ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    شاهد بالفيديو.. لاعبون سودانيون بقطر يغنون للفنانة هدى عربي داخل الملعب ونجم نجوم بحري يستعرض مهاراته الكروية على أنغام أغنيتها الشهيرة (الحب هدأ)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعد حقبة من وفاته.. شخصيَّة يوسف كوَّة مكِّي (3 من 4)


بعد حقبة من وفاته..
شخصيَّة يوسف كوَّة مكِّي (3 من 4)

د. عمر مصطفى شركيان
[email protected]
تأبينه في جبال النُّوبة، بريطانيا وهولندا
لم يقتصر الحداد على يوسف كوَّة في جبال النُّوبة فحسب، ولكن في الولايات المتحدة ومصر ودول الخليج العربي والمملكة العربيَّة السعوديَّة واليمن وكينيا ويوغندا؛ أو باختصار شديد أينما وُجِد تجمع سوداني بصفة عامة، وحشد نوبوي بصفة خاصة.
فقد جاء تأبين يوسف كوَّة في جبال النُّوبة بعد وصول الجثمان إليها، وقد أشرف على مراسم الدفن القائد الرفيق عبد العزيز آدم الحلو، الذي خلفه في قيادة الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان في إقليم جنوب كردفان. وقد تلازم الاثنان ردحاً من الزَّمان: في نفس الكليَّة بجامعة الخرطوم أولاً، والعمل السياسي السري في السُّودان ثانياً، وبالطبع، في النِّضال المسلح في الحركة الشعبيَّة ثالثاً. لذلك جاء خطاب القائد الحلو لامساً مشوار الراحل النضالي البطولي (ملحق رقم (1)). ولإسهاماته البارزة في التكتل السياسي السُّوداني الذي جمع أهل الشمال والجنوب معاً، نعاه التجمع الوطني الديمقراطي (ملحق رقم (2))، والحزب الشيوعي السُّوداني (ملحق رقم (3))، ورثاه أفراد من الجالية السُّودانيَّة في بريطانيا (ملحق رقم (4))، ورئيس مؤسسة المجتمع المدني بكمبردج (ملحق رقم (5)).
ثمَّ كان تأبين الفقيد يوسف كوَّة في مدينة لندن في يوم السبت 12 أيار (مايو) 2001م، وقد قام بالإعداد لهذا التأبين التجمع الوطني الديمقراطي، والحزب الاتحادي الديمقراطي، والحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، وتضامن أبناء جبال النُّوبة بالخارج، وأسرة وأصدقاء الفقيد يوسف كوَّة مكي. ففي الكلمة التي ألقاها شقيق الفقيد - كامل كوَّة مكِّي – قال: "أصالة عن نفسي ونيابة عن أسرة المناضل والشهيد والرفيق يوسف كوَّة مكِّي، أود أولاً أن أخص بالشكر الأخوة ببريطانيا لموقفهم النبيل في ملازمة الفقيد طوال مشواره مع المرض. لقد كنتم بالقرب منه أثناء وجوده هنا في بريطانيا، وأثناء مرضه، وحين وفاته. ونسأل الله أن يجزيكم خيراً في دنياكم وآخرتكم (...) كما انتهز هذه السانحة وأخص بالشكر كل من ساهم في إقامة هذه الذكرى الطيبة لروح الفقيد. وأتقدَّم بجزيل الشكر والعرفان للحضور لما أظهرتموه من تكريم وإجلال وتقدير لروح الفقيد، مما زاد من اعتزازنا وفخرنا بالفقيد. إنَّ الفقد كبير، والمصاب جلل، ولكن حضوركم لهذا التأبين قد خفَّف عنا الكثير. لقد سعدنا بحضور الجميع؛ وسعدنا بحضور الشمال والجنوب؛ سعدنا بحضور الشرق والغرب؛ سعدنا بسوداننا الجديد الذي ظلَّ الفقيد يناضل من أجل تحقيقه، ونتمنَّى أن يجمعنا سودان واحد، سودان تسوده روح العدالة والحريَّة والمساواة. فأنا متأكِّد من أنَّ روح الفقيد سعيدة بهذا الجمع.
وبمناسبة هذه الذكرى سأقرأ لكم قصيدة من قصائد المرحوم وكان قد كتبها العام 1987م:
معذرة وألف معذرة يا إخوتي
لصراحتي.. لجرأتي
رغم ديني، رغم ثقافتي
أنا نوبي، أنا زنجي
رغم ماضي بني جلدتي
أنا إفريقي وتلك أصالتي
إفريقيَّتي منقوشة في قرقردي
منحوتة على شفتي
تنطق بها بشرتي
إفريقيَّتي في وقع خطواتي
في حرارة كلماتي
في عمق ضحكاتي
معذرة وألف معذرة يا إخوتي
لصراحتي.. لجرأتي
فأنا رغم ذل جدَّتي
رغم بيع جدِّي
رغم تخلُّفي
رغم سذاجتي
فغداً سيأتي
سأكلِّل بالعلم هامتي
وسأشعل شمعتي
وعلى ضوئها سأبني حضارتي
وعندها سأمد راحتي
وسأغفر لمن تعمَّد طمس هُويَّتي
لأنَّ المحبة والسَّلام هي غايتي
لقد كان الفقيد معلِّماً وقائداً ورفيقاً، وعلَّمنا أن نحمل شعلة التحرير، والتي سوف لن تنطفئ أبداً، بل سيزداد بريقها لمعاناً بجبال النُّوبة والجنوب وفي الأنقسنا لتعم كل سوداننا الحبيب. ولقد سُئِل يوسف ذات مرة ماذا كسب النُّوبة من النِّضال؟ وماذا خسروا؟ أعذروني لاستخدام نفس عباراته بالإنكليزيَّة للرَّد على هذا السؤال، وترجمته: "إن لجوء النُّوبة للنضال المسلح أكسبهم وضعاً وحالاً لم يكونا متوفِّرين لديهم من قبل. فلقد كسبوا احتراماً أكثر من ذي قبل حتى إنَّ كل حكومة لتحاول أن يكون من ضمن وزرائها نوبويَّاً. بدأ شعب النُّوبة يشعر بالثقة في النَّفس، ولم يعودوا يخشون الاعتراف بنوبويَّتهم أو الانتماء إلى النُّوبة، وهذا مكسبٌ كبيرٌ جداً. وبالطبع، فإن الخسائر في هذه الحرب لشتى: فلقد فقد النُّوبة أرواحاً كثيرة، ودماراً شاملاً في كل مناحي الحياة، ولكن هذا هو ثمن الحريَّة."(15) فنحن بالجبال يجب أن نسير في خطاه إلى الأمام. لقد مهَّد لنا يوسف الطريق، فعلينا تكملة المشوار. فهو قد أنجز ما عليه، فعلينا أن نبني هذه الحضارة التي كان يحلم ببنائها. ويوسف سيكون بيننا عندما نعمل، وعندما نعرف، وعندما نتوحَّد لإعادة بناء حضارة النُّوبة، وليس هناك ما يطفئ شعلة التحرير. وإلى الأمام؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته."
