ومن خلال قراءتنا للأحداث بين البلدين، يمكننا قراءة العلاقات ملف التشادية السودانية على صعيد الجغرافيا السياسية للبلدين, فان تشاد تمثل عمقاً إستراتيجياً ذا أهمية قصوى لدول شمال وجنوب الصحراء الأفريقية والتي تندرج ضمن إطار الحدود الجنوبية لليبيا والحدود الغربية للسودان, والتي تمتد إلى قلب القارة الأفريقية, وبالتالي تمثل تشاد حالة خاصة لكل من السودان وليبيا وهذا بحكم عوامل تاريخية موقلة في القدم، ويمكن الإشارة الى هذه الأهمية من الناحية السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في التالي :- • لقد حدث تحول سياسي في تشاد منذ العام1990م, ساهمت فيه البلدين، إذ جاءت إلى السلطة حكومة بقيادة إدريس دبى بعد فرار حسين هبري إلي السنغال، والذي دأب على خلق حالات من العداء, وإعلان القطيعة مع السودان وليبيا. • الرئيس ديبي ولفترة وجيزة حاول أن يحفظ للبلدين يدهما عليه, وأدرك منذ مجيئه إلى السلطة, انه لا طائل يرجى من استمرار تلك الحالة, وتحول إلى نقيض لذلك تماماً، داعياً بلدان المنطقة إلى تنسيق تعاونها وفض النزاعات ودعم الاستقرار والأمن على الحدود السياسية فيها, وكان فض النزاع بين تشاد وليبيا عبر التحكيم الدولي في قضية قطاع أوزو بمحكمة لاهاي عام1993م كان بمثابة أولي الخطوات في سبيل التسوية بين البلدين وفض فتيل التوتر وحل النزاع, كما أتت مبادرة الوساطة التشادية في حل نزاع إقليم دارفور ضمن هذا الإطار, لولا تخيم سحابة الصيف على سماء أنجمينا والخرطوم(التوتر بين البلدين)، واد ت إلي فشل الوساطة التشادية في مسعى الحل السلمي وتحولت المسألة بين تشاد والسودان إلى نزاع يعقد الحل في قضية دارفور ويعصف بمسيرة العلاقات، وقد تم تفسير ما جري بين البدين علي أنها قضية تهم الرئيس ديبى دون غيره من الناحية الأمنية والاجتماعية, وإذا أخذنا في الاعتبار التداخل القبلي والذي شكلت فيه قبيلة الزغاوة التي ينتمي إليها الرئيس ديبي حجر الزاوية في صراع المنطقة, فإن القضية الشائكة في البلدين تهم تشاد السودان أيضاً، ومن جميع النواحي وأسباب أخري تأتي في السياق الآتي ومنها:- • أن الدعم السخي الذي قدمته ليبيا والسودان لإدريس وديبى إبان تمرده علي هبري وتسهيلات وخدمات حظيت بها الحركة الوطنية للإنقاذ بقيادة ديبي آنذاك, وبفضل مشاركة جميع قوى المعارضة التشادية السياسية والمسلحة, وبمبادرات الجالية التشادية بالسودان كلها كانت سببا وراء نجاح تلك الحركة في استلام السلطة, ولم تطلب السودان ولا ليبيا ثمناً مباشراً لهذا الدعم أو فاتورة مؤجلة الدفع بعد الانتصار, كما تعارفت عليه أطر العلاقات الدولية المعاصرة. • يرتبط الشعبان السوداني والتشادي بروابط العقيدة, والدم وأواصر القربى ذات الجذور القديمة, وازدادت قوة مع الأيام, وبفضل التطور الذي حدث في وسائط النقل والاتصال واتساع رقعة الآفاق والتطلعات بين الشعبين, وعلى ضوء ذلك, فقد نشأت معها اطر ثقافية، اجتماعية واقتصادية سبقت في وجودها قيام البلدين ككيانين سياسيين، ولا ننسى بطبيعة الحال تنامي الوعي القومي والإحساس بالانتماء إلى كيان اكبر إقليميا تجتمع فيه البلدان لتحديد الأولويات, وهو الأمر الذي كان له الأثر الأكبر في دفع الشعبين ليقتربا من بعضهما البعض. • بعد انهيار الاتحاد السوفيتي اتسم المناخ الدولي بالأحادية القطبية، وبروز مظاهر العولمة ذات النموذج الغربي( الامريكى- الاوربى)المسيطر وهو ما شكل تحدياً جديداً لدول القارة الأفريقية ووضعها في اختبار صعب, بل حتم عليها التكتل