يعد الدكتور غازي صلاح الدين من قيادات الجبهة القومية الإسلامية والإنقاذ المخضرمة . فهو من القلائل الذين لا زالوا على رأس القيادات التنظيمية والتنفيذية منذ عام 1989. إذ أن التصفيات التي طالت الرؤوس التاريخية للتنظيم لم تمسسه بسوء مما يرجح فرضيات البعض بأنه كان من المصممين الأساسيين لآلياتها. في بداية المرحلة الإنقاذية لم يتقلد الدكتورغازي المناصب التنفيذية الهامة ربما لأنها لم تكن تمثل آنذاك مركزا للقوة داخل التنظيم إذ كانت تلك المناصب تدار فعليا ،من وراء حجاب، بواسطة مراكز القوة الفعلية التي كانت تتجمع في يد قائد الجماعة التاريخي الدكتور الترابي. كانت العادة (الموضة) أن يُظهِِِِر العضو في الجماعة مدى انصياعه واحترامه لتلك القيادة حتى تكون له الحظوة لديها. لذا لم يكن مستغربا أن يقوم الدكتور غازي بهذا الدور على أكمل وجه. فالذين يذكرون كيف كان الرجل يجتهد في أن يجعل من نفسه نسخة مصغرة من الزعيم الكبيرأو "حُوارا" مطيعا ينشد التقرب من شيخه . كان التشبه بالزعيم يشمل كل شيئ ،الهندام (الجلابية والشال) وطريقة الحديث ( مخارج الكلمات والإيماء بالأيدي والرأس)....الخ مما يجعل الأمر يختلط على الكثيرين مثلي. لكن بالرغم من ذلك فقد ظل الدكتور غازي يمثل لي شيئا غامضا ، ذلك الغموض الذي لم استطع إدراك كنهه استنادا لاستنتاجاتي المبكرة عن توجهات الإنقاذ ورجالاتها. فالدكتور رجل "خرطومي" بامتياز، و من أسرة "خرطوميه" معروفة. وهذا بالضبط ما كنت أعتبره من المزايا السالبة للأشخاص التي كانت الإنقاذ في أيامها الأولى تحاول إخفاؤها- عن قصد- في قياداتها. فالأرجح أنها أرادت في بداياتها "الثورية" أن تظهر بأنها النقيض "الثوري" للقيادات السياسية والتنفيذية الحزبية التي كانت تسودها وبشكل واضح الوجوه "المدينية". لذلك كان إبراز الصفات الريفية للقيادات التنفيذية والوجوه الإعلامية ،ومحاولة تكريس ذلك عبر الشاشة البلورية ، هو الإتجاه السائد. لعلنا نذكر تلك الفترة التي يبدو أنه قد فرض فيها على مذيعي التلفزيون الظهور بالشال والعمامة والجلابية كزي رسمي بديلا عن اللبس الأفرنجي الذي كان من السمات المميزة لهندام أهل الإعلام قبل يونيو 1989 .ما زلت اذكر تعليق بعض الظرفاء على ما يحصل في المدينة في مطلع تسعينات القرن الماضي، على أنه "ترييف" لها. لكن ما فات على هؤلاء الظرفاء أن هذا "الترييف" لم يأت خبط عشواء بل كان مقصودا في ذاته. بالطبع هذا لا يمنع من بعض الاستثناءات التي يقتضيها "فقه الضرورة" والتي لا مفر من القبول بها ، مرحليا ، كإختيار بعض الوجوه المدينية لشغل المناصب التنفيذية الهامة ومن ذلك على سبيل المثال تعيين الدكتور أبو صالح وزيرا للخارجية والذي كان الدافع الأكبر له التقرب أكثر من القيادات المصرية. وفعلا بعد أن أدى أبو صالح دوره وأستتب الأمر مع النظام المصري صار التخلص منه واجبا. لم يكن من العسير رصد توجهات الإنقاذ المبكرة ضد "أولاد المدن" فقد ظهرت بشكل واضح في قوائم الصالح العام الأولى التي طالت موظفي الخدمة المدنية مستهدفة أبناء المدينة بصورة عامة واليساريين بصفة خاصة. إذ قل أن تجد في تلك الفترة في المدينة إما أخيك أو قريبك أو جارك أو أحد أبناء حيك إلا وقد امتدت إليه عصا الصالح العام والتشريد.