على مدى ال (145) دقيقة، طول المسافة الزمنية الفاصلة بين الخرطوم ونيروبي، تودع الطائرة شمس أبريل الحارقة خلفها ما إن تغادر مجال الخرطوم الجوي، وتشق صفحة السماء صوب الجنوب جهة نيروبي، تسابق كتل الغيوم السوداء، ونتف الرباب الشفافة الهاربة، المشهد الأعلى ينبئك بأيام نيروبي المبللة، حيث يشتاق الناس لأشعة الشمس، وبريق النجوم، وضوء الهلال البازغ. تتراءى المدينة من فوق قبة السماء، كزهرة نابتة متفجرة، وسط بساط حريري مذهل، يسبي النظر، صورة لا تشابه تلك المخزونة في مخيلتي، المحاصرة بالأخبار المنشورة على الصفحات الاولى للصحف، والروايات المنقولة، الممزوجة بالتهويل والأساطير، والتشويق والتخويف. ومن على مدرجات المطار، استقبلت الخضرة والماء وعدة مرائي حسنة أخرى، وفد الإعلاميين السودانيين المكون من خمسة عشر عضوا للمشاركة مع عشرة إعلاميين من دولة جنوب السودان، في ورشة تدريبية حول دور الإعلام في دعم السلام والتعاون بين دولتي السودان عبر مناصرة إنفاذ الاتفاقيات التسع الموقعة بأديس ابابا بين الخرطوموجوبا، بدعوة كريمة من جمعية الإخوة السودانية (الشمال والجنوب)، وقدم أوراق الورشة الأستاذ محجوب محمد صالح وبروفيسور على شمو ود. الطيب زين العابدين من السودان، والأستاذ الفرد تعبان من جنوب السودان ومستر وانجتي موانجي من كينيا، ود. رقية كاسينالي من موريشص. صورة السلام والإخوة وبالنسبة لدولتي السودان، غدت نيروبي تمثل صورة للسلام بكل ركائزه، وأضحت قبلة لهما، ورمزا للسلام والإخوة ولكل ما هو مبشر بالغد السعيد، تلك الصورة الذهنية المختزنة لدى السودانيين عن نيروبي، فمنذ أن نقلت الحركة الشعبية مركز ثقل مقاومتها من أديس أبابا إلى نيروبي، شكل ذلك الانتقال نقطة تحول كبرى في اتجاهات الحركة التي جنحت للسلم، ونبذت الحرب، وختمت ذلك بالتوقيع على اتفاقية سلام منتجع نيفاشا، الذي يقع على بعد ساعة من العاصمة، في ذلك المكان تعهد المقاتلون بوقف سفك الدماء، وترجيح الحوار كآلية لحلحلة القضية، ورغم ان الإخوة الجنوبيين اختاروا الانفصال والاستقلال بدولتهم، ابان الاستفتاء، بيد أن امل العودة ما زال يراود البعض منهم، وان لم تكن عودة كاملة لحضن الوطن، تكون علاقة حسن جوار مميزة. واعتبر مراقبون وخبراء أن العلاقة بين دولتي السودان متينة في الأصل وما يقوي أواصرها أقوى بكثير مما يضعفها ويفرقها، وأن دم الإخوة كفيل بتحجيم الانفصال في إطاره السياسي. روح قرنق من المفارقات أن قاعة النخيل بفندق الجاكراندا التي جرت بها مداولات الورشة، شهدت أولى الاجتماعات التي وضعت اللبنة الأولى لاتفاقية السلام الشامل (نيفاشا)، ففي ذات القاعة التقى شركاء السلام السودانيون وزعيم الحركة الراحل د. جون قرنق مع الوسطاء الساعين لترسيخ مبادئ السلام وحل قضية الجنوب بصورة نهائية، وطي ملف الحرب، لذا يمكن أن نقول إن روح الراحل جون قرنق مازالت هائمة في فضاء المكان، تبشر بالمحبة والسلام والحقيقة المنشودة والإخوة التي كانت واحدة من أهم أهداف الورشة، فكل ما بقي هو الإخوة الجامعة بين شطري السودان، مع أمل متعاظم لوحدة ثانية تماما كما الحالة الألمانية. حكايات كاستيلو وأقر المشاركون في الورشة، بأهمية دور الإعلام، لبناء الثقة وتعزيز وشائج القربى الشعبية وفق ما جاء في بنود التفاوض وحسبما هو