والعمل معاً لتحقيق مصالحها, لذلك لم يكن غريباً إذن, أن يجتمع البلدان لتحديد أولوياتهما المطلقة في المنطقة, وهما ذات وضع متميز يمتد من شواطئ البحر الأحمر إلى عمق القارة الأفريقية في أعلى صور التنسيق والتعاون لتحقيق التنمية والاستقرار إذا ما تم تطوير العلاقة بين البلدين بشكل طبيعي، لان التنمية بقدر ما هي شأن وطني فهي تعد أيضا قضية إقليمية وعالمية, وعلى ضوء كثير من التطورات وتحول العالم باضطراد إلى منظومة سياسية وتجارية واحدة، ومن منطلق الواجب الأخلاقي والتاريخي يحتم على تشاد والسودان قيام تعاون مبني على أسس متينة وقوية وتدعمها رابطة عوامل الجغرافيا والتاريخ المشترك بين البلدين. • إن المناخ الدولي الجديد في مطلع هذا القرن يملي ضرورة الالتقاء والتشاور لتحديد القواسم المشتركة ووضع الخطط اللازمة والكفيلة بتحقيق التنمية عبر المدخل الجماعي, ومكافحة الفقر والتخلف ومجابهة القضايا الملحة والحد من خطورة بعض مزالقها, ومن هذا المنطلق تشكل مشكلة دارفور هماً مشتركاً لكلا البلدين والتي تتطلب التعاون والبحث عن صيغة لمعالجة آثارها في إطارها الطبيعي، وكذا ضمن الهموم المشتركة ثنائياً وإقليمياً(دول الإقليم), بدلاً من إحداث التوتر والقطيعة والعداء والذي طفي بشكل لافت خلال عملية الشد والجذب بين البلدين فيما مضي. ويجب أيضاً على البلدين وهما يعالجان قضايا العلاقات الثنائية بينهما أن يعملا لتطوير علاقتهما بالكيانات الأكبر إقليمياً, لأن عالم اليوم لا يعرف كما سبق الإشارة إليه, الكيانات الصغيرة والمنفردة, بل يعترف بحق التحالفات والكيانات الإقليمية والعالمية في البقاء, وهي الإطار العام ولأشمل للتعاون الإقليمي والدولي, وبهذه الرؤى لا تنفصل قراءاتنا للخارطة الجيوسياسية للبلدين بمنعزل عن مجموعة المعطيات والأحداث المحيطة بهما ماضياً وحاضراً ومستقبلاً, لاسيما في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. • إن المصالح الإستراتجية للبلدين بمعناها الشامل لم تتناقض في يوم من الأيام وعلى المدى البعيد، وعلى هذا الصعيد, فان قضايا البلدين متشابهة, إذا ما أخذنا تلك التي تحتاج إلى التنسيق والوقف عندها سوياً لمعالجتها واحتوائها كقضية الأمن والاستقرار على الحدود المشتركة, ومحاربة الجريمة الحدودية العابرة والتي تحولت إلى شبح يهدد الاستقرار والطمأنينة لموطني البلدين. • أن تشاد دولة من دول منظومة العالم الثالث بكل تعقيداتها, فهي تحتاج إلى إحداث التنمية الشاملة من خلال شبكة من العلاقات الدولية, والتي تتبادل فيها الكفاءة والخبرة والتقنية والتمويل اللازم لذلك, كما تحتاج تشاد في نفس الوقت إلى دول الجوار لتبنى المدخل الإقليمي للتنمية الجماعية, نظراً للتداخل السكاني وتماثل الظرف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية مع جيرانها, توجب عليها الاشتراك معهم قي خلق مناخ من الانسجام والتنسيق الإقليمي تمهيداً لإحداث التنمية في المنطقة. • إن تشاد والسودان يشتركان في قواسم مشتركة وعديدة, كما سبق ذكرها في مواقع مختلفة من تحليلنا لها، ومنها المساحة الكبيرة وقلة السكان, إضافة إلى ما تحويانه في باطنهما من موارد زراعية ومعدنية ضخمة ومتنوعة, وهما بكل هذه المزايا والسمات الجيوسياسية يشكلان فرصة طيبة في القرن الحادي والعشرين إقامة كيان سياسي واقتصادي قوى تكون مقدمته على شواطئ البحر الأحمر, وتلامس مؤخرته عمق القارة الأفريقية السمراء, وهو وضع مميز لا يماثله آخر في المنطقة, ولاشك في أن نجاح البلدين في عمل