كلمة (أمّة) كما تقول موسوعة (وكيبيديا) أنها مستقاة من المصطلح اللاتيني (nātĭō) ومنها استلهمت الشعوب مفردات تتسق مع لغاتها، والكلمة تعني (ذلك الذي وُلِد). إذا أخذنا المعنى مجرّداً جاز لنا أن نقول بأن السودان قد وُلِد بالمعنى المطلق وأصبح وطناً يضم شعب، ويعود ذلك الميلاد إلى ما يزيد على قرن من الزمان، شأنه في ذلك شأن باقي الأمم التي جمعتها الأمم المتّحدة أو تلك التي لم تنضم بعد، لكن ماذا بعد. تاريخ طويل من الأحداث تكتنز بها ذاكرة كل أمّة، بيد أن القليل منه يمكن أن يقال عنه أنه تاريخ متأصّل وفاعل وباعث لهمم الشعوب ومحرّك دائم لعجلتها نحو الرقي والتطور المدني، أما ما تبقّى فمكانه أضابير الأرشفة وساحات وصالات وأرفف المتاحف. بمواصلة الحوارات الهادئة وبعيداً عن المهيجات السياسية التي تعصف بصفة الهدوء وتلهب الإستمالات في الجهات الأربعة وسبر غور مأساتنا كأمة أو شعب أو وطن أو دولة، وبالسعي إلى تشخيص زلّاتنا، لا بد حينئذ أن ندرك ولو بعض الحقيقة في القوة المعاكسة التي تجذبنا دائماً إلى الوراء، وتقيّد قدراتنا وتعيق انطلاقتنا. لن نذهب بعيداً في نظرية المؤامرة، فهي دائماً رديفاً لمن يتثاقل عن البحث في ذاته وينقّب في دواخله والإعتراف بضخامة دوره في عجزه ومآل حاله، هي في الواقع مبرر مَنْ لا مبرر له. إنه من البدهي القول بأن حزمة العوامل التي تتراصى وتُشكّل مصفوفة النماء لأي أمّة وُلِدت، هي جملة القيم المادية والأخلاقية التي تتصاهر وتتمازج لينتج عنها منشود يردده الشعب ليس على نغم اوركسترا وكورال ولكن بإرساء دولة مؤسسات قائمة على أصالة تلك القيم المتصفّحة بالتجربة الإنسانية العريضة في كل نسخها. ولما كان من الطبيعي أن تقود الإدارة الراشدة لمثل هذه المنظومة إلى ثبات وتوازن وسلاسة تناقل مفاهيمها إلى الأجيال عبر تداخلها، فإن إنعكاس كل ذلك لا بد أن يكون مؤثّراً بشكل موجب في حجم الإستغلال المتوازن والأمثل للموارد التي يزخر بها الوطن. هنالك حقائق ندركها جميعاً ونحفظها عن ظهر قلب، وعندما نعيد ذكرها هنا فإنما نعمل بحقيقة منفعية الذكرى لبعضنا. جميعنا نعلم بأن مساحة السودان تبلغ مليون ميل مربّع (2.5 مليون كلم2) مع إدراك أن هذه الحقيقة ستتغير إعتباراً من التاسع من يوليو القادم، كما ندرك بأن السودان يتخذ موقعاً جغرافياً يجعل منه بمثابة بوتقة تصاهر للقيم الإقليمية، ومنطلق تبادل تجاري وإقتصادي كبير لمحيطه بحسبان أنه يجاور تسعة دول والعاشر يفصلنا معه البحر الأحمر، ومرة أخرى هذه الحقيقة ستتغير قريباً. وجميعنا نعلم أيضاً بأن السودان وطن تتوفر فيه المياه العذبة الوفيرة على سطح الأرض وفي باطن الأرض ومن السماء، ومع كل ذلك ولأننا عجزنا عن استغلال كل ذلك، فبدلاً من أن نداوم على صلاة الشكر على وفرة تلك النعمة، تجدنا نصلي صلاة الإستسقاء على مقربة من النيل، وإنها لمفارقة. في السودان تبلغ مساحات الأرض الزراعية