( الفنان المرتبط بالشعب، يتبين هذه التجارب ويتابعها ويحياها ويستخلص حكمتها ويعممها ويبرز نماذجها وانماطها ويجعل منها موضوعا خصبا لفنه. ولكن الحكم علي القصيدة لا يكون بنهايتها فحسب، وإنما بالحركة العامة للقصيدة وبمدي استيعابها وشمولها للأحداث في علاقاتها بالحياة). - محمود أمين العالم - أسعي، في هذي الأخيرة من قراءتي لقصيدة القدال، قصيدته في نسقها وسماتها ( المغايرة ) لشعره المعروف عنه، وبالمغايرة نعني أنها قد أكتست لها لبوسا علي غير ما كانت عليه، في صورها وفي معانيها، بل أرها جديدة مبتكرة في لغتها أيضا، ثم أنها، فوق ذلك كله، هي قصيدة هذه المرحلة من حياتنا، أعني أنها تاريخية في جواهرها العديدة، حد تكاد تكون، بكل زخمها وإشاراتها، إلي واقعنا ومعاشنا أقرب، وإلي قضايا شعبنا الجليلة تنتمي، شعبنا وهو في مسار نضاله اليومي. وفي ظني، أن ذلك بالتحديد ما يكون في ملامح القصيدة لدي الشعراء الكبار. كنت أود أن أورد هنا بعضا كثيرا من قصيدته ( طنين الشك واليقين ) التي جاءت هذه الكتابة مؤشرة إليها، لكن الحيز المتاح هنا لا يسمح بذلك، ومن التعسف أيضا، إيراد القليل المقتضب منها، حيث أن كل صورها، في تناسلها وتتابعها، ممسكة بعضها بالبعض، فكيف أن ( قطعتها ) فجعلتها في نظر القارئ علي غير ملامحها ومقصودها؟! لكننا، برغم ذلك، لننظر، الآن معا، لهذا المجتزأ من القصيدة الذي يصور، واقع حالنا بدقة، ونحن ما بين المراوحة القاسية فيما بين شك يتناوشنا واليقين الذي هو قريبا ويكاد يكون فينا، يقول القدال: أما المساكين الدُراش فالخور وسايد مَرْقَدُم.. من فد هطيل ..تِنْدَكَّا والذاكْره لامن تنغمِس في الطين .. بتصبح طين .. طيناً عَميكة ولُكَّه. ويومها التغيب في ظِنَّتَك راحت عليك السِكَّة. حِس القِرِش .. ظِنَّه خَم الهَبِش .. ظِنه دم النَّبِش .. ظِنه ما بيتسمع.. ولا فيش يقين إلا النويح فوق البِرِشْ تتذكر الكون في شريط ويمر عليك طيف الحياة زي البَرِقْ ويجوط عليك العَرْشْ ما تْفُرزو من قَش العَرِشْ. يمسخ عليك الموت تحلالك الدنيا بس العُمُر هيهات .. لا طار ولا ركَّ. هات من طنين الذاكرة من بَرَّه هاكمن جُوَّوه هات السُلْطة والأنا صولجان إيدين من الشك والظنون ما بْتَلحَق الظن البديل أو تمسِك الحال اليقين الماتوا يَدْنولَك عديل مادِّين إدينهم يلمسوك خوفَك يَبَتِّق في وشِيك روحَك تَصَنقِر في الدفوف الدَّاقَّة تالى النافقوك وين ما بتصيح ما بيلحقوك...). هذا هو حالنا، الحيرة المفرطة، الشك الذي يكاد يحتوينا جراء مشوار النضال الطال ضد سلطات القمع، الحال الخشن المر الذي أمسك بالبعض فأوردهم، لربما رغما عنهم، موارد اليأس والإنزواء بعيدا في ظلال الذات، بعيدا عن ساحات الفعل والنضال، هكذا، يتيح شعرهم للجلاد أن يكون في ( رقصاته ) بالإنتصار، ولكن، وهذا سؤال الشعر والروح نفسها، أينه يكون مقام الشعر والشاعر هنا، في هذا الخضم المدوي من واقعه؟ قصيدة القدال هذه كتبها في 25/8/2014م، وزعمت أنا أنها من جديد قصائده، بإعتبار ( مغايرتها ) للسابق من شعره، وكانت رؤيتي هذه، في هذا المنحي عنده، هي دافعي لهذه الكتابة عنها وعن الشاعر. بعد هذا التاريخ كتب الشاعر الكبير محمد المكي إبراهيم قصيدة جديدة، ( لا أظن )، قصيدة عبر عبرها ود المكي عن واقع حالنا المزرئ القمئ، برؤيا الشاعر في دواخله، حد تكاد تراه قد فارقه الأمل في جدوي الحياة و... في الغد، الذي هو أجمل في رؤيا ووعيي الشعوب وهي تحت نير الديكتاتوريات وعسفها، ذلك شاعر الإكتوبريات العظيم ضاقت به الروح وطاف في فلك الشؤم والإكتئاب، لكن القدال، بمحض شعره ورؤاه، ينجو، فيكون في الغد، الأجمل والمرتجي في حساسية الشعر/ البشارة والبشري، وأن كانت إشارات، وإن كانت نداءات، وإن كانت تحريضا بمحض (عبارات) الشعر و ... ( عبوراته ) علي قول محمد الصادق الحاج. يقول ود المكي: ( ضاقت الروح،ضاقت كثيرا وطافت بنا الأرض في فلك الشؤم والاكتئاب هل سنخرج للشمس ثانية بعد هذا العذاب؟ - لا أظن!)... القصيدة، علي طول صورها ومشاهدها و ... دلالاتها تقول، بوضوح جلي، لآ أظن، ليس هنالك من أمل أمامنا، لقد أمسك ذلك الهول المرعب للديكتاتوية بعنق القصيدة حد أن جعلها في معية ( الموت )، ليست في الحياة، ولآ في نضالات حيواتها! تري، كيف ( تسللت ) هذه الرؤيا ( السوداء ) إلي قصيدته، ولماذا؟! في زيارته لود مدني في 9/1/2015م، وفي قصيدته البديعة ( قتل الجنجويد غزالي )، قال يومذاك: (قال لي فارس الجنجويد: هاتها قلت :اسورتي؟ قال لي هاتها كنت وحدي كنت خائفة ً، والمخيَّم كان بعيداً والبنات اختفين وراء السياجِ ، واصبحت وحدي قلت: خذها وبسطت يدي سطع البرق من يدهِ، ورأيت يدي وهي تسقط في الرمْل هامدةً، ورأيت غزالاً يوليّ ودمٌ احمرٌ يصبغ الرمل حولي قال لي فارس الجنجويد: ارفعيها ! ) ... وإلي أخر القصيدة الجميلة، رفعتها، مرغمة رفعتها، لكنها، وهي تحت ذلك النير كله، قالت، وكانت، في النضال المجيد لما سيأتي به الغد، إنتصارا باهرا للشعب في وجه الديكتاتورية والقمع، أعلنت بشاراتها للقادم الذي هو أحلامها ورؤاها في إنتصار شعبها والوطن، كانت جميلة وناهضة تلك البنت، جوهرة تضئ في جسد القصيدة والوعي، وعيها و وعي شعبها: هي خمسون عاما مضت مثلما يؤمض البرق مرت . وها أنت لازلت خضراء ، زهراء ، حسناء أثواب عرسك زاهية وطوالع سعدك أكتوبرية . أخرجي ياجميلة من ظلمة القبة سيري إلي البهو ... ) ... ... ... ... ( إننا الآن أقوي وأكثر إننا الآن أجدر . فهبي علينا لينتفض القلب ياغالية ويخلع أثوابه البالية وتجلس أرواحنا في المكان المخصص للروح أو نشتعل مرة ثانية . ) ... ذلك ما قال به شاعر الإكتوبريات العظيم ود المكي وقتذاك، تحديدا في 30/12/2014م، وهذه قصيدته الجديدة ( لا أظن )، ثم أنظروا معي، وتأملوا ما تقوله قصيدة القدال بعد كل هذا الشك و ... اليقين، الذي أبدا أبدا لم يفارقه وهو في الأشد من حالات الشك، من حالات العسف والنير والمسغبة، التي فيها شعبه، وهو منهم. هنا، في هذا