الشريف في مصر بقلم شاهد عصر في هذه الحلقة نختم حديثنا عن الشريف زين العابدين الهندي في تلك الحقبة التي عايشته فيها بمصر، والتي شغلت أذهان السياسيين، وخصوصاً الاتحاديين الديمقراطيين، بمسألة جديدة، وهي مبادرة الشريف. فما هي تلك المبادرة، وكيف بدأت، وإلى أين وصلت حتى نهاية وجود الشريف في مصر؟ المبادرة في اللغة تعني أن يقترح شخص أمراً قبل غيره أو يسبقه إلى عمله. يقال: "بادر إلى الشيء" أي عاجله وسبقه. ولقد جاء الشريف بمبادرته قبل غيره، في ذلك الزمن، وسبقهم إلى عملها. وإليك عزيزي القارئ، سرداً لقصتها منذ بدايتها وحتى اكتمال فصلها الأول بالمنفى. لقد شغلت المبادرة حيزاً كبيراً في فكر الشريف منذ مجيئه إلى مصر في فجر الإنقاذ، فلمَّح إليها بموضوع كتبه بإيجاز فسمَّاه "التخلق التاسع" للحزب الاتحادي الديمقراطي، وهو جزء من أدبيات الحزب لو أن الاتحاديين يتفكّرون، وأهم ما قاله فيه: "إن النضال في هذه المرحلة سيكون بالتحاور وليس بالاحتراب والاقتتال". ولم يكن هناك رد فعل عند الاتحاديين بزعامة الميرغني بخصوص ذلك الأمر، وإنما ظنوا أنه كلام تبخر في حينه مع دخان السجائر. ومضت سنين، وما زال الشريف قابعاً في منزله، لكن أفكاره كانت مطروحة للمناقشة علانية وبدون تحفظ. ولعله كان ينتظر الوقت المناسب لفتح باب الحوار مع حكومة الخرطوم التي ما لانت عريكتها بعد. وكان الشريف ينشرح لأي أراء ايجابية في ذلك الشأن. وكنت قد بادلته قراءة كتاب عنوانه "الثائر القديس"، يحكي عن تجربة غاندي، ذلك الفيلسوف والمجاهد الهندي، الذي اشتهر بلقب المهاتما أي "النفس السامية"، والذي دعا إلى تحرير الهند بالطرق السلمية بعيداً عن العنف، وقد أدت جهوده إلى استقلال الهند عام 1947. ولعل تجربة غاندي في الحل السلمي لمشكلة استقلال الهند أيقظت فكرة كامنة في ذهن الشريف، فعزم على إيقاظها من سباتها. ثم إنه مع مرور الزمن، تباحث في أمر المبادرة مع عديد من المشتغلين بالسياسة وبعض ضباط الجيش المفصولين من الخدمة العسكرية، ليتلمس فيهم مدى قبولهم لتحاوره مع الحكومة بالسودان، فسرت الفكرة إليهم، فكان منهم من شحذت خياله، ومنهم من عارضها. وفي تلك الأيام جاءنا من السودان الشقيق/ غازي عثمان جاد الله برسالة من الرئيس البشير إلى الشريف زين العابدين بخصوص التفكُّر معاً في الوضع السياسي بالبلد، أما غازي فسياسي نشط، ويربطه بالشريف تاريخ طويل من النضال السياسي، لذلك اختاره البشير لتلك المهمة. ومن وقتها حزم الشريف أمره ونوى العودة إلى الخرطوم، لكنه أرجأه إلى حين آخر تجنباً للإحراج، حيث أن علاقة الحكومة برعاياها هناك كانت قبيحة للغاية. وظلت الأحوال كما هي لمدة خمس سنين كنا خلالها محايدين فيما يتعلق بالصراع بين التجمع الوطني الديمقراطي وبين نظام الحكم بالسودان، بل كنا معارضين بشدة "للتجمع" الذي كان واقعاً تحت تأثير الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي تعاملت مع وحدة السودان حسب التغيير الذي أجرته على المنفستو الخاص بها، فصارت تنادي بوطن واحد ديمقراطي علماني