تقرير: عادل حسون "جبهة الدستور تطالب بإعادة التحقيق في ترحيل اليهود الفلاشا"، كان ذلك أحد عناوين الأنباء قبل يومين. هنا في "الجريدة" جدد الأمين العام لجبهة الدستور الإسلامي ناصر الدين السيد، إتهامه للسفير عثمان السيد، بإشتراكه في ترحيل اليهود الفلاشا إبان فترة الرئيس الراحل جعفر نميري. وقال "ناصر" في تصريحات خاصة "للجريدة" إن السفير السيد كان شاهد ملك في القضية، مطالباً بإعادة التحقيق في القضية. وسخر من تصريحات السيد، التي توعد فيها بفتح بلاغ ضده، كاشفاً عن أن مستندات بطرفه تثبت حديثه. يكتسب طلب "الجبهة" إعادة التحقيق أهمية إعلامية ليس لأن طالب التحقيق هو ناصر الدين السيد، بكل تاريخه الطويل كأحد أبكار ورواد الحركة الإسلامية في السودان مذ الأربعينات، وليس لأن المتهم بالإشتراك في ترحيل اليهود الفلاشا هو اللواء عثمان السيد، بكل جبروته المعنوي كأحد أكبر قيادات أمن الدولة البائد في عهد نميري، أو كونه أحد أقدم السفراء السودانيين بإثيوبيا قرابة العقدين في عهد الإنقاذ، ولكن لأن القضية التي اعتبرت فضيحة في وقتها تمس رؤوسا كبيرة لا تزال تحيا بيننا، تتبوأ مكانتها بين الرموز البارزة في المجتمع، أنصع مثال من هؤلاء الفريق طيار الفاتح عروة، الرئيس التنفيذي لشركة (زين). جرت تحقيقات عقب سقوط "النميري" وجئ بالمشتبه بهم على شاشاة التلفاز واستغرقت المحاكمات العلنية ساعات طوال وصدرت الأحكام بالسجن على النائب الأول لرئيس الجمهورية السابق اللواء عمر محمد الطيب وبعض معاونيه، ومع ذلك يصّرح ناصر الدين السيد بمسئولية غامضة على اللواء عثمان السيد، فيما يهدد الأخير بالإدعاء على الأول. ثمة نقاط لا تزال مجهلة. اللواء عمر محمد الطيب، كتب قبل سنوات على صفحات الصحف واتهم اللواء عثمان السيد، بالمسئولية كاملةً في تهريب اليهود وقبض الثمن، وهدد أيضا بكشف مستندات وإبراز شهود عيان على إدعاءه. ثمة من تدخل من القصر فأوقفت الحلقات التي بدأ يكتبها اللواء الطيب، ردا على الحلقات الصحفية التي بدأ في نشرها اللواء عثمان السيد، مبرءا نفسه عبرها من هذه القضية. هناك يهود هربّوا إلى دولة الأعداء "إسرائيل". هناك "56 مليون دولار دفعت في حسابات سرية في أوربا ثمناً للعملية. هناك متهمون حكم عليهم وأيدت الأحكام من قبل المحكمة العليا. فما الذي لم يكشف بعد؟. "أحب أن أؤكد للشعب السوداني عامة، ولكل من اطلع على مقالاته بأن عثمان السيد فضل السيد هو الذي خطط ونفذ وتابع عملية ترحيل الفلاشا بعد ان أعطيته توجيهات الترحيل بقرار من رئيس الجمهورية وهو الذي اختار الضباط الذين قاموا بالتنفيذ تحت قيادته وبإشرافه. ولا أعرف منهم أحداً خلاف الفاتح محمد أحمد عروة لأن والده رحمه الله كان قائدي". كتب اللواء عمر محمد الطيب، يقول. في الحقيقة يكشف عن بيناته فيضيف "وأحب أن أؤكد وأجزم بأن عملية (سبأ) وهي العملية الثانية لترحيل الفلاشا كانت تدار من منزله بالحي الشرقي، حيث يوجد شهود عيان على ذلك يمكن إبرازهم في الوقت المناسب. وأحب أن أؤكد بأن عثمان السيد فضل السيد اتصل بي تلفونياً بمنزلي يوم الجمعة 21 مارس 1985م في تمام الساعة الثامنة والنصف صباحاً وأعطاني تمام بأن العملية انتهت من مطار العزازة، فسألته كيف علمت بإنتهاء العملية بهذه السرعة ،فأجابني: والله على ما أقول شهيد (عندي اتصال مباشر مع مطار العزازة والجماعة معي بالمنزل)، يقصد الامريكان. والجدير بالذكر لقد حضرت سيارة تحمل رقم السفارة الامريكية في الصباح الباكر نفس يوم الجمعة