متوارث، وروى السيد كاستيلو قرنق المستشار السابق وآخر وزير خارجية للحركة الشعبية والذي حل ضيفا خفيفا على المكان خلال عبوره من ألمانيا في طريقه إلى جوبا، وروى حديثا نسبه للفريق جوزيف لاقو قائد حركة الأنانيا قائلا إن الفريق لاقو اخبره بأنه طوال زمن الحرب لم ينقطع التواصل بين الشعبين على مستوى الأفراد والقبائل وظلت حركة التواصل بلا انقطاع، وزاد كاستيلو بأن كلا الطرفين الشمال والجنوب، وبحكم الجوار الجغرافي محكومين بضرورة التعاون والتعايش لجهة ان السودانيين سيظلون في المنطقة ابدا، وحكى أنه وكونه من مناطق التماس وواحد من أبناء آخر سلاطين دينكا مريال باي، ذهب الى الشمال في العام 1964م وتعلم اللغة العربية بمدرسة الضعين، وكان اول دفعة التحقت بمدرسة الفاشر الثانوية العام 1969م، ولذا لا مناص له غير التعايش مع الآخر لجهة انه في نهاية المطاف لا بد من العيش معا، ولا بديل غير التعايش مع الشمال. وقال كاستيلو ان دور الإعلام في العصر الحديث مهم في التقارب بين الناس، بيد انه نوه الى ضرورة التفريق بين الرأي الصحفي المهني والتحقيق العميق ورأي وموقف الدولة، وضرورة فك الاشتباك بينهما، وقال إن ما هو يتراءى من موقف سلبي بين الطرفين يمكن توصيفه بأنه حالة احباط أكثر مما هو عداوة. حوار الأساتذة وطالب بروفيسور على شمو بضرورة ايلاء الاهتمام للتعاون بين البلدين في مجال الاعلام في هذه المرحلة وألا تترك للارتجال والتصرفات والمواقف الآنية وغير المرتبة، وشدد على ضرورة وضع استراتيجية ثابتة، فيما نوه الأستاذ محجوب محمد صالح الى عدم سماح الإعلام لنفسه بأن ينجرف بتيار العاطفة، وان يتمسك بالموضوعية وبالحقائق ويبتعد عن الاثارة حتى يوفر الأجواء المناسبة والهادئة للبحث عن حل سلمي توافقي يخدم المصالح المشتركة. ودفع د. الطيب زين العابدين بجملة من التوصيات كي يتمكن الإعلام من القيام بدوره الايجابي في بناء السلام، من بينها تعريف الجمهور بمضمون الاتفاقيات التسع وفوائدها العملية بالنسبة للبلدين ولقطاعات المجتمع المختلفة، ودعا إلى أن يكون ذلك بالوسائل الأكثر فاعلية في تعريف الجمهور بفوائد الاتفاقيات وضرورة التمسك بها وتنفيذها في أرض الواقع. والأمر الآخر توضيح المصالح المشتركة بين البلدين، والإسهام في بناء الثقة وتجاوز حالة العداء. فيما أشار الفرد تعبان إلى أن الصحافة مؤسسة من مؤسسات الديمقراطية، وأن ثمة مشابهة تربط بين أحوال الصحافة بين البلدين، وحسبما أفاد تعبان أن على الصحافة في دولة الجنوب أن تعمل على بناء مؤسساتها ومن ثم التوافق على ميثاق أخلاقي (تمت صياغته وسيطرح للبرلمان لإجازته). قصاصات على هامش مداولات الورشة، قال الفرد تعبان حين استهل تقديمه لإحدى الجلسات، إن الأستاذ محجوب محمد صالح اليوم يمثل عميد الصحافيين بحكم سنوات عمله الطويلة وخبرته واسهاماته، جرياً على سنة ماضية في العرف الصحفي والدبلوماسي. ومن خلال السرد الذي قدمه المحاضر الكيني لتجربة الصحافة الكينية خلال فترتي الانتخابات السابقة والماضية، طالب بضرورة أن ينتمي الصحفي فقط لقبيلة الصحافة للعب دور ايجابي في إرساء السلام. وفي ختام الجلسات بقيت الشبكة العنكبوتية الوسيلة المتاحة والمضمونة للتواصل لبناء جسر البداية، وانطلاقة ما يمكن تطبيقه على الواقع الافتراضي لوضع لبنة البداية.