وكذلك الامر مع "بيوت الأشباح" سيئة السمعة التي امتلأت بهم حتى ضاقت بما رحبت. غير أن هذه الإجراءات الاحترازية لم يكن القصد منها فقط الإحتياط من تجمعات اليساريين النقابية التي عملت بفعالية كبيرة في انتفاضة أبريل وأطاحت بالمجموعة المايوية،بل كان لها شق آخر إستهدف كسب تعاطف أبناء الأقاليم الذين طالما عانوا كثيرا من استئثار أبناء المدن بوظائف الخدمة المدنية وامتيازات السكن و خلافه. عليه فضرب تلك المراكز "على المكشوف" أكسب الإنقاذ تعاطفا وقبولا جماهيريا كانت هي في أمس الحاجة إليه. ظل الدكتور غازي "الخرطومي" يرتع في ظل الزعيم الكبير متعففا عن الوظائف التنفيذية كما ذكرت سابقا لأنها كانت تمثل الحلقة الاضعف في ترتيب مراكز القوى داخل النظام. غير ان هذه العلاقة الحميمة مع الشيخ بلغت ذروتها في انتخابات أمانة المجلس الوطني المشهورة عام 1997 التي تم فيها "تزوير" نتيجة الانتخابات لصالح غازي خصما على المرشح الآخر الشفيع أحمد رغم التفوق الواضح للأخير. لم يعد سرا لكثير من المحللين أن تلك الإنتخابات كانت انعكاسا للإستقطابات القبلية والمناطقية داخل المؤسسة الحاكمة.فالشيخ يتحمل جزءا كبيرا من مسؤلية تكون تلك الإستقطابات.فقد لا يستقيم منطقا أن يتمكن فرد واحد من إدارة دولة بكاملها إضافة الى تنظيم سياسي فتي يموج بالحركة دون إرتكاب أخطاء كبيرة .ومهما كان الشيخ على درجة عالية من النزاهة والعدالة لا يمكن أن تصيب عدالته الجميع دون تمييز.وبالنتيجة لابد أن ينتهي الأمر بفريقين محظوظ ومظلوم.هنا كانت اللبنة التي أفرخت التكتلات لاحقا.ومما زاد لهيب التكتلات سعيرا هيمنة التنظيم على مفاصل الدولة الإقتصادية حيث أصبحت الأموال والشؤون الاقتصادية تجري بين أيدي أفراده من المحظوظين.إلا أننا إذا استدبرنا البدايات الأولى لتنظيم الأخوان المسلمين لعثرنا على بذرة التكتلات مغروسة داخل تربتة منذ بواكير إنشاءه .فقد تميز بأنه كان تنظيما طلابيا يعتمد بصورة أساسية على نشاط أعضائه من الطلبة المنحدر أغلبهم من الأقاليم (وقلة من أبناء المدن). إذ قل أن تجد بين منسوبيه تمثيلاً لفئات المزارعين أوالعمال أو حتي الصناعيين. هذا الوجود الكثيف للطلاب (والموظفين) من أبناء الأقاليم سهل نقل الاستقطاب في التنظيم إلى شكل التكتلات القبلية والمناطقية . وبصورة أخرى إذا أفترضنا مثلا أن خلافا ما نشب داخل أروقة الحزب الشيوعي لن نتوقع بأن يكون الصراع في شكل تكتلات إقليمية أو مناطقية ويرجع ذلك لتعدد الفئات الإجتماعية المكونة لعضوية الحزب. عليه فقد أفرز الاستقطاب داخل التنظيم الإسلامي "كومان" : "كوم" تكتل فيه أبناء غرب وجنوب السودان و"كوم" آخر تمترس فيه أبناء وسط وشمال السودان. غير أن هوى الزعيم، وللمفارقة،كان مع أبناء الوسط والشمال حيث تم تعميد غازي بالفوز المبين على غريمه الشفيع. ربما كان السبب من وراء تحيز الزعيم الى تكتل الوسط والشمال شعوره بأن هنالك "فتنة ما" لا بد من التعامل معها بقوة وحزم حتى تخمد في حينها قبل استشرائها. كما أن الإنصياع وراء تكتل الجنوبيين وأهل الغرب ربما يشكل سابقة تشجع على بروز المزيد من التكتلات التي يصعب السيطرة عليها لاحقا وهو ما لا يمكن السماح به مهما كانت المبررات. لكن وبالمقابل