كخيار أول، فإذا صعب عليها تحقيق ذلك فتقرير مصير لجزء من السودان يكون تحت سيادتها. ولقد وجد التجمع في موضوع المبادرة ضالته، فهزئ بنا، واعتبرنا خائنين للقضية الوطنية وعملاء للنظام الحاكم بالخرطوم. ولكننا لم نأبه به، فانصرفنا إلى همنا الجديد، وشغلنا به الساحة السياسية. وبينما نحن كذلك، أخبرني الشريف عن عزمه السفر إلى لندن، فتعجبت منه إذ كنت أعرف أنه لا يحب لندن ولا تجربة الاتحاديين فيها في زمن المعارضة ضد "مايو"، بل لا يحب السفر إلى أي مكان إلا السودان، وكان قد سافر قبل مدة إلى تونس ممثلاً للحزب في اجتماع أحزاب المنظومة الاشتراكية، وحضر معه ذلك الاجتماع صديق الهندي المسئول عن هذا الملف. وكان الشريف مستوحشاَ بالغربة، وقد أعرب لي ذات مرة عن إحساسه ذاك قائلاً: "نفسي في عصيدة بملاح روب". وكان المكان ليس مكان الشريف، والزمان ليس زمانه، وإذا شعوره بالغربة يزيد كلما أخبره باكتمال جزء من إجراءات سفره إلى لندن. وما هي إلا أيام قليلة حتى سافر. ويومها قلت في نفسي: "لا بد أن هناك شيئاً شغل فكره، فسنحت له فرصة في لندن لتنفيذه". وتوقعت أن تطول إقامته هناك، لكنه قفل راجعاً بعد مدة قصيرة. ولما علمتُ بقدومه، هرعت إلى لقائه بمنزله، فوجدته غير سعيد بتلك الرحلة. ثم إننا تبادلنا الحديث عن الاتحاديين بلندن، فأخبرني أن لجنة الحزب هناك رفضت التحاور مع الحكومة، وسخرت منه. وبقي الشريف بالقاهرة عدة أشهر يتفكَّر في ما ينوي عمله، ولا يبوح به لأحد، وفي صباح يوم من صيف سنة 1996 قال لي: "أنا عملت عملية كبيرة". فلما سمعت منه ذلك تملكني العجب. ثم إنه ما أمهلني أُفكِّر فيما عسى أن يكون قد فعله، بل أفضي إلىَّ ما بقي من حديثه: "أنا قابلت البشير". فقلت له: "إن أي فريقين متخاصمين في السياسة أو أي موضوع آخر، لا يفلحان في الوصول إلى حلٍ لقضيتهما إلا بالحوار بينهما". ثم إنني ضربت له مثلاً بجبهة التحرير الجزائرية التي ركبت رأسها، فرفضت الحوار مع الاستعمار الفرنسي، ولمَّا امتثلتْ لذلك الأمر، تم لها ما أرادت. وفي تلك الساعة كان الشريف يصغي إلي حديثي باهتمام، وقد ارتاح له، ثم أخبرني أنه قابل الرئيس عمر البشير على هامش زيارة له لمصر. ولم تمض بضعة أيام حتى قدح الشريف زند المبادرة بحديث له غير مرتب تم تسجيله على شريط كاسيت، فاستمع له بعض الناس. فتفشى خبر المبادرة بين السياسيين والصحافيين، فصاروا يتآنسون بها حين يقيلون ويمسون، لا حديث لهم غيرها. ثم إنني دوَّنتُ على أوراق كل كلمة جاءت في ذلك الشريط، واقترحت على الشريف أن نعدَّ ملفاً للمبادرة يتضمَّن أهدافها وطريقة تطبيقها، ثم نزود لجان الحزب بالمنفى وجموع الاتحاديين داخل السودان بنسخ مطبوعة منه، تنويراً لهم بالمبادرة. وقد بادرنا أنا وبروفسور على عثمان إلى إعداد ذلك الملف، فاتفقنا على أن أقوم أنا بصياغة مقدمة له، ثم يكتب هو صميم الموضوع، وقد أوفيت أنا بوعدي تجاه واجبي، لكن البروفسور تلكأ، ثم تجاهل الأمر تماماً، فأخبرتُ الشريف بما حدث، وتوقعت منه أن يلوم البروفسور على ذلك، ثم ينتدب