القناعة التي تسود بين كثيرين، أن أمريكا هي أكبر أعداء الإنقاذ وأكبر الراغبين في إسقاطها، لكن برينستون ليمان، مبعوث الرئيس الأمريكي في السودان، لا يشارك هؤلاء ذات القناعة فيما يبدو، بل يقول لصحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية في حوار نشر قبل يومين، إن واشنطن لا ترغب في إسقاط النظام، وليس ضمن أجندتها انتقال احتجاجات الربيع العربي الحالي إلى شوارع الخرطوم. تقارب المواقف الأمريكية وتطابقها في بعض الأحيان مع مواقف المؤتمر الوطني مؤخراً، دفع الجنرال سكوت غرايشون المبعوث الأمريكي السابق لأن يقطع بنزاهة الانتخابات العامة الماضية قبل إجرائها كما يرى البعض، لتتطابق بذلك رغبتان عارمتان لدى الإنقاذ وواشنطن بإجراء الانتخابات ورفع مستوى مصداقيتها، تمهيداً لرغبة مشتركة أخرى لم تكن سوى إجراء الاستفتاء في جنوب السودان، وإكمال آخر خطوات اتفاقية السلام الشامل. ذلك التماهي السياسي اللافت بين الولاياتالمتحدة والمؤتمر الوطني، دفع قادة الوطني إلى التعليق عليه حينها على أكثر من وجه، فبالنسبة لنافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية فإن زعم المعارضين بأن أمريكا نفسها أصبحت (مؤتمر وطني) يدل على قوة الإنقاذ وضعف معارضيها وعدم جدوى مواجهتها، أما بالنسبة لغازي صلاح الدين فإن تطابق المواقف السياسية مع واشنطن كان مرحلياً ومؤقتاً، ولا يعول الإنقاذيون عليه كثيراً فيما يخص تطبيع علاقتهم مع واشنطن. ضوء أخضر قبل تصريحات ليمان بوقت طويل، قدم محمد أبو القاسم حاج حمد - المفكر السوداني الراحل - أطروحة مفادها أن قدوم الإسلاميين إلى السلطة في الخرطوم تم بضوء أخضر من واشنطن، التي رأت في الإسلاميين قوة مناسبة قادرة على خلق نوع من الاستقرار في السودان ومنطقة القرن الإفريقي، وتستكمل هذه الأطروحة تحليلات أخرى تؤكد أن الضغوط الأمريكية على الإنقاذ، بما فيها ضغوط التسعينيات التي شملت وضع الخرطوم على قائمة الدول الراعية للإرهاب وفرض عقوبات عليها، وتقديم دعم سياسي ومالي لمتمردي الحركة الشعبية، لم تكن ضغوطاً تهدف لإسقاط نظام الإنقاذ بقدر ما كانت تهدف لإحتوائه والتخفيف من غلوائه الإسلامية التي وصفت في الغرب بالمتشددة، وهو ما قاد بالفعل إلى انشقاق نظام الإنقاذ والدفع بالترابي - الذي اعتبره الغرب إسلامياً متشدداً يمتلك علاقات واسعة بالمتطرفين الإسلاميين الدوليين - خارج حسابات السلطة والنفوذ في الخرطوم، قبل أن تصل الأمور حد التعاون الأمني والاستخباري بين الخرطوموواشنطن، وهو ما قاد بحسب رأي الكثيرين إلى تجنيب السودان الغضبة الأمريكية المدمرة التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وأدت إلى غزو أفغانستان وتدمير العراق. أياً كانت حقيقة الموقف الأمريكي من الخرطوم إبان حقبة الرئيس بيل كلنتون، فإن نوعاً من الانفتاح بدأ عقب تولي الرئيس السابق جورج بوش الأب مقاليد الأمور في البيت الأبيض، وتصاعد التعاون الاستخباري والأمني بين الجانبين، ووفقاً لكثير من التحليلات، فإن التحول الإيجابي في موقف البيت الأبيض مما يحدث في السودان، قاد لتوقيع اتفاقية السلام بين الحكومة والمتمردين في العام 2005م، كما أن الرئيس بوش، وبعد ما أعتبره كثيرون فشل في العراق وأفغانستان، أراد تحقيق إنجاز ما في أفريقيا يسوقه للجماهير الأمريكية، ولم يكن ذاك الإنجاز سوى اتفاقية نيفاشا. زيارة وزير الخارجية علي