المقام الصعب، تكون (الخيارات) في دواخل الشاعر، مؤلمة، جارحة ونازفة، خيارات الوجود والجدوي، فأما أن تكون أو لا تكون علي قول شكسبير في مسرحيته الخالدة، وتلك، عندنا، أما أن تكون في صف قضايا شعبك، شعريا، أو لا تكون! لكنها هكذا، هذه المعادلة بالغة القسوة علي كاهل الشاعر، تكتسب، في ذات الوقت، جدوي عظيمة القدر والغني أن بقيت في صف شعبها وقضاياه أيا ما كانت، تلك هي جدوي الحياة في لمعانها وبريقها، وتلك، أيضا، هي جدوي الشعر وجمالياته وأضواءه التي هي في شروق الحياة، وإلا فسيكونا، معا، الحياة والشعر، في الإنطفاء العظيم، الذي هو، لا مندوحة، إلا غياب عن الكون في حيويته التي تدعم بقاءه الذي في دعم الحياة نفسها. فرح القصيدة بالحياة: من المعلوم، وتلك، لا شك، بعضا من طبائع البشر حين يكف الوعي برهات فلا يؤازر ( الموقف ) الشخصي للشاعر إزاء ما يواجهه، شخصيا، ويواجه شعبه ووطنه من آلام وقمع وظلم، فيكون الشعر، الشعر والشاعر معا، في أتون تلك الحيرة المرعبة التي تجعلانهما، معا أيضا، في النأي عن مواطن الجسارة والفعل بمعية القضايا الجليلة للشعوب، ولقضايا الوجود والكون علي تنوعها واتساعها في آفاق ورؤي القصيدة. هنا بالضبط يتجلي ( المأزق ) الوجودي للشعر، ونقول، تماما مثلما يتجلي للشاعر نفسه. نعلم، أن عديدا من الشعراء يقولون بأن يكون شعرهم لأجل وجه الشعر وحده، ولا شأن له بتداعيات واحداثيات الحياة من حوله، وفي ظني، أن تلك الرؤي قد ( اندثرت ) أو كادت، وتوارت كثيرا في المشهد الشعري الراهن، تماما مثلما تلاشت وغابت ( المدارس ) الشعرية والفنية بمسمياتها العديدة فغدت من الكلاسيكيات يشار إليها في مواضع الدرس والتاريخ للآداب والفنون. صحيح، أن هنالك بعضا من الشعراء لا يزالون يحلقون في المنتصف من تلك الأجواء وهم بها عالقون، ولكن، إلي أين، وإلي متي؟ ذلك ما سوف يكون عليه شعرهم عندما يصفو ويتعالي رنين الحساسية الجديدة وتعلوا في مقامات عاليات. صحيح أيضا، أن القدال في ( طنين الشك واليقين ) قد عاني، أشد ما تكون عليه المعاناة، وداخلته الحيرة والشك، بأمض ما يكون، وتلك، لا شك، هي نفسها أطوار وتجليات الحيرة والشك التي طالت الشعب أيضا، لكنه، وهنا يمكنك أن تري كيف قد جعل له أملا وضوءا أنار إليه دربه، شعلة من نور وهدي جعلها، في وجهة قصيدته، وعبرها غدت هي، بذاتها، في رؤي شعبه شعارا يحتذي ومسار، هكذا صارت القصيدة ملهمة وفي معية الحياة، لأجل الغد الذي يسعي الشعب، والإنسانية كلها، أن يكون غدا أجمل وأفضل. الذي أدعوه ( فرح القصيدة )، هو ما أود أن أشير عبره إلي (الحساسية الشعرية ) التي غدت واقعا في الفضاء الشعري برمته، هنا عندنا أو عند غيرنا، وهي ما لمسته في منحي القدال الشعري في راهنه الآن، والذي نأمل، كل الأمل، أن يسير عليه ما شاء له أن يسير، ففي ذلك، وحده، تنجو قصيدته وتزدهر، مثلما هو ينجو بنفسه ليكون في صف الإنسان، إنسان بلاده و الوطن. قد نجد، ولربما كثيرا ما نجد أن الحساسية الجديدة