هارون سليمان يوسف السلام الاجتماعي يتكون كل مجتمع من مجموعة من البشر، مختلفون بالضرورة عن بعضهم بعض، سواء في انتمائهم الجغرافي والسياسي و الديني أو المذهبي أو القبلي أو موقعهم الاجتماعي أو الوظيفي ولكن يجمعهم جميعا ما يمكن أن نطلق عليه "عقد اجتماعي"، أي التزام غير مكتوب بينهم، يتناول حقوق وواجبات كل طرف في المجتمع والخروج علي هذا العقد يمثل انتهاكا لحقوق طرف، وإخلالا بالتزامات طرف آخر مما يستوجب التدخل الحاسم لتصحيح الموقف. تعريف السلام الاجتماعي: تعبير عن حالة توازن بين الأطراف المجتمعية المختلفة في المصالح، والقوة، والإمكانات، والإرادات و يحافظ علي هذا التوازن "قوة"، ليست هي بالضرورة "قوة العضلات" أي العنف، ولكن هي في الأساس قوة القانون والشرعية.كما يساعد علي تسوية النزاعات أو الخلافات باعتباره المرجعية التي تعود إليها الأطراف المختلفة لحل مشكلاتهم ويساعد ذلك علي حدوث ما نطلق عليه "التوقع". كل طرف يتوقع من الطرف الآخر سلوكا معينا، بناء علي ما يقع علي عاتقه من التزامات وواجبات، فإذا لم يأت بهذا السلوك، يعتبر ذلك خروجا علي العقد الاجتماعي السائد. أنواع العقد الاجتماعي: 1. العقد الاجتماعي المباشر. هو العقد الذي تبرمه الأطراف علي نحو محدد سلفا. مثل تحديد المكان، الزمان، التوقعات المتبادلة من جانب كل الأطراف. مثال علي ذلك عقد بناء مبني. يتوقع الطرف الأول (صاحب الأرض الفضاء وممول المشروع) من الطرف الثاني (شركة مقاولات أو حتى مقاول عادي) أن ينتهي من تشييد المبني بمواصفات محددة متفق عليها، وتجري عملية التسليم عبر مراحل زمنية محددة سلفا. ويتوقع الطرف الثاني من الطرف الأول مقابلا ماديا محددا في ضوء الالتزامات المطلوبة. هكذا تكون التوقعات المتبادلة واضحة بين الطرفين. 2. العقد الاجتماعي غير المباشر. هو العقد الذي يتعلق بالقيم والمعايير والمشاعر والاتجاهات، وما هو متفق عليه ضمنا بين مختلف الأطراف، والخروج عليه يبعث علي الاستنكار. مثال علي ذلك وعد الكلمة بين الأطراف التجارية، والأمانة في العلاقات بين البائع والمشتري. يتحقق السلام الاجتماعي إذا كان العقد الاجتماعي المباشر وغير المباشر يجري علي أرض الواقع دون أية مشكلات، ولكن يتوتر، ويضطرب، وينحرف مساره إذا لم يحترم العقد الاجتماعي علي أرض الواقع. أركان السلام الاجتماعي توجد في المجتمعات ظاهرة التنوع والتعددية واختلاف المصالح، وتتباين الاتجاهات و النظرة إلي الحاضر والمستقبل فكيف يمكن في ضوء كل هذا أن يتحقق السلام الاجتماعي بينهم؟ هناك عدة أركان للسلام الاجتماعي في أي مجتمع لا تتصل فقط بالتاريخ لكنها تقترب أكثر فأكثر من الإدارة السياسية للمجتمعات. 