أما حديث الدكتور شول داو دينق، الذي أشرف على علاج الشهيد في مستشفى نوريتش، فكان خطابه حديث الخبير. إذ قال: "قابلت يوسف كوَّة لأول مرة العام 1993-1994م، وذلك بعد عودتهم من محادثات أبوجا الثانية (للسَّلام) بين الحكومة السُّودانيَّة من جهة، والحركة الشعبيَّة من جهة أخرى، وكانت هذه المحادثات نهاية جولة المفاوضات في نيجيريا كمقر لها. وفي طريق عودة الوفد إلى السُّودان الجديد قضوا أمسيَّة في لندن، وانتهز يوسف الفرصة وجاء ومن معه إلى مدينة نوريتش للفحص الطبي. إذ استطعت أن أوفر له فرصة مقابلة أحد الأطباء وهو متخصص في أمراض الكلي وضغط الدم. ومن خلال الفحص، وجد الطبيب أن ضغط دمه مضبوط، والفحوص المرتبطة بشكواه عن بعض الأعراض جاءت عادية. ولسوء الطالع، لم تكن هناك أيَّة دواعي ذاتيَّة أو موضوعيَّة لإجراء فحوص أخرى. وإذا كان بالإمكان اكتشاف ما أصبح سرطاناً في نهاية الأمر في تلك المرحلة المبكرة، لكان هناك ثمة فرق ملحوظ.
لقد أضحى مرض يوسف بائناً العام 1997-1998م، وفي ذلك الحين من الزَّمان كان المرض قد انتشر إلى بقيَّة أعضاء الجسد من موضعه الابتدائي، وبات يعاني من الآلام المبرحة التي تصيب صاحبها دوماً بالعجز. وقد تلقَّى كل العلاج المناسب بواسطة أطباء مختصين في علم الأورام في مستشفى نورفوك ونوريتش الجامعي لكي يستخدمه في السُّودان الجديد ولدي زياراته إلى بريطانيا. إنَّ البعض منكم قد يتذكَّر حضور القائد يوسف كوَّة بانتظام إلى المملكة المتحدة لمعاودة الفحص لحاله الصحيَّة، وفي كل الأحوال كان يتم صرف أدوية إضافيَّة له. ومع الأسف الشديد، كانت زيارته إلى المملكة المتحدة في كانون الثاني (يناير) 2001م آخر زيارة له. وكما تعلمون فإنَّه قد فارق الحياة بهدوء وبوجه برئ في يوم السبت 31 آذار (مارس) 2001م. وبالنسبة لنا نحن الذين كنا جوار سريره، جاءت النتيجة كالحلم، وكانت فجاءة، ولكن دون ألم. إنَّ وفائي الشخصي ليوسف منذ أن عرفته كصديق هو أنَّه مناضل سياسي ذو رؤية ثاقبة لحقوق الشعب، وإنَّه أب لأسرة، وإنَّه لشخص شجاع وله مقدرة تحمليَّة في وجه الألم الأليم، ثمَّ إنَّه قد ترك صورة منحوتة في مستودع ذاكرتي إلى الأبد. وإنَّي لأتذكَّر المشاريع التي تناقشنا حولها بإمعان، وإنَّي لعلى يقين أنَّ بعضاً من هذه القضايا التي فيها تحدَّثنا لسوف تبقى في الذاكرة للمستقبل وللحياة ما بعد يوسف. عاش يوسف ومات في سبيل أهل النُّوبة وكرامتهم ومصيرهم. وكان يملك أفكاراً بناءة، وله حضور البديهة، وإنِّي لأشعر بالفخر لأنَّني عاشرته. وفي الآن نفسه إنِّي لأشعر بالحزن العميق بوفاته التي لم يحن وقتها بعد، أي قبل تحقيق رؤيته للنُّوبة والسُّودان الجديد والحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان.
وفي الختام، نستطيع أن نقول وراء كل رجل عظيم أسرة قويَّة من الناس. ولسوف تستمر أسرة يوسف الممتدة تشعل الأمل حيَّاً كما نشاهد هنا شقيقه كامل كوَّة وزوجه العزيزة بيننا. وإنَّ أبناءه وأمهاتهم سيظلون يحفظون الجيل. دعني استرعي انتباهكم لشخصيَّة بعينها، وهي والدته. وكما سوف تشاهدونها على شريط الفيديو، حيث تركت نفوذاً قويَّاً في نفوس الناس خلال هذه الأزمان الحزينة. ولا يعني ذلك أنَّها لم تمر بالمرحلة التي اعتبرها أنَّها اتصفت بشكل مستديم بوهن في العزيمة، الإحباط، التحرُّر من الوهم، خيبة الأمل، اليأس، والكآبة. وبالتأكيد القلق، ولكن نسأل الله أن يهبها الشجاعة خلال هذه الأيام من أيام المأساة الإنسانيَّة ويواسيها.(16) اللهم أسكن روح يوسف في سلام مشرِّف أبدي."
ثمَّ جاء حديث غوردون مورتات-ماين. فماذا قال العم غوردون؟ لقد جاء في خطاب غوردون التأبيني، وذلك بعد أن حيَّا السيدات والسادة، والأخوات والأخوان، ما يلي: "قابلت يوسف كوَّة مكِّي لأول مرة في مؤتمر حقوق الإنسان في بون بألمانيا العام 1994م. أما قبل ذلك الحين فقد سمعت عن عطائه العظيم لنضال المناطق المهمَّشة، حيث أنَّ جنوب السُّودان جزء لا يتجزأ منها. إذ انتهزت الفرصة وناقشت معه أهداف الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، وكنت شاكراً لأنَّني وجدته معبِّراً وفصيحاً في تعدادها. وكان ذلك هو الحين الذي فيه استمعت إلى شهادته الشهيرة، والتي فيها قال: "مثل كثر من الأفراد الآخرين في المناطق المهمشة في الشمال، والذين تعرَّضوا إلى غسيل الدماغ من مضطهدي شعبنا، كنت أعتقد بأنَّي عربي، ولكن بعد الخضوع إلى ثمة تجارب حقيقيَّة ومرة اكتشفت أنَّني لست بعربي، ولن أكون واحداً منهم (في يوم ما)."