شخصاً آخر لتلك المهمة، لكنه ما فعل. فغضبت منه، وغبت عنه أياماً إذ أحسست أن الأمر لم يكن كما تصورته. ولكنني روّجت للمبادرة وتحدثت عنها في كل مجلس ومع كل شخص قابلته. ولقد كانت المبادرة المخرج الوحيد للشريف من وضعه ذاك، فهو كما ذكرت في الحلقة الأولى، لم يكن مع التجمع، ولم يكن مع الحكومة، وهو كان بالضرورة يدري أن طول أمد الحياد في القضايا السياسية المتجددة له عواقب وخيمة يصعب إصلاحها، وأنه كزعيم سياسي لا يُعقل أن يكون في معزل عن أمور سياسية يفتي فيها ويبرمها غيرُه، وقد كنت أشاركه الرأي، وأوافقه على المضي قُدماً في درب التحاور مع الحكومة حتى النهاية. وحسب فهمي لما كان يجري بيني وبينه من تناقش في المبادرة، أعتقد أنه جاء بها لسببين، أولهما؛ أن يتخلص من المسئولية والأعباء الواجبة عليه تجاه حزبه بالمنفى، فلا يُكلف نفسه شططاً. وثانيهما؛ أن يكون له موضع قدم في السلطة، تحقيقاً لحلم دفين عنده، وهو إقصاء خصمه السيد/ محمد عثمان الميرغني عن المشاركة في السلطة لمدة طويلة، ليضعف شأنه، فيفقد بعض أدوات المنافسة على السلطة في المستقبل. وكان الشريف يريد أن يثأر لشقيقه حسين مما فعله به الميرغني في العهد "المايوي"، فحين ذاك أيّد الميرغني "مايو" ببرقيات ومقابلات شخصية مع النميري، الأمر الذي أضعف شأن المعارضة داخل الوطن، وكنتاج لذلك، ولعوامل أخرى، ظل الشريف حسين سجيناً بالمنافي حتى وفاته. وكيف كان رد فعل "التجمع" والساحة السياسية جمعاء تجاه المبادرة؟ ظهر رفض التجمع الوطني الديمقراطي للمبادرة في مقالات صحفية نشرتها صحيفتان؛ هما "الخرطوم" و"الاتحادي"، اللتان كانتا يومئذٍ تصدران من القاهرة. ولم يكن متوقعاً من "التجمع" غير ذلك الموقف المائل عن الحكمة، فهو كان متمسكاً بشعاره القديم: "سنجتث النظام من جذوره". أما الشريف فتشمّر لمبادرته، فدعا لها كل من جاءه أو صادفه، وكتب عدة رسائل، باقتراح من أحمد بلال، إلى بعض أعلام السياسة والمجتمع بالسودان، الذين أذكر منهم؛ شيخ الجعلي بكدباس ومولانا أبيل ألير وسيد أحمد الحسين ومحمد إسماعيل الأزهري. ولا أدرى هل ردَّوا على خطابات الشريف أم لا. أما بعض أشقائنا داخل البلاد وخارجها، فكان فيهم من رفض المبادرة، وفيهم من اعتصم بالوجوم منتظراً نتيجتها. وماذا حدث بعد ذلك؟ لقد رأينا أن من حسن الرأي، التشاور في أمر المبادرة في مؤتمر استثنائي يعقده الحزب خارج السودان، لتأخذ المبادرة موافقة قطاع كبير من الاتحاديين، ثم يعلن عنها الشريف للناس، لكن الشريف أبى اقتراحنا، بل قال لنا: "إن المبادرة قومية وليست اتحادية ديمقراطية". ثم إننا تجادلنا في ذلك الشأن في اجتماع عقدناه بالزمالك، أعدّ له حسن دندش، فحضره جمعٌ من الاتحاديين. وأسفر الاجتماع عن معارضة الأكثرية المطلقة من الحضور لرأي الشريف، وأعلنوا أمامه بصراحة أن المبادرة يجب أن تكون اتحادية ديمقراطية وليس قومية أو أي شيء آخر. ولكنني ناصرتُ الشريف في حجته في ذلك الاجتماع الساخن، لأنني كنت على يقين بأن الشريف سوف يُقدِّم تلك المبادرة إلى الحكومة