1. الإدارة السلمية للتعددية. تعرف المجتمعات البشرية ظاهرة التعددية الدينية والمذهبية واللغوية والإثنية ولم تعد هناك مجتمعات خالصة تضم أهل دين معين، أو مذهب معين، أو عرق معين أو قبيلة أو لغة معينة. تحولت التعددية إلي قيمة أساسية في المجتمعات المتنوعة، بشريا ودينيا وثقافيا. التعددية في ذاتها لا تعني سوي ظاهرة اجتماعية، ويتوقف الأمر بشكل أساسي علي إدارة التعددية. هناك إدارة سلمية، تحفظ للجماعات المتنوعة التي تعيش مع بعضها بعضا مساحة للتعبير عن تنوعها في أجواء من الاحترام المتبادل، وهناك تعددية سلبية تقوم علي اعتبار التنوع مهدد من مهددات الوحدة الوطنية والأمن القومي وليس "مصدر غناء وثراء واستقرار وتقدم "، يترتب علي ذلك العمل بقدر المستطاع علي نفي الآخر المختلف، لصالح الجماعات الأكبر عددا، أو الأكثر سلطة، أو الأوسع ثراء ونفوذا. يؤدي ذلك إلي حروب أثنية ومذهبية ودينية ويخلف وراءه قتلي وجرحي وخراب اقتصادي ودمار في البنيات وتوقف في التنمية والأكثر خطورة ذاكرة تاريخية تتناقلها الأجيال محملة بمشاعر الحقد وذكريات الكراهية والرغبة في الانتقام. 2.الاحتكام إلي القانون يمثل "حكم القانون" في المجتمع الحديث أحد أهم عوامل تحقيق المساواة والعدالة في العلاقات بين الأفراد، والجماعات. يعني حكم القانون عدد من النقاط الأساسية: أ) الأفراد متساوون أمام القانون بصرف النظر عن الاختلاف في اللون أو الجنس أو الدين أو العرق. ب) مؤسسات العدالة، الشرطة والنيابة والمحاكم تطبق القانون علي الأفراد بحيدة كاملة بصرف النظر عن موقعهم الاجتماعي، أو انتمائهم الديني، أو نفوذهم السياسي. ج) يكون اللجوء إلي مؤسسات العدالة ميسورا مكفولا للجميع لا يتحمل فيه الشخص أعباء مالية تفوق إمكاناته المالية أو مستواه الثقافي. د) يحاكم الشخص أمام قاضيه الطبيعي، ولا يواجه أية إجراءات استثنائية بسبب انتمائه السياسي أو الديني أو المذهبي أو القبلي ه) تطبق مؤسسات العدالة ،القانون في إطار زمني معقول يسمح لها بتداول الأمر بجدية وفي الوقت ذاته لا يؤدي إلي إطالة أمد التقاضي علي نحو يضيع حقوق المواطنين. و) تنفذ الأحكام الصادرة عن مؤسسات العدالة بحزم دون تسويف أو تأخير أو محاباة. هذه المعايير الأساسية التي تحكم وتجسد مفهوم حكم القانون في المجتمع. يؤدي حضورها إلي ما يمكن أن نطلق عليه "التوقع الاجتماعي"، ويعني ذلك أن الأفراد يتوقعون نظاما قانونيا في المجتمع، يحكم علاقات بعضهم بعضا، يقوم علي وضوح القوانين، وشفافية عملية التقاضي، والحزم في تنفيذ الأحكام القضائية النهائية واجبة النفاذ. غياب بعض هذه المعايير أو جميعها تؤدي إلي إهدار لمفهوم المساواة بين المواطنين في المجتمع، ويدفع الأفراد إلي الاستناد إلي قوانين من صنعهم، مثل البلطجة، والرشوة،والواسطة وجميعها تعبر عن اهتزاز مفهوم حكم القانون في نفوس الأفراد، وهو ما يؤثر علي السلام الاجتماعي في المجتمع. 3. الحكم الرشيد للحفاظ علي السلام الاجتماعي في أي مجتمع يحتاج إلي حكم رشيد. لأن كثير من القلاقل والإضرابات والحروب تحدث من جراء غياب المشاركة وسرقة إرادة الناس و المال العام. من هنا يحتاج السلام الاجتماعي إلي الحكم الرشيد وهي مجموعة من المفاهيم الأساسية، يمكن تعريفها بإيجاز في. أ) المساءلة : وتعنى تقديم كشف حساب عن تصرف ما وتشمل المساءلة جانبين هما: التقييم والثواب أو العقاب. ويعنى