ثم كانت هناك ثمة مناسبات أخرى في لندن، والتي سنحت لي الفرصة لكي استمع إلى خطاباته، والتي فيها أكَّد في أشد ما يكون التأكيد ضرورة التضامن والمصير المشترك بين النُّوبة من جانب، وشعب جنوب السُّودان من جانب آخر في النضال، لأنَّه الأمل الوحيد الذي يملكه المجتمعان. وكنت سعيداً أن أرى القائد يوسف كوَّة في هذه الروح المعنويَّة العالية من التفاؤل، وكما هي الحال دوماً في مثل هذه الظروف، لم أكن أتوقَّع بأنَّنا لسوف نفتقده عاجلاً أو آجلاً. وإنَّني لعلى حزن شديد على فقد هذا البطل العظيم (من أبطال) نضالنا في هذا الحين، ونحن في أمس الحاجة إلى عطائه وبذله.
إنَّ لفي إيماني العميق أنَّ أهل جبال النُّوبة الوطنيين، الذين قادهم القائد يوسف كوَّة خلال السنوات العصيبة من سنوات النِّضال المسلَّح، سينجبون قائداً أو بطلاً آخر مثيلاً له. اللهم أرحم روح القائد يوسف كوَّة مكِّي، وأسكنه في سلام.
وعوداً إلى إدراك المصير المشترك بين النُّوبة وأهل جنوب السُّودان، فإنَّ هذا الإدراك يعود إلى الحياة البرلمانيَّة في الخرطوم إبَّان فترة الستينيَّات، وحتى قبل ذلك الرَّدح من الزَّمان، وذلك حين شرع نواب النُّوبة تحت زعامة الأب فيليب عباس غبوش من ناحية، ونواب من جنوب السُّودان من ناحية أخرى في العمل سوياً. فالآن، إنَّه لمن الواجب على جميع قيادات المجتمعين أن يحافظوا على هذه العلاقات والمبادئ الراسخة، والتي في سبيلها ضحى يوسف كوَّة بحياته، وذلك إذا أرادت شعوب هذين المجتمعين تأكيد بقائهم.
تأريخيَّاُ كانت جبال النُّوبة وجنوب السُّودان من ضمن المناطق التي كان يقطنها السكان الأصليين الأفارقة، والذين وُضِعوا تحت طائلة "قانون المناطق المقفولة"، وحُرِموا من فرص التنمية السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة إبَّان العهد البريطاني-المصري (1898-1956م). ولا علم لي أأُلغي هذا القانون الخاص ب"المناطق المقفولة" أم لا تحت الحكم الحالي العربي في شمال السُّودان. أمَّا فيما يختص بالتمييز في التنمية فلم يتغيَّر أي شيء."
أما كلمة الدكتور محمد سليمان محمد، رئيس مجلس معهد البديل الإفريقي بلندن، والتي حملت عنوان "إلى يوسف كوَّة مكِّي في الود والاحترام"، فقد جاءت على النحو التالي: "إنَّ اليوم لهو الوقت المناسب لإظهار الدور الهام الذي لعبه صديقنا الراحل يوسف كوَّة مكي في تعزيز وحدة كثر من النُّوبة حول حقَّهم الشرعي لتكون لهم هُويَّة أثنية مستقلة، أي كشعب النُّوبة. وكان المدافع الفخور والحامل لتقاليد وثقافة النُّوبة. إذ قادته الطريق إلى نوبويَّته دون توقف إلى الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، وإلى الاحترام المتبادل والتعاون مع كافة السُّودانيين، الذين يقدِّسون التعدد الأثني والديني والثقافي في الشعب السُّوداني.
فلم يهجره وضوح الغرض والفعل الصَّارم خلال حياته السياسيَّة والعسكريَّة. فمنذ أيَّامه الطالبيَّة بجامعة الخرطوم حتى أيَّامه الأخيرة وسطنا، كان يوسف يمتاز بالشفافيَّة في أغراضه، واضحاً في استنطاق أهدافه، معترفاً بالصعوبات، لكنه لم يستهجن الأمل، ولم يهجر تفاؤله المعدي.
لقد قدَّمنا لكم اللقاءات الصحافيَّة التي أجرتها الصحف العربيَّة مع يوسف.(17) فمن لقائه الصحافي الأول خلال زيارته الأولى لبريطانيا العام 1993م إلى الأخير الذي أجرته معه الصحيفة قبيل أيَّام قلائل من وفاته، يمكنكم أن تروا وتقدِّروا النزاهة، والوضوح السياسي والأخلاقي لإجاباته. ومن خلال كل هذه السنوات، كان وقوفه إلى جانب حقوق شعب النُّوبة، وتحالفه المتلازم مع الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، وإيمانه اليقين أنَّه في السُّودان الجديد لا مجال للتطرُّف والتزمُّت، كل ذلك عبَّر عنها يوسف جليَّاً في كل هذه اللقاءات الصحافيَّة.
لم يتردَّد يوسف أبداً في قول الحق، مهما كان هذا الحق مؤلماً كما يمكن أن يكون أحياناً. وهذه النزاهة تتطلَّب النقد الذاتي، وهذا سلوك يحاول السياسيُّون العاديُّون تجنُّبه بكل التكاليف. وفي ذات مرة سُئل يوسف كوَّة عن الوضع العسكري، وجاءت إجابته بأنَّه عسير؛ وعن تجنيد الأطفال في الجيش الشعبي، قال: "نحن نحاول في أشد ما تكون المحاولة أن نبعدهم عن الجيش الشعبي، ولكن بعضاً منهم استطاع أن يهرِّب نفسه إلى قواتنا.
وأتذكر حين التقى يوسف لأول مرة بغريمه الرائس – وزير الدفاع السّابق (اللواء م) فضل الله برمة ناصر – فإذا يوسف يقول له دون تردد: "رفضت أن أقابلك في الماضي، ولكن حين سمعت أنَّك الآن نادم على قرارك بتسليح البقارة فإنَّى لعلى استعداد – في سبيل شعبنا – على الجلوس معك ومناقشة مستقبل التعاون السلمي بين النُّوبة والبقارة." وفي الحق، جلس معه لعدة ساعات. وكان هذا الاجتماع قبل أسبوعين فقط من وفاة يوسف، وكان في شدة الألم الأليم، وكانت لثته تنزف دماً خلال تلك الأمسيَّة.
وحين يُكتب تأريخ السُّودان الحديث بواسطة الذين يؤمنون بالمساواة والنزاهة، ويدافعون عن الحقوق الأثنية والدينيَّة والثقافيَّة لكافة شعبهم، لسوف يكون هناك فصل للدور البارز الذي لعبه يوسف كوَّة مكِّي في نشر الأفكار وتبني الأفعال التي ساهمت في هذا التحول الأساس. وفي إعلاء هُويَّة شعب النُّوبة، استطاع يوسف أن يقر بهُويَّة الآخرين ككنز. وعوداً إلى أهله النُّوبة، فقد ساعده انتماؤه إليهم أن ينطلق إلى الأمام ويقبل شعوب العالم دون تمييز أو تحفظ. وبتركيزه على ما هو محلي، جعله أكثر وعياً بالتزاماته الإنسانيَّة الدوليَّة.
