قرأت مقالا في " سودانايل "بقلم .. د. طبيب عبدالمنعم عبدالمحمود العربي أحد أطباء الدياسبورا السودانيين في المملكة المتحدة .. وتناول الدكتور عبد المنعم في مقاله جانبا من جوانب السيرة العطرة لثلاثة من عظمائنا رحمهم الله : الطيب صالح وعبد الله الطيب وأحمد شبرين .. وقد أثار المقال في نفسي بعضا من الذكريات .. وقد عُرف ثلاثتهم بالتواضع والترفق بخلق الله ولعلهم من الذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم :"إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون" .. وثلاثتهم امتاز بالشهرة الحسنة أو الشهرة المبصرة البصيرة وليست الشهرة العوراء التي أنف منها العقاد حين قال دع الشهرة العوراء ترتاد غافلا على حكمها يجري وإن طاش أو ظلم إذا الدهر لم يحفظ لذي حق حقه النعل والقدم z فللدهر مني موط إذا جاز بيع الذكر في شرع أمة فلا كان من الذكر ولا كانت الأمم وقد أسعدني الحظ أن اتعرف عن قرب على إثنين هما الطيب صالح وعبد الله الطيب ولم أتشرف بلقاء البروف شبرين إلا من خلال ما سمعت وقرأت عن سيرته الحميدة .. غير أني التقيت بابن اخية أيام الطلب في برلين وكان شابا على درجة عالية من الموهبة الفنية مما يوحي بأن جرثومة الإبداع لا تفتأ تسري وتتجدد في حنايا هذة العائلة الكريمة .. ساقتصر الحديث هنا عن د. عبد الله الطيب وعن لقائي به في قطر حيث كنت مستهل ثمانينيات القرن الماضي أعمل محررا ومندوب أخبار لوكالة الأنباء القطرية .. واغتنمت فرصة وجود الدكتور الطيب في قطر بدعوة من السفارة السودانية للمشاركة في الاسبوع الثقافي السوداني الذي أقيم في الدوحة آنذاك فأجريت معه ثلاث لقاءات صحفية تم نشر إحداها في مجلة الدوحة .. الاسبوع الثقافي السوداني أُقيم بمبادرة من سعادة السفير السوداني في قطر سيد شريف زمن الدبلوماسية الحقة كان الحدث من إحدى منجزات سيد شريف الكثيرة المتنوعة .. ذلك المهرجان الباذح الذي إزدانت به أيام الدوحة ولياليها سبعة أيام من الشعر والنثر والثقافة والفن الشعبي .. وحسب علمي أن هذه السنة التي استناها سيد شريف استمرت بعده ولكن هيهات أن تكون على نفس المستوى والألق بعد رحيل الرموز التي صنعت الحدث الكبير: المجذوب ، عبد الله الطيب ، والطيب صالح وانفراط عقد فرقة الفنون الشعبية التي أذهلت الحضور بفنها الراقي الأصيل وانزواء الدبلوماسية المهنية التي كان يجسدها على أرض الواقع أمثال سعادة السفير سيد شريف .. ألا ليت أيام الصفاء جديد وهل من عودة هل؟ على رأي عبدالرحمن الريح والتاج مصطفى في "الملهمة كانت المحاضرة التي ألقاها الدكتور عبد الله الطيب في جامعة قطر ضمن أنشطة الأسبوع حدثا فريدا من حيث المعنى والمبنى .. فقد كانت سياحة فكرية من استاذ متمكن من أدواته المعرفية .. وقد قال لي الناقد المصري الفذ رجاء النقاش رحمه الله تعليقا عليها: لقد أرجع لنا الدكتور عبد الله الطيب الأيام الزاهرة للعميد طه حسين .. ولعل الحضور من كبار النقاد والأدباء وأساتذة الجامعة الذين اصطحبوا المحاضر في جولة فكرية ممتعة لا يعرفون انها وليدة اللحظة ارتجالا من غير تحضير مسبق وحتى العنوان كان من اختيار سعادة السفير .. ولا عجب فهل يحتاج مفكر موسوعي مثل عبد الله الطيب الى تحضير وتجهيز؟ ولذلك قصة لا أمل من تكرارها بطلها سعادة السفير سيد شريف متعه الله بالصحة والعافية أينما كان كنت بحسب عملي مراسلا صحفيا لوكالة الأنباء القطرية أقوم بتغطية فعاليات الأسبوع الثقافي السوداني .. وفي يوم وصول الدكتور عبد الله الطيب إلى مطار الدوحة قادما من المغرب حيث كان يعمل محاضرا في جامعة فاس كان في استقبالة سعادة السفير وشخصي .. وفي الطريق إلى فندق رمادا الدوحة والساعة تشير الى حوالي الرابعة عصرا سأل سعادة السفير د. عبد الله الطيب بسبب تغيير في البرنامج فيما إذا كان جاهزا لإلقاء محاضرة في جامعة قطر في المساء وهو نفس اليوم الذي وصل فيه وأجابه لا مانع لديه .. عندها وصلت السيارة الدبلوماسية الفندق وسأله مرة أخرى عن عنوان المحاضرة التي أعدها فأجابه ليس لديه شيئا جاهزا الآن وهذا متوقع لانه وصل لتوه من المغرب ولكن أوكل إلى السفير أن يختار هو الموضوع .. وفي طريقنا إلى الجامعة وفي حيرة من أمرنا كتب السفير على سبورة الجامعة الضخمة قبل عصر الكمبيوتر : الأدب العربي وقضاياه محاضرة يقدمها الدكتور عبد الله الطيب .. وبعد حوالي ساعة ونصف رجعنا إلى الفندق لاصطحاب الدكتور عبد الله الطيب إلى الجامعة لإلقاء المحاضرة وهو مقبل إلى السيارة بادره السفير قائلا بأن عنوان المحاضرة الذي اختاره : الأدب العربي وقضاياه .. وكان رد البروف قوله : على بركة الله .. في الساعة السادسة والنصف مساء كانت القاعة مكتظة بالحضور واعتلى د. عبدالله الطيب المنصة وكنت بجانبه أسجل المحاضرة لوكالة الأنباء .. وكان مشهدا تصدق عليه مقولة نزار قباني .."تخرج منه الكلماتْ كما تخرج الحوريات من زبد البحر وكما تخرج الصيصان البيضاء من قبعة الساحر" وبالرغم من أن المحاضرة باللغة العربية حسب مقتضى الحال إلا أن المحاضر بغرض المقارنة وتجذير المصطلحات لجأ غير من z متعثر - إلى استدعاء مخزونه اللغوي من الانجليزية واللاتينية وشيئا من الفرنسية حاله حال شاعره الأثير الذي فيه شي اسمه أبو الطيب في تطويع المفردات والمعاني الصعبة المراقي حتى وإن امتنع سهلها لغيره فقال مخاطبا سيف الدولة ولقد خبأت من الكلام سلافه وسقيت من نادمت من جرياله وإذا تعثرت الجياد بسهله. برّزتُ غير مُعثر بجباله .. أو كانت المحاضرة من قبيل "السهل الممتنع" كما عناه البحتري .. ولنا عودة أن شاء الله الفاتح ابراهيم واشنطن - الولاياتالمتحدة Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.