ليس من قبيل الصدفة ان تكون أول فلسفة.. جمالية ظهرت في عالمنا العربي هي فلسفة العقاد والتي جعلت من الجمال والحرية شيئاً واحداً: فإن الفكر العربي الذي تحرر لم يلبث ان وجد «الفنون الجميلة التي تشبع فينا حاسة الحرية وتتخطى بنا حدود الضرورة والحاجة». أول مظهر من مظاهر ذلك «الفكر الحر الذي لا ترين عليه الجهالة ولا تغله الخرافات ولا يصده عن أن يصل إلى وجهته صادُ من العجز والوناء والواقع ان اهتمام العقاد بفلسفة الجمال لم يكن في صميمه سوى مجرد مظهر لتبرمه بعصر الجمود ونزوعه نحو إسراع الخطى إلى عصر الطلاقة والتجديد وقد إرتفعت صيحات كثيرة في عهد العقاد وما زالت تردد -معلنة أننا في عصر العلم فلا حاجة بنا إلى الأدب.وإننا في عصر النار والحديد فلم يعد ثمة مبرر لبقاء «الفن والجمال» وإننا في عصر الحقيقة فلا موجب للإلتجاء إلى الخيال، وكان رد العقاد على هذه الدعوات ان العصر الذي يحصر الحياة في نطاق واحد هو أخبث العصور وأسخفها، لأنه عصر ضيق الأفق يحصر الحياة في نطاق محدود «ولم يغلبنا الغرب لأنه قال بالعلم دون الأدب» أو بالمخترعات دون الأخيلة والخواطر النفسية، ولكنه غلبنا لأنه وسع نطاق الحياة» وهكذا كان دفاع العقاد عن الفن والأدب منذ البداية دفاع كاتب حر يؤمن بالطلاقة والتجديد ويجزع من كل مظهر من مظاهر الجمود -وقد عبر العقاد عن هذا الإيمان بقوة وصراحة حينما كتب يقول: «وسعوا أفق الحياة ولا تضيقوه وأنتم على ثقة من صواب ما تعملون، وجدوى ما تعملون»، أما «خذوا هذا ودعوا ذلك» فهو كلام كسالى مهزومين ولا يصلحون للعلم ولا للأدب». - وليس الجديد في فلسفة العقاد الجمالية هو توحيده بين الجمال والحرية - فقد سبقه إلى هذا التوحيد الفيلسوف الشاعر شيلر. وإنما الجديد أنه يوسع من معنى الحرية فلا يقتصر على فهمها بالمعني الإرادي البشري. بل هو يضفيها أيضاً على بعض الأشياء الجمادية الماثلة في الطبيعة، وبهذا المعنى تكون الحرية هي الإنطلاق من القيود التي تعطل مجرى الحياة وتعوق عن الحركة ولهذا يقول العقاد ان الماء الجاري أجمل من الماء الآسن، كما أن الوردة الطبيعية أجمل من الوردة الصناعية وهلم جرا، ولا يقتصر العقاد على القول بأن الشئ لا يكون جميلاً إلا بمقدار ما هو حر نعم إلا بمقدار ما هو حر.. بل إننا لنراه يؤكد أن درجة حيوية الشئ تتوقف على حظه من الجمال.. وإن مقياس الجمال في مضمار الحياة العصرية إنما هو تلاؤم العضو مع وظيفته، ولعل هذا ما عبر عنه العقاد حينما كتب يقول: «إنه كلما كانت وظائف الحياة ظاهرة غير معتاقة في حركتها كانت لأعضاء صحيحة حسنة الأداء وكان عمل الحياة بها سهلاً وحريتها فيها أكمل. وكلما كان العضو سهلاً لعمل الحياة كان مؤدياً لغرضه موضوعاً في موضعه وكان مبرأ من النقص والعيب فهو العضو الذي يحارب مطالب الحياة ويحقق لها حريتها وهو العضو الجميل.. «يتبع».