حين تتم إساءة معاملة شعبك، ويُحطون من قدرهم، ويُقتلون بالآلاف، فإنَّ الاستجابة الإنسانيَّة العادية لهي مقابلة الكراهيَّة بالكراهيَّة، والجريمة بالانتقام. ولحسن تعليمنا الإنساني والسياسي جميعاً، لم يشاء يوسف أن ينغمس في الكراهيَّة أو الانتقام. كان باستطاعته أن يرى ما هو أبعد من الذي يحدث الآن، وكان يدرك ردة فعل عادية للحاجة البعيدة المدى للتعايش السلمي والسَّلام الدائم. وهذه الميزة صيرته قائداً عظيماً كما كان. إذ تركت نظرته البعيدة نفوذاً قويَّاً وسط الذين يعرفونه جيِّداً اليوم. وفي المستقبل لسوف (تكون لهذه النظرة البعيدة) نفوذ مساو وسط الشعوب المتعددة لكل السُّودان.
دعنا نتذكَّر كذلك أنَّ يوسف لم يكن سياسيَّاً جيِّداً فحسب، بل كان قائداً عسكريَّاً ناجحاً كذلك. وفوق ذلك كان زوجاً جيِّداً جداً وأباً كريماً، وبالنسبة لنا، لدينا امتياز بأن ندعوه صديقاً؛ رفيقاً حسن المعشر كان ثمَّ مثيراً.
سوف يُفتقد يوسف كوَّة مكِّي بمرارة بواسطة شعبه النُّوبة، وحركته وجيشها، بواسطة كل الذين يعملون ويحاربون ليروا السُّودان الجديد منطلقاً من رماد التطرف الديني والظلم الاجتماعي والاقتصادي؛ وبالتأكيد، بواسطة أسرته وأصدقائه، والذي يملك يوسف كثراً منهم."
وجاءت كلمة الدكتور أحمد عبد الرحمن سعيد، والذي كان في ذلك الحين من الزَّمان مستشاراً للقيادة السياسيَّة والعسكريَّة للحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان في جنوب كردفان، بعنوان "وداعاً الرفيق القائد يوسف، أسد كوش وحمام السَّلام" على النهج التالي: "بتواضع منى شديد أقف أمامكم اليوم هنا في ذكرى انقضاء 40 يوماً على وفاة أحد أبطالي، الرفيق الراحل القائد يوسف كوَّة مكِّي. لقد تعجبت به دوماً، وذلك قبل أن التقى به، كالأب الروحي لنضال التحرير في جبال النُّوبة، وكأحد القادة الممتازين في كل السُّودان. مهما يكن من شيء، فلا بد أن أقر بأنَّني عرفته شخصيَّاً في السنوات الثمان بالتقريب. وفي الحق، لقد صرت قريباً منه في السنوات الخمس الأخيرة فقط. برغم من أنَّ فترة الخمس سنوات ربما لم تكن كافية، إلا أنَّني اعتقد بأنَّها سنوات خصبة وواعدة في حياتي. فليس ذلك أنَّ هناك شيئاً خاصاً بي، ولكن لأنَّ هناك ثمة شيئاً فريداً فيه. وذاك الشيء هو غزارة معرفته، رؤيته وتجربته، وفوق ذلك كله رضاؤه للمشاركة ومقدرته في تمرير هذه المعرفة. ومن هذا المنطلق، فإنَّه أستاذي. ولدينا بعض اللحظات الخاصة المشتركة، حيث تحدثنا معاً عن النِّضال: مستقبله وحاضره وماضيه، وكذلك عن مشكلاتنا الشخصيَّة. كان شخصاً ذا الكمال العظيم والعاطفة العظيمة. كان إنسانيَّاً، خيِّراً، صاحب كرامة دون أن يكون متكبِّراً، وصاحب دعابة حلوة وذكيَّة. لقد عرفته بأنَّه إنسان ذي رؤية واتجاه واضحين لنضال شعب النُّوبة وكل الشعوب المضطهدة في السُّودان الجديد.
لقد عرفته كقائد، رفيق، وكصديق، ولكن ليس كرئيس. إنَّه لم يكن رئيساً، ولكنه كان قائداً يقود كقدوة حسنة يُقتدي به. إنَّ الذين سنحت لهم الفرصة لزيارة مكتبه الصغير في نيروبي، ربما رأوا ورقة بحجم "أيه فور" معلقة على لائحة الإعلانات، ومكتوب عليها: "كن قائداً، لا رئيساً." هذه القطعة المكتوبة تقول الكثير عن الرفيق يوسف. إذ إنَّه اعتاد أن يستمع قبل الحكم (على الأشياء)، وكان يعطى النصيحة بدلاً من التعليمات، ويقنع بدلاً من أن يفرض. كان رجلاً ذا نفوذ شديد؛ ليس في القوة البدنيَّة فحسب، التي كان بالطبع يملكها بغزارة، ولكن قوة السلطة بحكم موقعه في الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، ومع ذلك نادراً ما استخدمه. فليس كثراً من الناس ممن يملكون هذه السلطة يتردَّدون في استخدامها. "السلطة ملك للشعب"، هكذا كان يقول يوسف. وكما عرفته على مدى الزمان، كان يمارس ما يدعو إليه.
كان يملك مصلحة حقيقيَّة في الشعب: آراؤهم، مصالحهم ومشكلاتهم. كان يثق في الناس، ونتيجة لتلك الثقة اكتسب احترامهم وثقتهم. وكحاكم لجنوب كردفان، أنشأ مؤسسات مدنيَّة في كل أرجاء جبال النُّوبة وعلى كل المستويات (مقاطعة، بيام، وبوما). وكما هي الحال حاليَّاً، فإنَّ جنوب كردفان لهو الإقليم الوحيد في السُّودان، الذي يملك سلطة مدنيَّة فاعلة.
إنَّ أحد الجوانب في موهبة الرفيق يوسف، والذي لا يُعرف على نطاق واسع، لهو حبه للشعر، وكان شاعراً هو ذاته. وفضيلة أخرى مدهشة كان يملكها الرفيق يوسف هو مقدرته على العفو على الذين آذوه. إذ تتضح طبيعة الراحل يوسف المسامحة بجلاء شديد في إحدى قصائده، حيث يسير بعض أبيات هذه القصيدة على النحو التالي:
رغم ماضي بني جلدتي
أنا إفريقي وتلك أصالتي
إفريقيَّتي منقوشة في قرقردي
منحوتة على شفتي
تنطق بها بشرتي
إفريقيَّتي في وقع خطواتي
في حرارة كلماتي
في عمق ضحكاتي
معذرة وألف معذرة يا إخوتي
لصراحتي.. لجرأتي
فأنا رغم ذل جدَّتي
رغم بيع جدِّي
رغم تخلُّفي
رغم سذاجتي
فغداً سيأتي
سأكلِّل بالعلم هامتي
وسأشعل شمعتي
وعلى ضوئها سأبني حضارتي
وعندها سأمد راحتي
وسأغفر لمن تعمَّد طمس هُويَّتي
لأنَّ المحبة والسَّلام هي غايتي
حقاً، كان (يوسف) شخصاً عفوَّاً. ومع ذلك، لم يكن "غبيَّاً بحيث لا يعفو ولا ينسى"، ولا "ساذجاً كذاك الذي يعفو وينسى،" ولكني اعتقد بأنَّه كان "حكيماً بحيث يعفو ولا ينسى."
