من المفارقات العجيبة أن مدينة وادي حلفا وما جاورها من البلدات والقرى.. رغم أنها تقع بين سدين عظيمين «العالي ومروي» أنشئا أساساً لتوليد الكهرباء .. إلا ان المنطقة لم تنعم ابداً بهذه الطاقة وظلت محرومة منها طوال العقود الماضية.. عند بناء السد العالي قبل نصف قرن من الزمان اختصرت الاتفاقية التي أبرمتها حكومة عبود العسكرية ورصيفتها المصرية.. حقوق أهالي وادي حلفا, هذه الحقوق ظلت منقوصة حتى يومنا هذا رغم تضحيتهم العظيمة لتمكين «أشقائنا» في شمال الوادي من تحقيق حلمهم ببناء السد العالي.. شعر الحلفاويون ان حكومتهم العسكرية «باعت» منطقتهم للمصريين بثمن بخس.. مبلغ زهيد لم يتجاول «15 مليون جنيه».. غالبية أهالي المنطقة «50 ألف نسمة» اضطروا تحت ضغوط مورست عليهم بالهجرة القسرية إلى منطقة خشم القربة على بعد نحو ألفي كيلو متر ولكن الأقلية «حوالي 5 آلاف نسمة» فضلوا التمسك بأرض الجدود.. رغم قسوة الحياة.. في ظل العقوبات التي فرضت عليهم. فقد سحبت حكومة عبود الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والماء وحرمتهم من السكة الحديد الوسيلة الوحيدة حينذاك للسفر إلى السودان «هكذا كان القادمون يسمون بقية أنحاء القطر».. وذلك عقاباً لهم على «تعنتهم» ورفضهم للهجرة.. المهجرون والمقيميون على حد سواء شعروا بالغبن الشديد للظلم الذي حاق بهم ولضآلة التعويضات فشهدت المدينة العتية ومدن سودانية أخرى وفي مقدمتها الخرطوم مظاهرات تندد بحكومة عبود.. ولأول مرة في تاريخ حكم العسكر في السودان دعت هذه الاحتجاجات علنا بإسقاط نظام عبود.. وكنت شاهداً ومشاركا في تلك الاحتجاجات التي انطلقت من شارع الجمهورية.. مرددة هتافات مناوئة للنظام «إلى الجحيم ياعبود» وأذكر من الشخصيات النوبية البارزة التي شاركت في تلك المظاهرات الصاخبة الفنان الكبير محمد وردي والسياسي المرموق في ذلك الزمن الجميل محمد توفيق.. وكلاهما رحلا عن دنيانا الفانية.. أعتقد الكثيرون في تلك الفترة ان تلك المظاهرات عجلت بانهيار حكومة عبود التي كانت اصلاً آيلة للسقوط لعوامل عديدة ابرزها فقدانها للشعبية التي كانت تتمتع بها في سنواتها الأولى.. في السنوات الأخيرة ونسبة لفشل مشروع خشم القربة ولأسباب أخرى تتعلق بالمعيشة بدأ بعض الحلفاويين هجرة عكسية فتشتتوا في أنحاء المدن السودانية الأخرى.. واضطر غالبيتهم للاقامة ولو موقتاً انتظاراً للفرج في الأحياء الشعبية مثل الكلاكلات في ضواحي العاصمة.. بتشجيع وترحيب من جانب المقيمين الذين أصروا على البقاء في ديار أجدادهم.. بدأ بعض المهجرين العودة مؤخراً إلى وادي حلفا التي تشهد هذه الأيام انتعاشاً اقتصادياً نسبياً واستقراراً في الوضع الأمني الذي طالما اعتاد عليه الحلفاويون منذ القدم.. ويتوقع أهالي وادي حلفا مزيداً من النزوح العكسي بالانضمام إلى إخوانهم وخاصة بعد إعلان افتتاح الطريق البري قريباً والذي يربط مدينتهم بأسوان.. وبالاخص بعد قرار حكومة السودان امداد الكهرباء لمنطقتهم في الشبكة القومية بنهاية الشهر الجاري.. بعد انتظار دام اكثر من خمسين عاماً منذ بناء السد العالي..