كرتي إلى الولاياتالمتحدة قبل أشهر، تمثل قمة الانفتاح الأمريكي على الإنقاذ خلال الحقبة الماضية، فكرتي، فتحت أمامه كثير من أبواب البيت الأبيض والخارجية الأمريكية، أبواب لم تكن تفتح في السابق إلا لخصوم الإنقاذ السياسيين والعسكريين. تناقض كل هذه التطورات، وآخرها تصريحات ليمان التي يتناقض فيها الموقف الأمريكي على نحو وضاح مع دعوة بعض قوى المعارضة لإسقاط النظام، تأتي في وقت يعكف فيه الأمريكيون على صناعة سياسة جديدة نحو السودان، حيث استمع الكونغرس إلى العديد من الشخصيات مؤخراً أبرزها ياسر عرمان، كما أقامت مراكز البحوث والمعاهد العديد من الندوات بشأن السودان، شاركت فيها شخصيات مثل التيجاني السيسي والسيد الصادق المهدي، وقال بابكر فيصل الناشط السياسي السوداني السابق بأمريكا ل (الرأي العام) حينها إن جلسات الاستماع تأتي في وقت حساس تعد فيه واشنطن سياسة جديدة تشارك في صناعتها مراكز البحوث ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع. السياسة الأمريكية تتغير من وقت لآخر مع تغير الظروف والمعطيات الدولية كما يقول السفير الرشيد ابو شامة الخبير الدبلوماسي، ولا يمكن بالتالي اعتبار الموقف الأمريكي كتلة واحدة جامدة منذ عهد كلينتون إلى الآن، ويرى أبو شامة أن تصريحات ليمان تحمل نفساً أمريكياً جديداً، خاصة أن التصريحات تأتي في مناخ دولي وإقليمي ومحلي جديد، ويخلص إلى أن جزءاً كبيراً من القضايا الخلافية بين واشنطنوالخرطوم يمكن حلها، ويتابع: ربما ينخفض التوتر بين الجانبين خلال المرحلة المقبلة، لكننا لا نزال بعيدين عن رؤية تحسن كبير ولافت في علاقات الطرفين. نفوذ وقوع اي تحسن لافت في العلاقات السودانية الأمريكية يرتبط في واقع الأمر بالعديد من القضايا، بعضها داخلية مثل المواجهات المسلحة في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وبعضها إقليمي مثل علاقات الخرطوم مع إيران ومع حركة المقاومة الإسلامية حماس، وبعضها دولي مثل قضية المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت مذكرة توقيف بحق الرئيس البشير وطلب مدعيها العام مؤخراً إصدار مذكرة اعتقال أخرى بحق وزير الدفاع الفريق أول ركن عبد الرحيم محمد حسين. مشكلة الإنقاذ في واقع الأمر، أن الكثير من جماعات حقوق الإنسان والسود والمنظمات الكنسية في الغرب وأمريكا على وجه التحديد تناصبها العداء بسبب توجهاتها الإسلامية وحروبها الداخلية العديدة، ومن المعروف أن هذه الجماعات تتمتع بقدر لا يستهان به من النفوذ على المجتمع الأمريكي وعلى صانعي القرار في البيت الأبيض وغيره من مؤسسات الحكومة الأمريكية، ما يجعل تلك الجماعات رقماً صعباً في معادلة العلاقات السودانية الأمريكية. يرى البعض أن أمريكا لو أرادت إسقاط أي نظام في العالم الثالث لفعلت، سواء عبر الضغط السياسي والدبلوماسي أو عبر التدخل العسكري المباشر، خاصة خلال حقبة التسعينيات عندما انفردت بالشئون الدولية حيث تراجع الدور الروسي وكان الدور الصيني ضعيفاً ما يزال، فيما يؤكد آخرون أن واشنطن حاولت بالفعل إسقاط الإنقاذ بالقوة في منتصف تسعينيات القرن الماضي، لكنها غيرت سياستها قليلاً حينما فشلت في ذلك، وباتت تحاول احتواء الإنقاذ وتغييرها ببطء، بداية من إخراج الترابي من السلطة مروراً بتنفيذ اتفاقية السلام، وانتهاء بحديث برينستون ليمان أن واشنطن ليست لديها أدنى رغبة في إسقاط الإنقاذ...!