إنَّ موت الرفيق يوسف لهو فقد عظيم لكل الذين عرفوه عن قرب، وبخاصة أسرته المباشرة وأهل جبال النُّوبة. ولكن – وهذا هو الأهم في الأمر – إنَّه قد ترك فراغاً كبيراً في النِّضال في جبال النُّوبة وفي كل أنحاء السُّودان الجديد. أيَّاً كان الأمر، فلا نستطيع إلا أن نملأ ذلك الفراغ الذي تركه الرفيق يوسف. ينبغي أن نحمل أنفسنا، ونتعلَّم أن نعيش بدونه. وإنِّي لأعلم أنَّ ذلك لسوف لا يكون سهلاً، لكن الواجب يملي علينا أنَّ النِّضال ينبغي أن يستمر، برغم من فقدنا العظيم. نحن فخورون ومكتفون بما فعله وما أنجزه. لقد أدَّى نصيب الأسد من النِّضال. ولقد خدم الشعب بشرف وبتجرُّد عن الذات، وضحى بحياته عن رضا في هذه العمليَّة. وقد آن الأوان له أن يرتاح في السلام الأبدي. كانت رغبته أن يرى سيادة العدالة، وتحقيق الحريَّة، واستعادة الديمقراطيَّة. ونحن نعد بأن نحقِّق رغبتك.
إنِّي لأؤمن أنَّ في شخص وشخصيَّة الرفيق عبد العزيز آدم الحلو لدينا الإنسان الأجود ليخلف الرفيق الراحل يوسف ويقود النِّضال حتى النصر. لقد وُلد القائد عبد العزيز وتربى في جبال النُّوبة. وتزامل (مع الراحل يوسف كوَّة) في جامعة الخرطوم في الفترة ما بين (1975-1980م). وبدون أيَّة دهشة، كان الرفيق عبد العزيز نائباً ليوسف في تنظيم "كومولو" للشباب السري بالجامعة. وكذلك كان عبد العزيز نائباً للرفيق يوسف حينما جاءوا في بادئ الأمر إلى جبال النُّوبة العام 1987م لإشعال الثورة. إنَّه ليس من الحق في شيء في مقارنة الرفيق عبد العزيز مع الرفيق يوسف، ولا نتوقَّع أن يكون عبد العزيز صورة طبق الأصل ليوسف. إنَّهما لشخصيتان مختلفتان، وكلاهما سيد نفسه. على أيَّة حال، إنَّ لهما رؤية، رسالة، هدف وبرنامج مشترك. وكذلك يشارك يوسف في تبنيه الديمقراطيَّة الشعبيَّة، وجعل النضال حركة الشعب. مثل القائد الراحل يوسف، يمتاز (الرفيق عبد العزيز) بنكران الذات، وهو متواضع، وصاحب رؤية ومعرفة. إنَّه أيضاً لعادل، لكنه حازم، وهو حاسم في أشد ما يكون الحسم فيما يختص بالنضال. إنَّه محبوب وموضع إعجاب كل الناس في جبال النُّوبة وفي كل أنحاء السُّودان الجديد. إنَّ سجله الانجازي في جبال النُّوبة، جنوب السُّودان، ودارفور وشرق السُّودان ليتحدَّث عن نفسه. إنَّ شعب جبال النُّوبة لمتحد تحت قيادته. ففيما أنا في جبال النُّوبة إذا وصل (الرفيق عبد العزيز) في شباط (فبراير) 2001م، وكان الناس فرحين مرحين.
على شرف الرفيق الراحل يوسف، ولتأكيد أنَّ رؤيته لسوف تُطبَّق، ورسالته تُكتمل، دعنا نتحد كلنا وراء خليفته المختار. فلا شك في أنَّه لسوف يكون خير خلف لأعظم سلف. وفي خطابه للحادين في مراسم الدفن، ذكر القائد عبد العزيز خمسة وعود للرفيق الراحل يوسف. هذه الوعود تمثل رأي كل الناس في جبال النُّوبة (بالإضافة إلى نفسي) كما عبَّر عنها قادة المؤسسات المختلفة وقطاعات المجتمع (المجلس الاستشاري، القيادة العسكريَّة، منظمات الشباب، تنظيمات النِّساء، القيادات التقليديَّة، إلخ). دعنا جميعاً في الخارج نعطى هذه الوعود للرفيق يوسف اليوم. إذ أنَّه لسوف يكون خيانة إذا لم نفعل ذلك.
قال القائد عبد العزيز، وإنِّي لأقتبس مما قاله:
"إنَّنا نعرف، أيها المعلم، حجم المسؤوليَّة التي تركتها على أعناقنا، بل وقدر التحدي الذي أمامنا..
ولكن نعاهدك، كمقاتلين في الجبهة الرابعة وباسم الشعب، بأن نسير على خطاك وعلى الدَّرب الذي مشيت فيه، بأن نكون دوماً أوفياءاً ومتَّحدين (في كل قطاعاتنا، مزارعين ورعاة ومقاتلين وشباب ومرأة، في أرض الجبال وفي المهجر)، موحَّدين حول المبادئ التي وهبت حياتك لها..
ونعاهدك بأن نكون قوَّة كاسرة على أعدائك – أعداء الحق والإنسانيَّة – ونقاتل، بكل ما أوتينا من قوَّة، في صفوف الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، الذي اخترته وقاتلت في صفوفه، وذلك حتى النصر، وبناء السُّودان الجديد، الذي كنت تحلم به، وتعمل على تحقيقه.
ونعاهدك بأن تظل سيرتك ومواقفك مصدر إلهام للأحياء منا وللأجيال القادمة، على طريق النِّضال."
لا أحتاج أن أضيف شيئاً. ارتاح في سلام، رفيقنا العزيز، أسد كوش وحمام السلام. لقد تركت النضال في أيادي أمينة. أشكركم."
