عبر 164 صفحة من الورق المصقول والمزدان برسومات الفنان التشكيلي الكبير ابراهيم الصلحي ، نجح الفنان التشكيلي هو الآخر فتحي عثمان في محاورة الصلحي بذكاء بائن ولطافة في الرفقة تشي بها طريقة اِجابات الرجل مثار الكتاب. ليس الكتاب كله وقفاً علي محطة التشكيل وأحواله في السودان. يستعرض الصلحي في الكتاب جزءً من سيرته وأحوال أمدرمان مكان مولده والسودان بشكل عام ، ساعده علي ذلك عين الفنان التي تري ما لا تراه أعين الناس العاديين. يكشف الكتاب عن حس اِنساني رفيع واحساس عميق بالآخر الشريك في الوطن وقبل ذلك في دروب الانسانية. من ذلك يذكر الصلحي حادثة اصابته بالمرض في سجن الدكتاتور السابق جعفر النميري لأن رفيقاً له داخل السجن رقيق الحال أصيب بالمرض. وقد حكي عن ذلك الرجل أنه كان يعمل بكشك جرايد واسمه المليح من ناس سنجة ، غير أنه – أي المليح - وبكل البراءة لا يعرف لم أدخل السجن ! ومن ذلك حكايته وبحرقة عن رجل خرج من مكتب الفيش والتشبيه كاجراء سابق للسفر لخارج البلاد وهو يدمع من الفرح ! تأملت في ذلك الأمر وفرح ذلك الرجل علي الرغم من أن ذلك من أبسط حقوق الانسان في العالم كله ، ولكن متي كان السودان جزءً من العالم ! ينضح الكتاب كذلك بالنوستالجيا والحزن علي حال البلاد ، من ذلك يقول الصلحي : " اليوم أنظر الي السودان كذكري من أروع الذكريات، لأني أذكر السودان بما كان عليه الحال ، ومن ناحية ثانية بما يمكن أن يكون عليه الحال "، وفي ذلك يقول أنه يتفق مع الدكتور عبدالله الطيب في أن السودان يمثل أجمل مافي العالم العربي والاسلامي ، بل ويخلص متيقناً أن السوداني لا يخضع لطاغية وان حدث ذلك كما حدث في الفترة الأخيرة كما يقول فهو يري أنها مرحلة يمر بها السودان. وفي الحقيقة فقد شدتني في هذه الجزئية من الحوار نظرته الحصيفة الي قيم السوداني النبيلة واعتبار بعض ما يعتورها هو نتاج الرعوية علي حد وصفه ، وهو تعبير حصيف لاشك في ذلك. يري الصلحي أن ما يحدث للسودان يحدث له هو بالذات . وذلك أمر عجيب لازم غالب من ابتلاهم الله بحب هذه البلاد ، الا الذين تسني لهم أن يحكموها فكأنهم لا يعرفونها. في مثل ذلك قال الطيب صالح والحسرة تأكل قلبه : " ألا يحبّون الوطن كما نحبّه ؟ إذاً لماذا يحبّونه وكأنّهم يكرهونه ويعملون على إعماره وكأنّهم مسخّرون لخرابه ؟ أجلس هنا بين قوم أحرار في بلد حرٍّ ، أحسّ البرد في عظامي واليوم ليس بارداً . أنتمي الى أمّة مقهورة ودولة تافهة " . قلت يقول الصلحي أنه يري أن ما يحدث للسودان يحدث له هو بالذات ، وفي ذلك يحكي قائلاً : " جيت لأخرج وكنت لابس بدلة سفاري وأحمل عصاية والشنطة فوق كتفي. أحدهم شال جواز سفري وعاين لي، قال : حبشي بجواز سوداني؟ قلت : آي والله أدوني ليه!" قال لي: " اتفضل امشي. فأخذت جوازي وذهبت. وهذا مما جعلني أتأثر جداً في زياراتي للسودان. والله خرجت أبكي مرتين، مرة لأني افارق الأهل وهم كبار سن ولا أدري ان كنت سأراهم مرة ثانية أم لا، وبكيت من الفرح لأني مغادر السودان. مغادر لما رأيت من هم وغم ". انظر لهذه الجلافة في التعامل والازدراء بلا معني ، ولمن ؟ لرجل في قامة الصلحي تفتح له أبواب المعارض العالمية ويحتفي به أينما حل الا في السودان حيث يستوقفه واحد من سفهاء الناس هكذا، بل وانظر لاهانة شعوب عظيمة كسكان الهضبة لا ذنب لها سوي أن حظها العاثر أجبرها علي اللجوء الي السودان في زمن انحطاط سكانه. يرد في الكتاب في معرض وصفه لامدرمان ما يضعها في مصاف المدن المرتبة والأنيقة ان صح هذا الوصف علي المدن ، ولكنه يختم ذلك التذكر بمزيج من الأسي والحسرة علي حال امدرمان وتالياً علي حال البلاد المسكينة برمتها : " كانت أمدرمان مدينة في منتهي الروعة . كل هذا ضاع". يحكي الصلحي عن فترة ابتعاثهم لانجلترا. وبما أن ذلك كان بعيد استقلال السودان في نهاية الخميسنات فيروي الرجل كيف أنهم اندهشوا أو كان خارج نطاق تصورهم كما قال أن وجدوا أن هناك كناساً في الشارع انجليزي ! بل ولقد كان من يخدمونهم في المطاعم من الانجليز! رغم ذلك يثبت في الحوار أنه لم ينبهر بثقافتهم ، " أنا عندي ما أقدمه لهذا الماعون الدولي " ويقول أنه لم يأت كفقير يستجدي أو كانسان أقل شأناً ، لا بل أنه جاء ليأخذ عنهم ما يحتاج اليه ويعطيهم ما عنده. العملية متبادلة بالنسبة اليه وهو بذلك يختلف عن مصطفي سعيد في موسم الهجرة حيث يخاطب الانجليز وحضارتهم قائلاً : "جئتكم غازياً، قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ". ولكن الصلحي كان يري نفسه سليل حضارة عظيمة من نسل كوش ومروي وماتلاهما. ربما لهذا السبب ولأسباب أخري – الحرية والأنفة – لم يستطع البقاء بالمملكة السعودية : " ذهبت للعمل في السعودية في الاجازة ووجدتها ما نافعة ورجعت. التدريس كان أرحم ". يحكي الصلحي في الكتاب كذلك عن الصعوبات البيروقراطية التي تواجه الفنان حين يتسنم عملاً أدارياً ويصر أن الفنان هو الأكثر مقدرة بطبيعته علي مثل هذه المهام ، لا يذكر الصلحي معيار النزاهة فلم يكن ذلك من مشاكل من يتسنمون مناصب الدولة في السودان وقتها . يحكي الصلحي كذلك عن فترة دخوله السجن دون ذنب جناه وعن ذلك يقول الطيب صالح " قال لي الصلحي خرجت من السجن فوجدت أن مرتبي يدخل البنك بانتظام ، ومنزلي الحكومي لم ينزع مني ولم توجه لي أية تهمة : عند ذلك قررت أن أترك السودان ، قلت هذا بلد مجانين ". والحقيقة فان الجنون قد ازداد في هذه البلاد الي حد لا يصدق. يحكي الصلحي عن الصعوبات التي واجهته في مصلحة الثقافة وعن طريقة تدريبه للشباب الخريجين وكيف أثمر ذلك ، والحقيقة فان هذه المسألة ظلت وللأسف واحدة من معوقات نهضة البلاد ، أي التدريب . قبل ذلك طبعا الرؤية خلف هذا التدريب ، فانك ان نظرت الي ميزانية التدريب لدي مصلحة الثقافة او وزارة الثقافة اليوم فانك لواجد من المال ما تتعجب له ، انما المسألة ان الذين هم علي رأس الوزارة وغالب مفاصل القرار فيها لا شأن لهم بالثقافة لا من بعيد ولا من قريب . ينطبق ذلك علي الأكيد علي التعليم وعلي الرياضة وكذا. يكشف الصلحي في الكتاب سراً بدا لي ذو أهمية. كان الصلحي يقدم برنامجاً في تلفزيون السودان باسم بيت الجاك . كانت فكرة البرنامج مناقشة مواضيع مختلفة تصل في النهاية الي حد مناقشة المسكوت عنه وما أكثره في مجتمعات السودان المختلفة . انتهي الأمر بالبرنامج بالايقاف