيك في جدية المؤتمر الوطني وحكومة الوحدة في الإنتقال الآمن الناعم الى حد كبير، لمرحلة تاريخية جديدة ورغم أن نشاطات المؤتمر الوطني في مجملها تخص منسوبيه إلا أن المتابع المحايد لا يستطيع تجاوز دعوة المؤتمر لشهود دوليين وإقليميين على تعهداته، ولا يمكن ان يغض الطرف عن سماحه لقادة المعارضة «المهدي، ونقد، وأبوسبيب» بتوجيه نقد لممارسات الشريك الأكبر في حكومة الوحدة الوطنية، وفي المقابل فإن ممثلي المؤتمر الوطني الذين شاركوا في فعاليات أحزاب المعارضة خلال العام الجاري اكتفوا في الغالب بإلقاء كلمات مجاملة وتمنيات. وقد استثمر البشير هذه المشاركة ليرسل من خلالها رسالة تؤكد أنه وهو يعتمر قبعة رئيس الجمهورية ليس رئيساً للمؤتمر الوطني أو لشركائه في الحكم فحسب، بل يقف على مسافة متساوية وهو يقبل ما يصدر دون تشكيك في وطنيتها أو ارتهانها للأجنبي من الجميع. وتتبدى هذه الرسالة في قول البشير في الجلسة الختامية. «الشكر والتحية للقوى السياسية التي شاركتنا وتحدث قادتها في هذا المنبر وخاطبوا المؤتمر، ونحن نقول هذه بشارة خير لأنه من أهم أهدافنا الوحدة الوطنية. وعندما تحدثنا عنها لم نتكلم عن حزب واحد أو حزب شيوعي ولكن نتكلم عن بلد تسع كل أهلها بكل توجهاتهم ومكوناتهم وأعراقهم وقبائلهم. ويكفي أن المنصة استقبلت اليوم محمد إبراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي واستقبلت إسماعيل رئيس جماعة أنصار السنة، المؤتمر الوطني هو بين هذين القوسين». إن بناء المعارضة على ما صدر من المؤتمر الوطني وقبول الأخير ملاحظات المعارضين التي لا تمس جوهر التزاماته الدولية والمحلية «نيفاشا» ليس بدعة ولا ينتقص من قيمة أية مجموعة «إيطاليا الثمانينيات في ظل التسوية التاريخية مثلاً» وليس مهماً كما تقول الحكمة الصينية ان يكون الهر أسود أو أبيض، المهم انه يلتهم الفئران، «الشك والريبة والتآمر والتقليل من قيمة الآخر». ملحظ مهم تابع كاتب المقال بدقة عدداً من الإنتخابات التي جرت أخيراً في بلدان العالم الثالث، ولحظ ان كل الإنتخابات التي جرت بعد إتفاق بين الفرقاء وعلى أسسها معايير الشفافية والنزاهة وآليات المراقبة أثمرت قبولاً بنتائجها دون إثارة أية أزمة. «لبنان وموريتانيا والمغرب نموذجاً»، أما التي أصم فيها القائمون على أمرها آذانهم عن سماع الرأي الآخر وحددوا المعايير وراقبوها بإرداة منفردة، فإنها أسفرت عن أزمات دموية ما زالت آثارها تتفاعل رغم مرور عام على الأقل في بعضها «كينيا، وزيمبابوي، وإيران نموذجاً».