وكذلك جاءت كلمة الدكتور عمر مصطفى شركيان، والذي كان في ذلك الرَّدح من الزمان رئيس تضامن أبناء جبال النُّوبة بالخارج، على النحو التالي: "نحن هنا اليوم لنؤدي الإجلال والتقدير لروح القائد الراحل يوسف كوَّة مكِّي. كان والده، الذي انتقل إلى جوار ربه العام 1992م، ضابط صف، حيث حارب لصالح الإمبراطوريَّة البريطانيَّة إبَّان الحرب العالميَّة الثانية (1939-1945م). وكأي صبي من صبية النُّوبة شبَّ يوسف كوَّة وهو يحلم بأن ينال تعليماً جيِّداً، لكنه قد عانى من الواقع الصعب في السُّودان، وبخاصة من عناء السفر إلى أجزاء مختلفة من البلد سعياً وراء التعليم. إذ تركت هذه الخبرة أثراً قويَّاً في حياته في نهاية الأمر، وحين أمسى مناضلاً في حرب العاصابات. ولعلَّ يوسف كان قد أدرك باكراً أنَّ الحياة مدرسة، وفصولها مليئة بالدروس العظام. فها هو يقول إنَّه حين كان في المدرسة الأوليَّة كان ينحدر نحو الأصوليَّة الإسلاميَّة بعجلة تزايديَّة. فقد كان عاطفيَّاً في دروس التربيَّة الإسلاميَّة بشكل خاص والعقيدة ذاتها بشكل عام، وكان يحرز أعلى الدرجات في مادة التربية الإسلاميَّة. ولكن واحدة من التجارب الأولى التي جعلته يتخذ موقفاً مغايراً هي قصة سردها لهم أستاذ التربية الإسلاميَّة، وكان الموضوع عن عذاب القبر، والذي فيه شرح الأستاذ المعلِّم في هذه القصة: "إذا كان الميت مسلماً، يجيء ملك ذي اللون الفاتح ليقوده إلى الجنة؛ أما إذا كان المتوفى كافراً، فيأتي ملك عبد أسود ليأخذه إلى الجحيم." فاندهش يوسف الاندهاش كله كيف يكون الملك عبداً؟ وكيف يكون هذا الملك العبد أسوداً؟ هذه الأسئلة أمست تربك يوسف في جوانيَّته وبرَّانيَّته برغم من أنَّه لم يشرك فيها أحداً. وهناك ثمة تجارب أخرى أوردها يوسف شخصيَّاً، وكذلك ذكرها آخرون رواية عنه (ملحق رقم (1)).
وفي جامعة الخرطوم، وفيما كان يدرس الاقتصاد، انغمس يوسف في إطلاع عميق عن تأريخ السُّودان، والأنثروبولوجيا (علم الإناسة) وعادات وتقاليد النُّوبة. وقاده إطلاعه إلى اكتشاف ماضي النُّوبة العريق وتأريخهم الملئ بالشجاعة، الفروسيَّة والكرامة. إذ حدثنا أحد أنداده بجامعة الخرطوم أنَّه كان يُنشأ حلقة سياسيَّة صغيرة بعد وجبة العشاء وفي داخليَّة الطلاب، وذلك لإذاعة رأيه في الناس. وسرعان ما تنمو الحلقة شيئاً فشيئاً ويزداد قليلاً قليلاً في الحجم والشكل. وأضاف محدثي ذلك أنَّه لم يندهش حين علم أنَّ يوسف كوَّة مكِّي قد التحق بالحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان. وفي جامعة الخرطوم كذلك العام 1975م شرع يوسف، والذين كانوا معه وكان تعدادهم حوالي 35 طالباً، في وضع أساس لاتحاد طلاب جبال النُّوبة. ومن ثمَّ عقدوا مؤتمراً استمر أربعة أيَّام، ولكن سرعان ما تحول هذا إلى العمل السري، وكان يسمى "كومولو"، وهذا التنظيم الوليد الذي عُرِف ب"كوكولو" هو الذي أوفد مثقفي النُّوبة في نهاية الأمر للالتحاق بالحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، كما أوضحنا سلفاً. وبعد انضمامنا – نحن معشر النُّوبة – إلى الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، تعرَّضنا للحصار والعزلة، وإطلاق النار والقذائف. تعرَّضنا للإساءة والسخريَّة بواسطة أعدائنا في الخرطوم وناطقيهم الرسميين، وعملائهم ومعاونيهم. إبَّان فترة الأهوال والأوجال هذه وقفنا كالرِّجال وحملنا رؤوسنا عالياً. لقد تصدينا للمهاجمين، نسجِّل نصراً بعد نصر، ونتحدَّى قوتهم. وفي بحر ستة عشر عاماً من النِّضال، جعلنا العالم يعي بوجودنا كأمة، وحرَّكنا دول العالم لتقدير قضيَّتنا العادلة.
بالتأكيد، حين يتعرَّض شعب بأكمله للرَّفض بواسطة الدولة التي هم فيها مواطنون، لكنهم غير ممثَّلين، ينبغي عليهم أن يملكوا حقاً في الحياة تحت نمط مختلف من الإجراء الذي يضمن بقاءهم. لقد أوجدت الدول لخدمة شعوبها؛ وتأسست الحكومات لحماية مواطنيها ضد العدوان الخارجي والداخلي. بناءاً على هذه الأرضيَّة تُسلِّم الشعوب حقها وسلطتها في الدفاع عن النفس لحكومة الدولة التي هم فيها يقيمون. ولكن حين تنقلب ماكينة الدولة وسلطات الحكومة ضد مجموعة بأكملها في المجتمع على أساس عنصري، قبلي، ديني، فيجب على الضحايا أن يكون لهم حق استرداد السلطات التي سلموها للدولة والحكومة، وذلك للدفاع عن أنفسهم.
كان القائد يوسف كوة يؤمن بأنَّ النُّوبة – تحت قيادته – قد التحقوا بالحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان كوحدويين، وما زالوا يؤمنون بذلك. إنَّهم ليقدِّسون بكل قوة مبدأ التعدديَّة، حقوق المجموعات الأثنيَّة المختلفة، الانتماء الديني، وفوق ذلك، وحدة السُّودان على أساس اللامركزيَّة. إذ يُوجد النُّوبة في الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان كقوة ضاربة مقاتلة، وإذا كانت هناك فترة انتقاليَّة بحيث فيها يقرِّر أهل الجنوب مصيرهم، فينبغي معاملة النُّوبة بالمثل. بالإضافة إلى ذلك، إذا قرر الجنوب الانفصال، ينبغي على النُّوبة أن يمارسوا حقهم في تقرير مصيرهم. إذ عليهم أن يختاروا ما بين البقاء كجزء من الجنوب أو الشمال أو كدولة مستقلة. والقرار يعتمد كليَّاً على شعب النُّوبة. كان ليوسف كوَّة اعتقاد ليس إلى الشك من سبيل بأنَّ إعلان "الإيقاد" يُعتبر مبادرة شاملة لحل المشكل السُّوداني، لأنَّه أعطى الأولويَّة لوحدة القطر؛ أما إذا اختزل المنبر لحل ما أسموه "مشكل جنوب السُّودان"، فلسوف لا يكون مؤهلاً لحل قضايا السُّودان كلها، لأنَّ "مشكل جنوب السُّودان" جزء لا يتجزأ من أدواء البلد المتأصلة.