كهذا, من شأنه أن يكون مثالاً حياً ونموذجاً رائعاً وفرصة طيبة وعنصر تحفيز وإغراء لكل دول القارة الأخرى ذات الظروف المشابهة في انتهاج ذلك المنحى, ويكون ذلك بدوره معيناً على تشكيل كيانات كبرى بالمنطقة, والتي لا تلبث أن تنتهي بعدئذ بكيان واحد يشمل القارة الأفريقية, وهو ما يكون عضداً للمؤسسات الإقليمية الأفريقية(كالاتحاد الإفريقي وتجمع دول الساحل والصحراء(س ص)الذي كان دور الدولتين فيها مشهوداً منذ تأسيسهما. • إن سياسة اندلاع المواجهات المسلحة بين المتمردين وحكومتي تشاد والسودان ليس جديدا على ساحة البلدين كي يصبح الأمر سياسة تهديد مباشرة تمس الأمن القومي لأي من البلدين، فالقارة الأفريقية التي أختط الاستعمار حدودها الإقليمية جعلت الكثير من بطون القبائل والمجموعات الإثنية تعيش في حالة من النزاع اليومي للوصول إلى مصادر المياه والثروات الطبيعية من داخل وعبر الحدود الإقليمية للبلدين(وضعية القبائل المشتركة)، وبالتالي ليس غريباً في غياب سياسة التخطيط الصحيحة أن يتم تحجيم الاحتكاكات الاجتماعية حول هذه الموارد، وهي صراعات ذات جذور تاريخية بعيدة(النزاع القبلي والثارات بين القبائل)، والتي كانت في اغلب الأحوال تحل عبر وساطة الوجهاء وفقاً للأعراف والأطر المتبعة في التقاليد المحلية غير المعترف بها حالياً من قبل القيادات السياسية المتوالية على حكم البلدين من وجهة، ونظرتها المتعالية فوق الكيانات الاجتماعية، من جهة أخرى، وهي بحكم السلطة كانت لا تراعي الخصوصية الجغرافية والعرقية ومكوناتها الثقافية والاجتماعية لهذه الرقعة المكانية، وحينما تشتد بطش السلطات على بعض الكيانات الاجتماعية والتي ينتابها الإحساس العميق بالظلم والتهميش الذي تراه متعمداً أحياناً، ولذا يتولد لديها روح الانتقام والمقاومة كحد ادني للتعبير عن مطالبها وسخطها من توجهات تلك السياسات القائمة، وترى تلك الكيانات كذلك أن معظم حقوقها الشرعية في دولة المواطنة هضمت بفعل سياسة اللامبالاة المتبعة من قبل السلطة، ومن المألوف والطبيعي أيضاً، وفي ظروف كتلك أن تنهض حركات التمرد المسلحة المقاومة لكبح جماح الطموحات السياسية المتعالية عليها في المنطلقة، وفي اغلب حركات التمرد كانت تنطلق من خلفيات عرقية واثنية في بلدانها الطبيعية و بناء على توجهات وظروف تعتبرها هي أكثر منطقية لتبرير أهدافها في قتال الحكومة القائمة، وان الكثير من الحكام كانوا ينظرون إلى ذلك بأنه يشكل عاملاً امنياً خطيرا طرأ على خارطة الأمن الوطني ويجب التعامل معه بوصفة أمنية متشددة وحاسمة وتأطير حجم تهديده داخلياً، وفي بعض الأحيان يتم السيطرة عليه بمنطق آلة القوة العسكرية، وهنا تكمن مفارقات غريبة، من أن الدولة القومية تدخل في قتال مع جزء من مواطنيها المتمردين عليها من أجل أسباب يمكن حلها عبر الركون إلى الحوار والتفاوض والوصول إلى سلام دائم، وتبدو هنا أن هيبة الدولة تفرض عنوة على المواطنين، وهذا ما يزيد الطين بلة حين تحدث المواجهة بين الدولة وعدد من مواطنيها، وعلى إثرها يكون حجم الكارثة مرتين، حينما يتغبر الكل له نفس الحقوق الوطنية المتساوية ويجب الاعتراف بها من قبل الحكومة تجاه مواطنيها المطالبين بالعدالة الاجتماعية، وفي وقائع الحال هذا، تكون شكل النزاعات الأفريقية تدور في حلقة مغلقة يصعب كسر أطرها المغلقة، وفي بعض أوجه النزاع المسلح في القارة تكون فاتورة الحروب وتداعياتها ذات تكاليف باهظة، وهي رغم كلفتها تخصم من كلا الطرفين ثمناً، ويدفع المواطن العادي القسط الأكبر وخصماً