أن يتم أولاً تقييم العمل ثم محاسبة القائمين عليه. يكون ذلك من خلال تفعيل دور المؤسسات السياسية مثل مجلس الشعب أو البرلمان والمؤسسات الرقابية والصحافة ومنظمات حقوق الإنسان الأمر الذي يؤدي إلي رفع مستوي النزاهة في الحياة العامة. ب) الشفافية : وتعنى العلنية في مناقشة الموضوعات وحرية تداول المعلومات في المجتمع وتساعد الشفافية في تداول المعلومات علي تحقيق المساءلة الجادة حين تتوفر الحقائق أمام المواطنين في المجتمع. ج) التمكين : ويعنى توسيع قدرات الأفراد ومساعدتهم على تطوير الحياة التي يعيشونها. ويشمل تمكين المواطنين وتحويلهم من "متلقين" سلبيين إلى "مشاركين" فاعلين يكون ذلك من خلال رفع قدراتهم ومساعدتهم علي تنمية أنفسهم والارتقاء بنوعية الحياة. د) المشاركة : وتعنى تشجيع الأفراد علي المشاركة في العمل العام وإزالة العقبات من أمامهم. تأخذ المشاركة عدة صور منها المشاركة السياسية (عضوية الأحزاب، الانتخابات، الخ) والمشاركة الاجتماعية (مؤسسات العمل الأهلي، الجهود التطوعية، الخ)، والمشاركة الثقافية (دخول الحياة الثقافية، وتقدم منتجات ثقافية في شكل كتب أو أعمال فنية، الخ. ه) محاربة الفساد : و الفساد يعنى سوء استخدام الموقع الوظيفي من أجل تحقيق مكاسب شخصية وسياط الفساد يلهب ظهور الناس كل يوم في صورة شراء سلعة أكثر من ثمنها، والحرمان من خدمة يحتاجها الشخص، أو عدم الحصول علي فرصة عمل لغياب الواسطة.وربط حصول على الخدمة بتقديم الرشوة، فقد تحول الفساد إلي أداة لتسيير الحياة اليومية من خلال تحريك تروس البيروقراطية المتكلسة، وشراء الولاء، وتجنيد التابعين، وحشد الأنصار، وبناء قاعدة التأييد، وخدمة المصالح الضيقة، وهو ما يتسبب بالضرورة في إحداث فجوة حقيقية بين الأغنياء والفقراء في المجتمع، وهو ما يؤدي إلي ارتفاع مستوي التوتر الاجتماعي ولجوء بعض الفئات إلي العنف والجريمة. 4.حرية التعبير تعد حرية التعبير من مستلزمات عملية بناء السلام الاجتماعي في أي مجتمع. فمن الثابت أن المجتمعات تقوم علي التعددية الثقافية والدينية والنوعية والسياسية، كل طرف لديه ما يشغله، وما يود تحقيقه. القاسم المشترك بين الجماعات المختلفة هو أساس بناء المجتمعات. ولا يتحقق السلام الاجتماعي دون أن تتمتع كل مكونات المجتمع من مساحات متساوية في التعبير عن آرائها وهمومها وطموحاتها. في مناخ عقلاني يسوده الانفتاح ويمكن الاستماع إلي كل الأطراف وتفهم كل الآراء دون استبعاد لأحد ،بهدف الوصول إلي الأرضية المشتركة التي يلتقي عندها الجميع. أي التأكيد علي أن "حرية الرأي مكفولة ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود القانون والنقد الذاتي والنقد البناء وذلك لضمان سلامة البناء الوطني و أن تكفل الدولة للمواطنين حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لتحقيق ذلك"وصولا إلى سلامة البناء الوطني. 5.