إنَّ النُّوبة والجنوبيين لهم أكثر المجموعات الأثنيَّة شعوبيَّة في السُّودان، ولا يزعمون وجود الدم العربي فيهم أو الانتماء إلى العروبة في شيء، ويستخدمون العربيَّة فقط كلغة ثانية. إنَّ أغلب أهل النُّوبة ليرغبون ويبحثون في تحقيق تفاهم مع رصفائهم في جنوب السُّودان. ولعلَّ واحداً من الأسباب هو أنَّ المجموعتين ينتميان إلى المناطق المهمشة في السُّودان، ورغبتهم في وقفة مشتركة نابعة من حاجتهم إلى تعزيز ضغطهم على الحكومة في سبيل مضاعفة سرعة التنمية في هذه المناطق، إن كانت هناك أيَّة تنمية. وسبب آخر هو أنَّ النُّوبة والجنوبيين يشتركون في شعورهم بأنَّهم أفارقة سود في مواجهة العرب؛ ومن أجل الارتقاء بهُويَّتهم، شعروا بأنَّه يجدر بهم تشكيل كتلة واحدة. بناءاً على هذه الأسباب – بالإضافة إلى أسباب أخرى – امتشق القائد يوسف كوَّة مكِّي السلاح وحارب في سبيل أهله. برغم من مرارة الاضطهاد بواسطة الأقليَّة الحاكمة في الخرطوم، أعلن القائد يوسف أكثر من مرة – وفي قصيدته – بأنَّه على استعداد أن يغفر لمضطهديه بعد بناء حضارة شعبه.
بعد انشقاق الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السّودان، أنشأ القائد يوسف كوَّة المجلس الاستشاري لجنوب كردفان في آب (أغسطس) 1992م. إذ تكوَّن المجلس من قادة الكتائب، رجال الكنائس، الرابطة الإسلاميَّة، وممثلين للنساء. وكان من أكثر أعمال المجلس خطورة هو اتخاذ القرار حول قضيَّة النضال المسلَّح. ففي حوار مفتوح، اعترف يوسف كوَّة بأنَّ مبادرة الانخراط في النضال المسلَّح في الماضي كانت مسؤوليَّته شخصيَّاً، أما إذا رغب النُّوبة في مواصلة النضال فعليهم أن يقرِّروا الآن. "هناك أزمان حين يتقدَّم القائد رعيته، ويسير في اتجاه جديد، واثقاً بأنَّه يقود شعبه في الاتجاه الصحيح،" هكذا خاطب القائد يوسف كوَّة أعضاء المجلس المجتمعين. واستمر النقاش حول استمراريَّة النضال لمدة ثلاثة أيَّام حسوماً. وحين بدأ بعض الرجال يظهرون رخوة كان صوت النساء لصالح النضال متأرجحاً. "إذا كان الأمر متعلقاً بالعري أو عدم الملح كنتيجة للحرب، كان أجدادنا يروحون ويأتون عراة، ويأكلون الطعام دون ملح،" هكذا جاء قول نساء النُّوبة للحاضرين. وفي إجماع نوبوي معهود، قرَّر المجتمعون كلهم أجمعون أبتعون بأنَّ يستمروا في النضال.
مثَّل يوسف لهيباً من أمل شعب النُّوبة لا ينطفئ؛ عاش ومات على المبادئ، الإخلاص، الكرامة، والفخر. إنَّه كان ابناً حقيقيَّاً لأرض حبَّاها؛ لم ينهزم أبداً بالإغراءات الدنيئة للاستسلام، أو الفتور الجسدي، ولم يقع حبيساً للاحتياجات الماديَّة. كما أنَّه لم يخن أبداً ثقة شعبه، يتحدَّى الموت عند المحن، ترك يوسف ورثة من النادر جداً الامتثال بها. وإنَّ الألم الذي يمزِّق قلوبنا الآن لهو أنَّنا كم تمنينا لو أنَّه عاش حتى تتحقَّق أحلامنا المشروعة. نتمنى أن يسكن الله القادر روح بطلنا الذي رحل في السلام الأبدي.
السيدات والسادة، ليس كل القادة يعيشون ليقودوا شعوبهم إلى "أرض الميعاد"، والقائد يوسف كوَّة هو واحد من هؤلاء الذي أمست حياته قصيرة بسبب المعاناة الطويلة مع المرض. أما بالنسبة لأهل النُّوبة كشعب، فإنَّنا على يقين بأنَّنا لسوف نتجاوز فقدان القائد يوسف. وبعد هذا كله، فإنَّنا شعب نبلغ من المرونة شيئاً شديداً، ومن الشجاعة شيئاً أكثر. نحن الآن نجد العزاء والسلوى في شخص درَّبه يوسف كوَّة وخلفه على العهد، القائد عبد العزيز آدم الحلو. وإنَّ القائد الحلو لرجل ذي حكمة عظيمة وموهبة: إنَّه لسياسي ذكي، وعسكري تاكتيكي كبير. لقد حارب في معارك كثيرة في جنوب السُّودان، النيل الأزرق، وشرق السُّودان ودارفور. تحت قيادته في جنوب كردفان، سيظل النُّوبة في أيادي أمينة.
قرَّر النُّوبة في مجلسهم الاستشاري دون التباس الاستمرار في محاربة النظام في الخرطوم. إذ قالوا: "لقد أخرجنا يوسف من الكهوف وفتح الباب أمامنا للتعبير عن أنفسنا كنوبة. أشكركم جزيلاً على حسن الاستماع."
وفي يوم 12 أيار (مايو) 2001م تذكَّر النُّوبة في جبال النُّوبة يوسف كوَّة مكِّي بعد مرور 40 يوما على وفاته. فجاء في خطاب ألقاه القائد الدكتور جون قرنق دي مبيور ما يلي: "اليوم هو اليوم الثاني والأربعين منذ أن رحل عنا القائد يوسف كوَّة مكِّي فجاءة، ولقد خصصنا هذا اليوم لذكراه. كان ليوسف أصدقاء كثر وأسرة، من جبال النُّوبة إلى بقيَّة أنحاء السُّودان الجديد وكل العالم. إذ يحتشد اليوم بعض من أصدقائه والداعين له بالخير. أشكركم بالإنابة عن يوسف وعن الحركة الشعبيَّة لإعداد يوم يوسف كوَّة.