تتلبسها دعاوي غامضة، بل تحاول أن تقلص مسارات القصيدة كلها لتجعلها في إطار شكلي، فأراها في عديد وجوهها دعاوي انطباعية، تذوقية، تكاد تطمس ما عليه الواقع الأدبي / الشعري الجديد وتجرده من دلالاته الاجتماعية فضلا عما في هذا الواقع من اختلافات وتمايزات. وأنا أقرأ قصيدة القدال الجديدة شرعت أبحث عن ( السر ) داخلها، وعن روابطها بقصيدته السابقة، ولعله من الحق أن نقول أنه يسهل جدا أن تجد ضالتك في قصيدة واحدة، أو في كل من القصائد ولكن علي حده، لكن، أن تبحث عن ذلك السر، أن كان ثمة سر، في مجموع شعره ، فذلك ليس سهلا بالطبع، حيث تجد نفسك أمام مهمة مزدوجة، حيث لن يقتصر بحثك علي القصيدة الواحدة، بل ستقرأ كل القصائد، ثم لأجل الدرس، ستكون ملزما أن تجد السر العام الذي يمسك إليه كل تلك التفاصيل وما يمكن أن يجمع بينها أو يوحد بينها، وتلك هي عملية اكتشاف الكل من وراء الجزئيات والعام من وراء الخصوصيات. ولكن، لنعترف، أن الخطر الأكبر هنا، أن نقع، بوعي أو بدونه، في خطيئة فرض أفكارنا علي العمل الذي نسعي لمعرفته واكتشاف جواهره. هكذا وجدت أن ( طنين الشك واليقين ) تشكل، فيما ظننت، مرحلة الفعل في مواجهة اللافعل والتردد، مرحلة البحث عن الهوية، الذاتية والعامة والشعرية أيضا، واكتشافها واضاءتها في مواجهة الضياع والإغتراب، مرحلة الخروج والإنطلاق والتفتح، بعيدا عن الحصار المفاهيمي الخاطئ والألوان الشاحبة. لربما تجدها أحيانا، هنا أو هناك، تعرض نفسها كأمور وشئون خاصة، ولكنها في حقيقتها، برغم هذه الخصوصية وبفضلها، هي أمور وشئون عامة، فالخاص هنا يعبر عن العام دائما، دون أن يكون في الجهير الزاعق ذاك، فتأتي بنية القصيدة وآلياتها الداخلية لتحقيق هذه النقلة الرشيقة من الخاص إلي العام، وهكذا أيضا، تصبح البنية (الحدثية)، بل اللغوية نفسها جزءا من الدلالتين، الخاصة والعامة لما سيأتي من شعره. القدال أضاء كامل قصيدته بالأمل الذي يرافق حياة الناس، يقول في خاتمة قصيدته: ترحل معاك الذكريات حبلاً متين ترحل متتابعة لامن تتصل بي ظِنَّتَك تتضارى من شكَّك .. وراك أو تاني تمرق من جديد تمرق وراك سكك الحديد والنهري والبحري والحقلِ والنقلِ وعطالة الأشغال .. والنخوه والأخلاق كل المشو اوالكان تشردوا في المداين والبلاد حتى الولاد الكان تصبروا واختشوا هُم والأرامل والحوامل والهوامل والتشتتوا في الهموم والدمعة والكون السهاد تطلع متل حبل الوريد ... ... ... في الوقتِ داك ...ياكا البَراك بَصَرَك حَديد روحك تغَرْغِر في الوتين .. والشك يَصَل مِيس اليقين. هكذا، وإلي هذا الحد، يمكننا أن نقول بإطمئنان عميق، أن الشك قاده، عبر القصيدة، إلي اليقين، لعله بعضا مما في نهج ديكارت وطه حسين، وفي خطاب الأسئلة، عادة تكمن الإجابات، لننتظر لنري تلك الأسئلة وذلك الشك في القادم من قصيدته، وحتما سنري كيف يكون اليقين، وكيف هي وجهاته وملامحه. و... سلااااام الشعر يا قدال. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.