من معيشة حياته اليومية، وأن الدولة مع عنادها السياسي تزداد فيها التزامات الحرب ونفقاتها، بينما يضيق الخناق على المواطنين الذين ليست لهم علاقة بما يجري لإخوانهم من الطرفين(الحكومة والمتمردين)، وعندما يتأزم موفق الحل بين الطرفين وعلى الصعيد القومي، فتعود الحكومة تدق طبول الحرب وتفتح المنظمات الإنسانية أبواب مانحي المساعدات الإنسانية في العالم بغية إنقاذ حياة النازحين واللاجئين الفارين من جحيم الاقتتال بين الحكومة والمتمردين، فتحدث الكارثة وتعلن السلطات عملية الطوارئ وتستشري الوبائيات والأمراض والمجاعة وتتعطل الدوائر الحكومة الشحيحة أصلا، فتزداد الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الخانقة، وتتحول أجهزة الدولة الأمنية إلى أداة للقمع والإرهاب والتخويف، فتتوزع ألأقاويل والشائعات من قبل المعارضة والمغرضين والتي تحرك قطاع عريض من المواطنين المحايدين إلى جانب أحدي الفريقين، ثم تحدث الانشقاقات السياسية حول الكيفية التي تتعامل معها الدولة مع القضايا الوطنية، وفي هذه الأوضاع تكثر عمليات الشد والجذب ويطهر تجار السمسرة والسياسية، وتصبح البلاد وشعبها في وضع سياسي غريب، بأن هناك أعداء للوطن من أبنائه يتوجب على الجميع قتالهم وإخضاعهم لسيطرة الدولة وهبتها السياسية، ويكون الساسة الدهماء جنوداً لهذا الوهم، وتغلب عليهم صفة دق طبول الحرب واستمرارها خدمة لمصالحهم الخاصة والعامة، ويمجدون انتصارات الحرب على إخوانهم في الوطن، وينعتونهم بأقبح العبارات(عملاء ومرتزقة..الخ)، وهكذا يمكن وصف أشكال نشوء الحروب الأهلية الطاحنة في القارة الأفريقية وبجميع خلفياتها وتجلياتها المعقدة، وهذا على الأقل كان شائعاً منذ تفجر اي أوضاع من قضية(بيافرا)بدولة نيجيريا الاتحادية، وقضايا النزاع في تشاد بُعيد استقلالها، وتعكس هذه الصورة مشهدا للصراع في منطقة البحيرات الكبرى مروراً بإراقة حمامات الدماء في مجزرة رواندا وسيراليون وليبيريا وانهيار دولة الصومال في القرن الأفريقي، والصراعات في جزر القمر، بالإضافة إلى حروب المجاعة في دولتي إثيوبيا واريتريا، ولازالت التقارير تسهب وتتعاظم عن فرط عمليات قتل جماعية تتم في ضد سكان إقليم دارفور السوداني، وأن تلك القضايا الشائكة في أفريقيا وتطوراتها في حقيقتها هي نوع من بؤر النزاع الخطرة في القارة والتي تخمد برهة من أجل معاودة الاشتعال النيران لتلتهب مجدداً أكثر عنفا من ذي قبل، ولذا فإن قضية التوترات السياسية القائمة بين تشاد وجاراته السودان رغم تعدد .جهاتها، ما هي إلا تعبيراً مصغراً لحجم تأثيرات اكبر معممة في تداعيات ومضاعفات إقليمية ودولية ضمن قضايا بلدان القارة، وأن المضاعفات الخارجية تبدو في هذه الحالة أكبر، وذلك نظراً للتدخل القوى الدولية السافر في شأن قضايا تشاد والسودان من أجل تقييد الإرادة السياسية فيهما، لأن حجم هذا التدخل أضحى اليوم واقعاً مراً للقادة السياسيين في البلدين، وقد تمثل هذا التأثير في كثافة الوجود العسكري الدولي على الأرض التشادية والسودانية بغرض فض النزاع بين هذين البلدان، كما يفرض هذا التدخل الدولي من قبل هذه القوى فرض نمط جديد من المعطيات كلياً على صعيد السياسة الداخلية والخارجية للدولتين، ومنها فرض الوصاية بتحقيق مطالب المجتمع الدولي وتطبيق سياسته في المنطقة، وإملاء شروط تطبيع العلاقات التشادية السودانية وفقاً لمبدأ الإطار الاممي. لا يُدرى ماذا ستتخذه تلك القوى من قرارات وتوجهات جيوسياسية بشان قضية البلدين المستعصية رغم التطبيع؟.