الصالحة للزراعة وفق إحصاءآت أجهزتنا المختصّة أكثر من 250 مليون فدان، أي (مليون كلم2)، وهي تعادل مساحات كل من الدنمارك وهولندا وبلجيكا وسويسرا وفرنسا والنمسا والبرتقال والمجر مجتمعة. في السودان صحراء مشمسة على مدار العام فيها من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح ما يكفيان لحاجة أفريقيا كلها، ومن الرمال مادة أساسية في كثير من الصناعات البنائية، ونمتلك من الغابات الإستوائية ما يمكن لأخشابها أن تصنع بيوتاً لربع سكان أفريقيا. أما الحديث عن الثروة الحيوانية والبرّية فهو حديث آخر، بينما يختزن بحرنا الأحمر من النفائيس النادرة ما لم تشبع منه الأعين بعد. وإذا كان السودان غنيي بكل ذلك فهو أيضاً غني بمعادنه من الذهب والماس والنحاس والزنك واليورانيوم والحديد وخام الألمنيوم والبوكسايت والمايكا والفضة والتنجستن والحجر الجيري وفوق كل ذلك البترول. كل ذلك جعل منه واحداً من أربعة دول على المستوى العالمي مِمن تتوفر لديهم كل الموارد الطبيعية اللازمة، الدول الأخرى هي الولاياتالمتحدةالأمريكية وكندا وأستراليا، وقيل الصين في بعض الأحيان، وليس خافياً علينا أن ندرك أين نحن الآن في ميزان الرقي المدني من تلك الدول. إذا كانت تلك هي حقائق الجغرافيا والطبيعة، إذاً أين يكمن الخلل؟ من البدهي أن تكون الإجابة المجرّدة بأن الخلل يكمن في الإنسان، ولكن في كثير من حواراتنا المتواصلة، نبتعد بعيداً عنه ونتوقف عند الإفرازات كأن نقول أن أسباب التخلّف هي الأنظمة والحكومات المتعاقبة وما إلى ذلك من المتماثلات والمتشابهات الضمنية دون التوغّل في حقيقة مصدر الإفراز وأعني هنا الإنسان السوداني، في هذا نكون كالطبيب الذي يعالج الجرح دون أن يسأل عن مسبباته، وهو مثال غير موجود في حقيقة ممارسات الأطباء لأن أول ما يسألون المريض عنه هو المسبب. نحن بدلاً من أن نبدأ بالمبتدأ، تجدنا نبدأ بالخبر ونتوقف عنده، نحن بهذا المنهج من الحوار ننطلق من حيث لا ينبغي، والحال كذلك فإن النهاية لا بد أن تكون ما لا نشتهي. نحن في حقيقة الأمر نهرب من مواجهة دواخلنا، بل نتخفّى خلف عجزنا لنُلقي بالائمة على غيرنا. هذا نهج أصبح جزءاً من حياتنا وممارساتنا، ليس فقط في السياسة ولكن في كل شيء، ألم أضرب مثالاً بالمياه الجارية ونحن نصلّي صلاة الإستسقاء وكأننا نسعى إلى تبرير عطشنا بأن الماء لم تجر مباشرة إلى جوفنا، أليس لنا من البحيرات الجوفية ما يمكن أن تتشبّع بمياهها كل الصحراء الكبرى ناهيك عن أن نقيم مراعي مروية، ومن ثم نأتي لنقول أن الناس يتقاتلون على قلة الموارد وهي ليست سوى إفرازات لأزمة من الأزمات لنغطّي بها على تعطيلنا لعقولنا بأنفسنا. إذا لم نستغل المساحات العذراء من عقولنا قبل أن يصيبها البوار والتلف ستصبح جرداء وغبراء بلا شك وحينها نُملّك الباحثين على ربط القصور بفسيلوجيا الإثن مبرراً على طبق من ذهب. إذاً من أين يكون