لقد ندبت الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان وشعوب السُّودان الجديد حقاً لموت يوسف كوَّة. فالذين شاهدوا فيلم مراسم الحداد، بدءاً من نيروبي إلى حيث استلمت الجثمان، إلى ياي ثمَّ أخيراً إلى جبال النُّوبة، يتفق معي أنَّه ما من أحد من السُّودان الجديد قد تمَّ البكاء عليه مثلما حدث ليوسف. إذ خرج جميع سكان مدينة ياي لوداعه: بكى الناس بغزارة وهم يودعونه. هذا يدل على كيف كان يوسف محبوباً بواسطة الجميع في الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان وفي السُّودان الجديد؟ هذه المراسم تظهر عظمة يوسف وفخر النُّوبة.
إنَّ فقدان القائد يوسف كان حزيناً جداً، يفوق الكلمات. بعد أسرته المباشرة، من المحتمل أن أكون أنا أكثر الناس ألماً. كان يوسف أكثر من مجرَّد رفيق مناضل في سبيل الحريَّة. كان صديقاً شخصيَّاً؛ كان صديقي الحقيقي. لقد ساعدني وساعد الحركة في أشياء كثيرة. لقد فتح جبال النُّوبة للحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، وأخذ النُّوبة لمرتفعات جديدة في الوعي السياسي. لقد جعل النُّوبة يدركون أن حريَّتهم لا يمكن أن تُمنح لهم، ولا يمكن أن يحارب الأغيار في سبيلهم. الحرية المسلوبة ينبغي أن تُعاد وتُعاد بواسطة الشخص (المظلوم). كان هذا هو عقيدة يوسف.
أود أن انتهز فرصة هذا اليوم – يوم يوسف – لأعيد تأكيد التزامنا التام لأخذ نضال التحرير إلى نهايته المنطقيَّة: الطريقة التي كان يريدها يوسف. وهذا هو السبيل الوحيد الذي به يمكن أن نتذكَّر يوسف وكل أبطالنا وشهدائنا، لتحقيق الحريَّة النهائيَّة والكاملة، ولتحقيق السُّودان الجديد. وبهذه المناسبة، نحتاج – بناءاً على هذا – أن نذكِّر أنفسنا بما كان يوسف يؤمن به وكرَّس حياته كلها في سبيله. كان يوسف يؤمن بالحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان، وكان يؤمن بتحليل الحركة وتعريفها لمشكل السُّودان. فما هو مشكل السُّودان؟ إنَّ السُّودان لأنموذج مصغر لإفريقيا، يمتاز بالتعدديَّة الدينيَّة، الثقافيَّة والأثنيَّة. ومع ذلك، كل الحكومات "الخرطوميَّة" قد أصرَّت على اعتماد عنصرين فقط من واقعنا – العروبة والإسلام – كأساس للوحدة. هذا هو جوهر المشكل في السُّودان، الإخفاق في إدارة تعدديتنا الغنيَّة، وبدلاً من ذلك فرض ديانة واحدة، ثقافة واحدة، والآن حزب أقليَّة سياسيَّة (الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة) على قطر شاسع متعدد الأعراق. إزاء هذا، بات أغلب سكان السُّودان مضطهدين ومهمَّشين. وبصعود الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة إلى السلطة أمسى كل السُّودانيين مهمَّشين – عرباً كانوا أم أفارقة، أثرياء أم فقراء، مسلمين أم مسيحيين، ودُفعوا إلى التمرد. العرب الرشايدة – على سبيل المثال – مهمَّشون، وأخذوا السلاح ضد الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة كأعضاء في التجمع الوطني الديمقراطي.
وبالمثل، أهل دارفور أخذوا السلاح ضد النظام. وفي الأيام السبعة الماضية لقي أكثر من 300 شخص مصرعهم في النِّزاع بين قبيلتي الرزيقات والزغاوة في حرب أثارتها وغذَّتها الحكومة. هذا هو مشكل السُّودان الأساس: الفشل في إدارة التعدديَّة واستيعاب الجوانب الموجبة منها. إنَّ الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة الآن لتستخدم طائرات الهيلوكبتر المزودة بالمدافع الآلية ضد المدنيين في دارفور. يمكنكم أن تروا ما بات مشكل السُّودان من بعد. إنَّ الحرب لتشمل جنوب السُّودان، جنوب كردفان، جنوب النيل الأزرق، شرق السُّودان ودارفور.
كان يوسف كوَّة يؤمن برؤية الحركة الشعبيَّة. وتأسست الحركة الشعبيَّة العام 1983م لمجابهة جوهر المشكل السُّوداني، لتدمير السُّودان القديم؛ لخلق جسم اجتماعي-سياسي سوداني جديد؛ سودان مغاير فيه يكون كل السُّودانيين شركاء بغض الطرف عن العرق، القبيل، الدين، أو الجنس؛ سودان ديمقراطي بحيث يكون الدين منفصلاً دستوريَّاً عن الدولة؛ سودان يقوم فيه الحكم على الرغبة الشعبيَّة، الديمقراطيَّة، العدالة الاجتماعيَّة، حكم القانون، واحترام حقوق الإنسان العالميَّة.
هذا يعني أنَّه ينبغي أن يكون هناك تغيير فعلي لمواجهة الأسباب الجذريَّة للمشكل السُّوداني، وإلا سوف لا يكون هناك أبداً سلام واستقرار في قطرنا. ومن أجل تحقيق تغيير جذري، ينبغي إزالة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة باستخدام كل أشكال النضال مجتمعة، بما فيها الانتفاضة، النضال المسلح، التضامن العالمي، والمفاوضات التي تقود إلى التدمير السلمي لنظام الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة. إذ تدعو الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان إلى تبني النمطين الأساسيين للنضال: النضال المسلح والانتفاضة كسبيل فعال جداً لإزالة نظام الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة.
يجب ألا يُنظر إلينا على أننا نحبذ فقط الحل العسكري. الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان والتجمع الوطني الديمقراطي ملتزمتين بالتفاوض في سبيل الوصول إلى حل سياسي سلمي للنِّزاع. كان يوسف كوة يؤمن بالتفاوض من أجل الحل السياسي، وكان دوماً عضواً فاعلاً في كل محادثاتنا للسلام. مهما يكن من شأن، فينبغي أن تفضي هذه المفاوضات إلى تدمير نظام الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة. وينبغي أن لا تكون المفاوضات للمصالحة مع الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة كما يدعو إلى ذلك بعض الناس. في جمهوريَّة جنوب إفريقيا – على سبيل المثال – لم تكن المحادثات في سبيل المصالحة مع نظام "الأبارتهيد"، ولكن لمفاوضة "الأبارتهيد" ليخرج من السلطة. ومن ثمَّ، من وجهة نظر الحركة الشعبيّ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.