باعتبار أنه أمين عام الحزب الاتحادي الديمقراطي، وليس الشريف كفرد من عامة الناس. وما عسى أن يفعل بمفرده للحكومة! ولو أنه أدار ظهره للحزب الاتحادي الديمقراطي، لما وجدت مبادرته أذناً صاغية عند الحكومة، فهي قد رضيت ورحّبت بما جاءها به بقناعة تامة. بل سعت له لأنه أحد زعيمي الاتحاديين الديمقراطيين. وكانت الحكومة، ولا تزال، تخشى بأس الاتحاديين الديمقراطيين لكثرتهم، فهي إذن كانت في حاجة ماسة إلى مكانة شعبية بين عامة الناس وخاصتهم، لذلك كانت المبادرة الخلاص المرتجى لها من عزلتها. ثم إن المبادرة مضت في دربها الشائك، فأي مرحلة وصلت إليها؟ بعث الشريف باثنين من الأشقاء إلى السودان، كوفد مقدمة، ليخبرا الاتحاديين الديمقراطيين وغيرهم بتفاصيل المبادرة، وهما؛ على عثمان محمد صالح وأحمد بلال. وقد فرزت مهمتهم جموع الاتحاديين بين مؤيد للمبادرة ومتشدد في معارضتها، وكانت تلك غاية الشريف أي أنه أراد أن يعرف أين يضع قدميه في تلك القاعدة الاتحادية العريضة، وهو قطعاً، كان يدرك تماماً أن الاتحاديين الملتزمين بمبادئ حزبهم وفكره لن يوافقونه الرأي على تطبيق المبادرة بدون المصادقة عليها بإجماع من الحزب، لذلك ما استشارهم، وإنما استعان في أمره بآخرين علائقهم بالحزب هشة كبيض حمام. ثم إن الشريف فتح باب المبادرة على مصراعيه لكل من جاء به الدرب، وخصوصاً المتمسحين بمسوح الاتحادية، وهؤلاء أتفه فئة في البلد. ولم أتفق مع الشريف على ذلك المدخل السيئ لتنفيذ المبادرة، فما جادلني في رأيي، بل استمر على ذلك النحو. عام الرجوع إلى الوطن: ولمَّا اكتمل التنسيق السري بين الشريف وحكومة السودان لإنجاز المبادرة، أخبرنا الشريف عن عزمه الرجوع إلى الخرطوم، لكنه لم يُصًرِّح بذلك للصحف والمراكز الثقافية السودانية بالقاهرة، التي كانت لا تدين له، بل تعاديه إذ كانت تابعة للتجمع الوطني الديمقراطي المتخصص في العداوة والتهديد بالاجتثاث من الجذور. وكان الشريف في الأشهر الأخيرة التي قضاها بالقاهرة، نجم الساحة السياسية بفضل المبادرة، فحضر مجلسه كثير من السياسيين، يجادلونه في أفكاره ورؤاه السياسية، فيحاورهم بكل ما أوتي من حنكة ودُربة وبيان وبرهان. أما نحن، فقد شكّلنا، من حيث لا ندرى، لفيفاُ يدافع عن المبادرة، ويعزز موقف الشريف، وكنت قد حفظتُ بعض العبارات التي نطق بها الشريف في حديثه عن المبادرة، فاستعملتها بعناية في حواري مع أي طرف آخر. وكان آخر عهدي بالشريف بمصر في نهار حار من صيف 1997، فيومها كنا بمنزله، وقد امتلأ مجلسه بأشقاء من مؤيديه، وبزوار كان بعضهم غريباً علينا، وبعضهم الآخر ألفناه مثل: الصحافي جمال عنقرة وأمين البيلي والسر قدور الذي كان يثرثر بصوته القوي الحسن. وكان الشريف في تلك الأثناء مغمض العينين ولكنه يقظان. وبينما نحن كذلك، إذا بقطة تهادت بيننا، وقرفصت في عِب الشريف، فانتبه لها، وكلمها بكلام تفهمه. ومضى الوقت سريعاً، وعندما كانت الساعة العاشرة مساءً، أو نحو ذلك، قمتُ إلى الشريف وصافحتُه مودعاً له، وقد كان رابط الجأش كما عهدته من قبل. ***