فقد خلف هذا "الحسم" مرارات وضغائن واضحة في نفوس أعضاء التنظيم من أبناء الغرب والجنوب. وتأتي هذه المرارات محبطة بصورة أكبر لابناء الغرب الذين محضوا الإنقاذ كل ما ملكوا من تأييد ودعم معنوي وعسكري. لم يمض وقت طويل على انتخابات أمانة المؤتمر الوطني المذكورة سابقا حتى ظهر الخلاف من جديد ولكن هذه المرة داخل كتلة أبناء الوسط والشمال في شكل مذكرة العشرة التي قلبت الموازين رأسا على عقب وراح ضحيتها الزعيم التاريخي للتنظيم نفسه. لكن من المفارقات الغريبة أيضا أن يكون الدكتور غازي من العشرة الذين تآمروا على زعيمهم. لا نملك بالضبط تفصيلا للمياه التي جرت تحت الجسر في تلك الفترة القصيرة والتي استتبعها تغير في الموازنات داخل التنظيم . فالدكتور الترابي انتهى به المطاف الى صف يضم في معظمه أبناء الغرب والجنوب (مما زكى لدى البعض الإستنتاج بأن الأزمة في دارفور كانت من إفرازات هذا الصراع ). أما الدكتور غازي صلاح الدين فقد أدار ظهره لشيخه ، ليس هذا فحسب بل كان من قيادات "التآمر" الذي أطاح بالشيخ. هذا الإنقلاب الكبير في موقف الدكتور غازي يضعنا أمام تساؤل كبير .... هل هذا الرجل بهذه الدرجة من "الإنتهازية" و"الدهاء" بحيث إستعمل الزعيم نفسه سلما يرتقي به الدرجات الى مراكز القوة الفعلية ؟؟....هل كان التشبه بالزعيم "تمثيل في تمثيل" الى أن يتم التمكين ؟؟ أم أن الأمر يتعلق بحياة وديمومة التنظيم التي يجب أن تسمو فوق الأفراد ..؟؟ المفارقة التي لا تخلو من طرافة أن الدكتور غازي وبعد أن إستتب الأمر لمجموعة مذكرة العشرة خلع عنه "الجلابية" و"الشال" اللتان لم يعد في حاجة اليهما وأرتدى بدلا عنهما الزي الإفرنجي كأي "خرطومي" إبن مدينة... سمعت العقيد يوسف عبد الفتاح في الأيام الأولى للإنقاذ وهو يخطب بكل عفوية في جمع من الدبابين المتحمسين،الذين كانوا يقاطعون حديثة في كل مرة بالتهليل والتكبير، "أنا ما عارف ليه الثورات يقوموا بيها الفقراء وفي الأخير يبقوا فيها الأغنياء".لا شك أن هذا الوعي "الباطني" المبكر بمآلات "الثورة" و"الثوريين" جعل العقيد يتحسس المواضع التي تقيه شر "البشتنة" عندما تصير "الثورة" في " أيدي الأغنياء"...!!.وربما كان هذا هو نفس الوعي المبكر الذي جعل الدكتور غازي يتكهن الى أين يمكن أن تميل موازين القوى مستقبلا في المؤسسة الحاكمة. الشيخ الترابي وبحسه الصوفي/ الليبرالي كان يريدها مشيخة بسيطة وتقليدية تتكون من شيخ ومجموعة من الحيران لكن يبدو أن "العيال كبرت" وكذلك الدولة/السلطة فأصبح لهؤلاء الحيران (غبش الأمس) تطلعات جديدة لا يسبر غورها هذا الماعون التقليدي الضيق خصوصا بعد أن جرى مال الدولة "الساهل" بين أيديهم ينفقونه يمنة ويسرة على من يشاؤن دون حسيب أو رقيب. وزاد الأمر "سعة" تدفق أموال البترول الضخمة. إذن فليغادر الشيخ الى مرفأه الأخير لأن فوجا جديدا من رجالات الأعمال والإدارة والإقتصاد لم يعد يقنعهم البقاء مكتوفي الأيدي رهن إشارات الشيخ "الرجعية". خلاصة الامر، يبدو ان قوانين "اللعبة" لم تعد كما كانت عليه في الماضي كما ان الملعب نفسه قد تغير بحيث لم تعد أساليب "المشايخ" التقليدية تجدي نفعا، خاصة في معية الملاعب الحديثة و"المدربين الأجانب". musadaq [[email protected]]