العدالة الاجتماعية تعد العدالة الاجتماعية ركنا أساسيا من أركان السلام الاجتماعي ،لا يمكن أن يتحقق سلام اجتماعي في أي مجتمع إذا كانت أقليته تحتكر كل شيء وغالبيته تفتقر إلي كل شيء. الصراع بين الطرفين سيكون السمة الغالبة. ولا يقتصر مفهوم العدالة الاجتماعية علي المشاركة في الثروة والسلطة وتوسيع قاعدة الملكية لتشمل قطاعات عريضة من المجتمع والحصول علي نصيب عادل من الخدمات العامة ولكن يمتد ليشمل ما يمكن أن نطلق عليه "المكانة الاجتماعية" التي تتحقق من خلال مؤشرات واضحة مثل التعليم والصحة والمياه والكهرباء وغيرها من ضرورات الحياة . وتقتضي العدالة الاجتماعية أن يحصل كل شخص علي فرصة حياتية يستحقها بجهده وعرقه وهو ما يعني انتفاء كافة أشكال المحسوبية والواسطة التي تعد الباب الملكي للفساد. 6.إعلام المواطنة يحتاج المجتمع إلي إعلام تعددي يساعده علي ممارسة التعددية من ناحية ويكشف المشكلات الاجتماعية والسياسية والثقافية بهدف معالجتها والنهوض بالمجتمع. هنا نفرق بين نوعين من الإعلام. إعلام المواطنة، وإعلام ضد المواطنة. ما يحتاج إليه السلام الاجتماعي قطعا هو إعلام يعزز المواطنة. يقصد بإعلام المواطنة أن تجد هموم المواطن مساحة في وسائل الإعلام. وتتنوع هموم المواطن حسب موقعه الاجتماعي والديني والسياسي والثقافي في المجتمع. هناك هموم للفقراء وهموم للمرأة وهموم للطفل وهموم للمسيحيين والمسلمين وأصحاب المعتقدات الأخرى وهموم للعمال،......الخ. من الطبيعي أن تجد كل فئات المجتمع مساحة تعبير عن همومها في وسائل الإعلام. وكلما وجد المواطن العادي مساحة تعبير ملائمة عن همومه في وسائل الإعلام كلما كان ذلك مؤشرا علي أن الإعلام ذات طبيعة ديناميكية تفاعلية مع المواطن. وعلي العكس مما سبق هناك إعلام يلعب دورا ضد ثقافة المواطنة سواء بتجاهل هموم مواطنين في المجتمع، أو بتفضيل التعبير طبقيا أو سياسيا أو ثقافيا أو دينيا أو عن هموم مجموعات معينة من المواطنين دون غيرهم. وقد يصل الأمر إلي أبعد من هذا حين يوظف الإعلام ذاته كأداة صراع سياسيا أو ثقافيا أو اقتصاديا أو دينيا من خلال تأليب مجموعات من المواطنين علي بعضهم البعض أو نشر ثقافة البغضاء والكراهية والتمييز والعنصرية في المجتمع أو ترويج ثقافة الأقلية وتجاهل ثقافة الأغلبية أو تصوير قطاعات من البشر بصورة سلبية وحجب الحقائق مما يدفع من المواطنين إلي التعامل معهم بتعالِ غير مبرر. 7. ذاكرة العمل المشترك. يختبر كل مجتمع أيا كانت لحظات تعثر وتراجع والمطلوب هو تجاوز هذه اللحظات بما يسمح ببنيان المجتمع علي أسس سليمة من التجانس والتلاحم والاحترام المتبادل ومن هنا يحتاج المجتمع إلي تأكيد مستمر علي ذاكرة العمل المشترك أي تذكر لحظات الوحدة دون أن يكون هاجس كل الأطراف هو الحديث عما يفرق الجماعة ويبعثرها. هناك من يقرأ التاريخ بحثا عن العوامل التي تدعم الوحدة. وهناك من يقرأ التاريخ بحثا عن العوامل التي تعمق الشقاق والمطلوب هو نقل ذاكرة العمل المشترك للأجيال الصاعدة ومهما كان من أمر المشكلات يكون النقاش حولها من منطلق البحث عن حلول تعمق خبرة العمل المشترك. هارون سليمان يوسف [email protected]