لمنزله، وعملوا مركز قيادة بالاتصالات والمواصلات لمتابعة العملية حتى نهايتها حيث بلغني تلفونياً بذلك. وقد أمر عثمان السيد فضل السيد بإعتقال صحفي أجنبي ظهر في موقع الترحيل، وأمر بإحضاره للجهاز، وتم تدوين ذلك في دفتر الأحوال بواسطة الضابط النوبتجي للجهاز الرائد عمر الخليفة. وقد اطلعت على هذا الدفتر ما اطلع عليه غيري وهم أحياء يرزقون. ما كنت أريد نشر هذا الغسيل الوسخ وغيره في المحكمة حفاظاً على سمعة الجهاز. ولازال هذا الرجل العجيب والمتفرد بالدهاء والمكر والغش يدعي انه لا يعرف شيئاً عن عملية ترحيل الفلاشا، وبأنه علم بكل هذه التفاصيل من الضباط المنفذين، وفي الواقع والحقيقة هو المهندس الذي خطط ونفذ وتابع عمليتي «موسى وسبأ»، ولكنه خاف وارتجف وتصبب عرقاً من لجنة التحقيق المكونة من بعض الشيوعيين والبعثيين، التي أصبحت هيئة الإتهام واعتبرته شاهد اتهام ليقوي قضيتهم لمحاكمة نظام مايو في شخص النائب الاول لرئيس الجمهورية لعدم وجود السيد الرئيس بالسودان". كتب اللواء عمر وكما ما يبين ردا على ما كتبه اللواء عثمان السيد، فبدت الحقيقة ضائعة بينهما. من يقرأ اعترافات العقيد الفاتح عروة- الفريق طيار لاحقا- يتضح له أن للعملية تفسيرا آخر، فهي تبدو عمل مخابرات حقيقي لصالح السودان قبل أن تكون عملية فساد لصالح العدو الإسرائيلي. قال الفاتح عروة بأنه كُلف للقيام بهذه العملية بواسطة اللواء عمر شخصياً، لينوب عن العقيد موسى إسماعيل الذى كان في جنيف مع وزير الداخلية، وأنه أعد للعملية بالتنسيق مع وحدة القضارف، وذلك بتأجير الباصات، والتنسيق مع الطيران المدنى، وقبل عملية النقل وصل العقيد موسى وباشر العملية بنفسه، وانحصر دور الفاتح عروة في تأمين المطار. ويحكىينائب رئيس لجنة التحقيق في قضية "الفلاشا" العقيد من القوات المحمولة جواً، عمر البشير- المشير الرئيس الحالي- في اعترافاته أن كل الضباط الذين تم استجوابهم أنكروا تسلم أى مبالغ مالية نظير القيام بهذه العملية، وقالوا إنهم ضباط قاموا بتنفيذ الأوامر فقط. وفي هذه الفترة انتشرت شائعات عن أن الأمريكان النزلاء بفندق الهيلتون من الموساد، لكن البشير قال في التحقيق لم نتأكد من ذلك، والفاتح عروة أنكر أن عثمان السيد له دور فى هذه العملية، رغم أن كل الناس الذين نفذوا العملية كانوا يعملون تحت قيادته، وأن الوحيد الذي كان معارضاً لعملية نقل الفلاشا هو العميد الجعلي رغم علمه بها. واعترف البشير بأن الباصات عندما وصلت الى المطار في اليوم الأول اعترضها قائد حرس السرية في المطار، وقابله أحد الضباط وأوضح له أن العملية خاصة بالأمن. وحسب المستندات فإن إجمالي عدد الفلاشا الذين تم ترحيلهم ونقلهم بلغ حوالي 8000 شخص، والطائرات التي نزلت القضارف كانت ستاً أخذت إذناً بتخليص دبلوماسي للحفاظ على سرية العملية التي تمت بأوامر عليا من الرئيس جعفر نميرى. وبعد أن أنهى العقيد عمر حسن البشير أقواله سلم لجنة التحقيق مذكرات التحقيق التى قام بها مع الفاتح عروة وموسى إسماعيل واللواء عثمان السيد والرائد محمد فؤاد بندر. الهياج الذي كان سائدا خارج فناء المحكمة كان يضغط على القضاة لإستصدار الأحكام الانتقامية. فمن الذي يؤخذ على القضاء السوداني في تلك السنوات أنه تأثر بالمناخ السياسي الانتقامي الذي كان سائدا. فعلى الرغم من أن القضاة كانوا خصوما طبيعيين للنظام إذ أقصى النميري عشرات منهم فيما عرف بمذبحة القضاة في العام 1983م عندما أعلن ما سماه "الثورة القضائية" عند افتتاحه مجمع محاكم "الفاشر" بدارفور