حينما حاول الصلحي عرض مسألة الدعارة ومثليي الجنس والقصة معروفة وقتها. ما بدا لي جديراً بالاهتمام هنا ما ذكره الصلحي من أن الكاتب الشبح أو المعد الشبح الذي كان يعاونه في الحلقات أو بعضها هو الدكتور التجاني الماحي عالم الطب النفسي السوداني المعروف. شد ذلك الأمر انتباهي الي كم بذل متعلمو السودان ونخبته في سبيل تغيير المجتمع انما دون كبير أثر حتي انتهي الأمر بالنخبة الي ما نراه الآن من الفشل الملازم لغالبها من لعق أحذية السلاطين أو غير ذلك من سبل الخيانة. أثرٍّ فيّ وبطريقة شخصية قول الصلحي الذي أوردته أعلاه من أنه يحس بأن ما يحدث للسودان يحدث له هو شخصياً ، وبدا ذلك وصفا عجيبا لحب السودانيين لهذه البلاد العجيبة هي الأخري ، ووجدت الطيب صالح يقول في مثل ذلك ومشيراً فيه الي الصلحي نفسه: " تجلس ، وفي خيالك ذلك العطر الذي لن ينضب مادمت حياً. وهو حب أودي قبلك بالتجاني يوسف بشير ومحمد المهدي المجذوب . ومثلك كثيرون. منهم صلاح أحمد ابراهيم في باريس ، وسيد أحمد الحردلو في صنعاء ، والفيتوري في الرباط، وابراهيم الصلحي في الدوحة ، وعبد الواحد يوسف في عمان ، وحسن أبشر الطيب في الكويت" * . لا يخلو الكتاب بالطبع من الطرافة الملازمة لطبع الفنان ، من ذلك رد الصلحي لمن طلبوا منه الالتحاق بمدرسة الرقص في لندن نظرا لمهارته البائنة : لماذا لا تلتحق بمدرسة رقص؟ " انتو دايرين تطربقو الدنيا فوق راسي ؟ ". ومن ذلك ما قاله للرجل المسيحي الذي دعا له بالهداية ولأمه وأبيه بدخول المسيحية :" قلت له والله أبوي لو سمعك الا يقيم فيكم الدين ". لم يحتو الكتاب علي فهرس ولكنه احتوي علي ثمانية عناوين فرعية جاءت كالآتي: أمدرمان، الطفولة والصبا / مصادر الثقافة البصرية / إنجلترة / الموظف والفنان / مصلحة الثقافة والسجن / بيت الجاك والكتابة الابداعية / المنفى، الاغتراب، الرسم والتلوين ثم أخيراً مدرسة الخرطوم. نشرت الطبعة الأولي من الكتاب في العام 2011 علي نفقة مجموعة دال دون الأشارة الي دار الطباعة. بالنسبة الي المتلقي العادي كحالتي يمثل الكتاب فرصة جيدة أضافة الي متعة القراءة والتأمل لمشاهدة مختارات من أعمال الصلحي تم عرضها بطريقة جيدة ومرضية عبر الكتاب. أود أن اختم هنا بما ذكره الأستاذ فتحي عثمان في مقدمته للكتاب من أنه " لو أن فناناً تشكيلياً في مقام ابراهيم الصلحي كان ينتمي لأي بلد آخر ، حتي من بلدان ما يسمي بالعالم الثالث ، لأقيم له متحف خاص يضم أعماله ، احتفاءً بمساهمته الكبيرة المتميزة والتي تضعه علي قدم المساواة مع مشاهير الفنانين التشكيليين من مختلف البلدان والمراحل التاريخية ، وليتسني لعامة الناس مشاهدتها والتعرف عليها " شوف العين " بدلاً من الأكتفاء بالروايات الشفهية التي لا تشفي غليلاً في مقام التشكيل ، مثل شبيهتها ، المستنسخات رديئة الطباعة " . انتهي الاقتباس من فتحي عثمان ، أنما ماذا نفعل مع السودان ! ------------------------- *الطيب صالح ، مختارات ، وطني السودان. مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي، أمدرمان، السودان. فبراير 2010. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.