المبتدأ، هل هو البحث في حقيقة فسيولجيتنا العضوية ومدى قصورها أو غير ذلك، تلك ليست بداية سوية، فقد قتل الباحثون ذلك وفلفلوه ولم يبلغوا فيه شأواً معمولاً أو مأمولاً واستكانوا إلى البحث عن حقائق أخرى، والحقيقة التي نحن على قناعة بها هي أن الإنسان وبكل ما يملك من عقل قادر على إبداع نوعي ليس له حدود، إلا أنه يمكنه ببساطة أن يصمم لذلك العقل حابساً طوعياً ويغلقه بداخله بينما يتمدد بشكواه صراخاً وعويلاً، وليس للعوامل الخارجية دور إلا كما تفعل المنحدرات مثلاً في نقل لافا البركان، أو كما تنقل الرياح أبخرته، بينما يظل المسبب الأصل هو البركان. ماذا عن القيم الإجتماعية التي تحكم تصرفاتنا كأفراد ومجموعات ومجتمعات، هل هذه القيم هي نتاج ذاتي محض أوجدناه نحن أم نتاج تلاقح لقيم مستجلبة وذاتية أم استنساخ مجرّد لقيم آخرين وفي كل الأحوال تتنافر مع مقتضيات التطور المدني أو عجزت طاقاتنا وقدراتنا عن تطويعها. من المعلوم أن القيم الإجتماعية هي صياغه لأقوال وأفعال وأخلاق وفضائل، وهي إذا ما تُرِكت لحالها فهي ليست ثابتة بل متغيّرة وتؤثّر فيها عملية الهجرات المجتمعية والشعوبية والتواصل، لكن كثيرأً من الأمم استطاعات أن تتوصل إلى صياغة تُثبّت فيها الجذور وتُرسّخها بينما تترك مساحة تستوعب فيها مقتضيات ومتطلبات التغيير الدائمة تعزيزاً بما يؤصّل الجذور والجذع ويُحسّن الفروع والثمار، تماماً كما يفعل علم التلقيح الذي لا يغير في الأصل وإنما يُحسّن فيه. ولعل ترجمة تلك القيم الجذرية في صياغات دستورية وقانونية تحكم الممارسة مراقبة وتحفيزاً ومحاسبة هي التي تؤسس ما درج عليه الناس وبات يُعرف بالدولة التي يرتضيها الشعب ومِن ثم يعمل على تعزيز تطورها وازدهار موطنها في كافة المجالات، أين نقف نحن من كل ذلك. دعونا نتأمل في ماهية القيم التي نأمل أن تكون هي الأساس لنتمكن من خلال صياغتها وقولبتها إستيعاب طموحاتنا للدولة التي نتمناها ونرتضيها جميعاً وللوطن الذي سيفرض علينا أن نصونه ونعمل على ازدهاره، والمجتمع الذي نوفر له معايير المباهاة بين الأمم. مثل هذا التفكير يقتضي بنا أن نبحث أولاً عن الأرضية المشتركة التي ننطلق منها في تلك الصياغة، ليس معيباً أن نُغربل قيم الآخرين بغرض إنتقاء ما هو أكثر ملائمة لحالنا، وبالتالي فإن البحث في تلك التجارب لا ينبغي أن نتعامل معه من منطلق النقل والنسخ، بقدر تعاملنا معه من منطلق أكثر عمقاً، أي كأن نقول بأننا ننّقب أو نتصيّد في بحر قيمي بالإدراك المتخاطر للآخر. إذاً في لج هذا البحث نستكشف قدراتنا في الإنتقاء والموائمة، ونصقل رؤيتنا لما هو أكثر ملائمة لحاضرنا ومستقبلنا، نتفكك من القيود السلبية لماضينا ونستشرف غدنا وغد أجيالنا، لا بد أن يستوعب مشروع القيم التي نبحث عن إرسائها للدولة التي تُمكننا من استغلال طاقاتنا نحو الإستقرار والإزدهار، لا بد أن يستوعب طموحات الأجيال الغائبة القادمة