في تلك السنة إلا أن المعلقين أخذوا على القضاء التعجل في إصدار الأحكام في القضايا التي عرضت عليه بعد الانتفاضة ومن تلك قضية الفلاشا التي انعقدت لها محكمة أمن الدولة وأصدرت أحكامها بالسجن المؤبد والغرامة والمصادرة للمعروضات، ثم تقدم دفاع المحكوم عليهم بالطعن أمام المحكمة العليا فشكلت دائرة خاصة لمراجعة الأحكام الصادرة. ذكرت المحكمة في تأييدها لأحكام محكمة أمن الدولة بإدانة المتهم اللواء عمر محمد الطيب أن محاكمة المحكوم عليه عقدت في جو مشحون بالعواطف الملتهبة ضد كل من كان يحتل موقعاً من مواقع السلطة في العهد المايوي البائد". ومع أنه ليس من سبب يدعو إلى القول بأن في ذلك ما من شأنه التأثير على تجرد المحكمة وحيدتها (وهي التي جاء تشكيلها على مستوى عال من ذوي الخبرة والدراية) إلا أنه لا يمكن التسليم بأن الجو السائد حينئذ كان يسمح بتجرد مماثل من من انبروا للشهادة على وقائع الاتهامات التي تجمعت حول المحكوم عليه فإن لم يكن ذلك بسب الحماس الدافق لانتصار شعبي على عهد اتصف بكثير من الظلم والقهر، فمن باب الخشية من غضبة شعبية على الاقتران بأية صورة من ذلك العهد. مما كان يغري بتقديم كل ما يتجه إلى إدانة النظام السياسي المباد حتى بالمبالغة والإضافة. وبنفس القدر النيل إلى حجب ما هو في صالح النظام والتنصل عن ممارسته والفرار منه فرارهم من الأجرب. ولا بد لنا من أن نقرر أيضاً أن الأحكام المعروضة أمامنا قامت في مجملها على شهادات أدلى بها أفراد من جهاز أمن الدولة من زملاء ومرؤوسي المحكوم عليه بعد أن عرض عليهم العفو (أي التحول من خانة المتهم لخانة شاهد الملك) على اثر تعديل أدخل في المادة 216 من قانون الإجراءات الجنائية انتزعت بموجبه سلطة إعطاء العفو من القضاة الطبيعيين لتوضع في يد النائب العام. وبذلك نعِمَ أولئك الشهود بالعفو عن الأعمال التي شكلت الاتهامات ضد المحكوم عليه رغم أن أدوارهم فيها كانت أساسية بل وفي بعض الأحيان مستقلة عن إرادة المحكوم عليه. وقد عولت محكمة أمن الدولة على تلك الشهادات رغم أنها قررت أن أولئك الشهود "حفنة من الضباط كانوا مخلب قط يستحيل تنفيذ العملية دون تعاونهم التام" (ص 28 من حيثيات الحكم، ص 527 من محضر المحاكمة) وانهم من أولئك الذين ربما وجدت إدارة الاستخبارات العسكرية الأمريكية_ وربما جهاز الموساد الإسرائيلي فرصة في اختراقهم وتجنيدهم كعملاء مزدوجين (ص 27 من حيثيات الحكم ص 536 من المحضر). لناصر الدين السيد، رحلة طويلة لكشف ما لم يكشف من أسرار. دوائر الحكم العليا التي من مصلحتها المباشرة "نسيان" تلك الوقائع. المحكوم عليه والمتهمين سابقاً جملةً. القانون نفسه يعرف نظرية "المراكز القانونية المستقرة". فكيف لكائن كان تحويل متهم سابق أعتبر شاهد ملك أو محكوم عليه مع وقف التنفيذ أو محكوم عليه سابق وتمت تبرئته من "مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني" إلى متهم مجددا؟. المدهش حقاً أن ناصر الدين السيد، دعّم وجود "الإنقاذ" مع اطلالتها الأولى في 1989م وقد رفعت شعار "الإسلام" الذي كافح لأجله سنوات طوال، فكيف له أن يعود ليبطل أحد أولى اتجاهاتها؟. في الحقيقة، الحلف القوي المتشبث به بين "الإنقاذ" و"المايويين" بعمومهم لا يبدو محلاً للمراجعة فتسوية "الحسابات" بين المحسوبين على الطرفين، الإنقاذ فرجال "مايو" السابقين. ناصر الدين السيد، ضد اللواء عثمان السيد؟. فيما يبدو فالتاريخ يحتاج لإعادة الكتابة ولكن التسامح أيضا. جريدة (الجريدة) 24/ أبريل/ 13