من خلال قراءة سابقة قبل أجيالنا الحاضرة، إذا فشلنا في ذلك، فهو يعني أننا ما زلنا أسرى لذواتنا، وهي الذاتية التي تُنتج مشاريع قيم تؤسس لدول مؤقّتة تتواصل بينها الآجال الزمانية وتقضي أوطاراً آنية وتُضاعف عجزنا وبالتالي تَبقى الأمّة في حالة إرتجاج دائم وهادم كما هو حالها الآن. نحن نعيش في عالم نتحسس في كل يوم موضع أقدامنا فيه، ونبحث عن بصمتنا في تطوره المادي الذي يتغير بالتواصل والتفاعل فلا نجد أثراً لتلك البصمة، لسنا بلا بنان ولكننا لم نُجِد كيف نستخدم بناننا لنضع بصمتنا، وحتى ندرك ذلك فإن الأمر يقتضي منا أن نعي حقيقة أنه لم تعد هنالك ثوابت قطبية للإستقطاب والتمحور الأيدلوجي بقدرما أصبحت القيمة الحقيقية للأدوار تحكمها القدرة على توظيف ما تكتنزه كأمّة من عوامل مؤثّرة وفاعلة في معترك التطور المدني. لا ينبغي أن تكبّلنا دائماً إفرازات المشاكل عن جوهر مسبباتها وفي بحثنا عن مسببات تأخرنا، نحن مطالبون دائماً أن نُركّز على مكامن الضف فينا لتقويتها لنعزز قدرتنا على صياغة نُظم جديدة أكثر تفاعلاً مع مقتضيات العصر. لكي نفعل ذلك لا بد أن نستصحب تجارب الآخرين وأن نستفيد من أخطائنا، على سبيل المثال وليس الحصر، فقد أنتجنا وعلى مر الحكومات المتعاقبة نظاماً رسّخنا وجعلنا فية ثقافة لا تتوافق مع أبسط قواعد المعاني الإنسانية وهي أن المواطن هو الذي يخدم الرئيس أو الوزير وليس العكس، وتَمدد هذا النظام بحكم تغذيتنا له جيلاً بعد جيل حتى أصبح اخطبوطاً تجاوز الإطار الدستوري وتغلغل في كل مفاصل الخدمة المدنية حيث تجد كل فرد يتعامل في موقعه مع المنصب والوظيفة وكأنهما ملك حر ومطلق وليس تكليف لخدمة المواطن والوطن. هذا مثال بسيط لما أوجدناه، وهو إفراز أسبابه كامنة في دواخلنا ولا ينبغي أن نبحث عن شمّاعة نعلّق عليها أخطائنا. إذاً نحن في حاجة ماسة إلى مراجعات دقيقة للكيفية التي نفكّر بها وللمنهجية التي نعتمدها في تفكيرنا ونتناول من خلالها طرح الإشكاليات والبحث عن معالجات لها، والمواعين التي نصممها لإستيعابها، والآليات والوسائل التي نعتمدها، لا بد أن نعمل على تنقية أوعية التفاكر والتواصل بيننا كشعب فنجعلها أكثر قدرة على امتصاص اهتزازات التنافر وتجاوزها. قد تذهب بصائرنا إلى آفاق تسدّها المعوقات المتراكمة من أخطائنا عبر الحقب وكثيراً ما ترتد ويصيب صداها جدار الوطن بتشققات، وقد تشدّنا باستمرار إفرازات إشكاليات الحاضر التي تشغل مساحة مقدّرة من تفكيرنا فتجعلنا نغوص جميعنا في وحل التجاذب ونسجّل باستمرار أرقاماً قياسية من العجز في نظر الأمم الأخرى دون أن يرمش لنا جفن وهو أمر ينبغي أن يجعلنا نُراجع الكثير من منهاجنا في إدارة الأزمات وفي متوننا التي نعمل من خلال ما كتبناه على صفحاتها في إرساء الدولة المثالية التي ينبغي أن تكون ولكن على الأقل تلك التي نرتضي. تُرى إلى ماذا يعود كل ذلك؟...نواصل.... 19/6/2011