هل تم إطلاق مسيرات العدوان من جنوب السودان..؟    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    البرهان يعلن تضامن السودان الكامل مع قطر    لقد غيّر الهجوم على قطر قواعد اللعبة الدبلوماسية    الإتحاد الأفريقي يُرحب بمقترحات الآلية الرباعية بشأن تسوية نزاع السودان    الهلال يفشل في فك شفرة عرش سيكافا ويكتفي بالوصافه    إقالة في التوقيت القاتل... كيف خسر الهلال بطولة في المتناول؟    أمير قطر: إذا كانت إسرائيل تريد اغتيال القيادة السياسية ل"حماس" فلماذا تفاوضهم؟    سبب استقدام الشاب أموريوم لتدريب اليونايتد هو نتائجه المذهلة مع سبورتنغ لشبونة    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    شاب سوداني يستشير: (والدي يريد الزواج من والدة زوجتي صاحبة ال 40 عام وأنا ما عاوز لخبطة في النسب يعني إبنه يكون أخوي وأخ زوجتي ماذا أفعل؟)    أمير قطر: بلادي تعرضت لهجوم غادر.. وعازمون على مواجهة عدوان إسرائيل    شاب سوداني يستشير: (والدي يريد الزواج من والدة زوجتي صاحبة ال 40 عام وأنا ما عاوز لخبطة في النسب يعني إبنه يكون أخوي وأخ زوجتي ماذا أفعل؟)    السيتي يتجاوز يونايتد في الديربي    السودان يردّ على عقوبات الخزانة الأمريكية    الهلال السوداني يتطلّع لتحقيق كأس سيكافا أمام سينغيدا    ركابي حسن يعقوب يكتب: ماذا يعني تنصيب حميدتي رئيساً للحكومة الموازية؟    غرق 51 سودانيًا    شاهد.. "جدية" الإعلام السوداني تنشر صورة لها مع زوجها الشاعر وتستعين بأبيات من الغزل نظمها في حقها: (لا شمسين قدر نورك ولا الاقمار معاها كمان)    شاهد بالفيديو.. الناشطة المثيرة للجدل "زارا" التي وقع الفنان شريف الفحيل في غرامها تعترف بحبها الشديد للمال وتصدم المطرب: (أرغب في الزواج من رجل يملك أكثر من مليون دولار)    شاهد بالصورة والفيديو.. بضحكة مثيرة جداً وعبارة "أبشرك اللوري مافي زول سائقه مركون ليهو زمن".. سيدة سودانية تثير ضجة واسعة بردها على متابع تغزل في جسدها: (التحية لسائق اللوري حظو والله)    شاهد بالفيديو.. الفنان شريف الفحيل يفتح النار على المطربة إيمان الشريف: (المجهود البتعملي عشان تطبلي لطرف تاني قدميه لزوجك لأنك مقصرة معه ولا تعطيه إهتمام)    شاهد.. "جدية" الإعلام السوداني تنشر صورة لها مع زوجها الشاعر وتستعين بأبيات من الغزل نظمها في حقها: (لا شمسين قدر نورك ولا الاقمار معاها كمان)    محمد صلاح يضرب شباك بيرنلى ويُحلق ب"ليفربول" على قمة البريميرليج    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    مصر تسجل مستوى دخل قياسيا في الدولار    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    عودة السياحة النيلية بالخرطوم    ترامب يلوح بفرض عقوبات كبيرة على روسيا    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    انتقادات عربية وأممية.. مجلس الأمن يدين الضربات في قطر    وزارة الزراعة والثروة الحيوانية والري بالخرطوم تبحث إعادة إعمار وتطوير قطاع الألبان    شاهد بالصورة والفيديو.. عروس سودانية ترفض "رش" عريسها بالحليب رغم إقدامه على الخطوة وتعاتبه والجمهور يعلق: (يرشونا بالنووي نحنا)    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    أعلنت إحياء حفل لها بالمجان.. الفنانة ميادة قمر الدين ترد الجميل والوفاء لصديقتها بالمدرسة كانت تقسم معها "سندوتش الفطور" عندما كانت الحياة غير ميسرة لها    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    نجاة وفد الحركة بالدوحة من محاولة اغتيال إسرائيلية    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    حادث مأسوي بالإسكندرية.. غرق 6 فتيات وانقاذ 24 أخريات في شاطئ أبو تلات    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كمال عبد الحليم، الشعر حين يلتجئ إلي خشبة المسرح .. بقلم: جابر حسين
نشر في سودانيل يوم 21 - 05 - 2018


إلي كمال عبد الحليم ،
صديقي وخلي ...
هو الزمان كله ،
زماننا الخشن ...
وبعضا حليما من نفسي .
أهو أنا ؟
رؤياي في الدنيا وبين الناس ،
أيكون هو ...
شاعر هذا الزمان نفسه وإنسانه الشعري ؟
أيكون هو الدنيا ،
أم يكون هو الوطن ؟
أيكون هو ... ،
أيكون هو ؟
ياحبيبي :
كن حتي أكونك
لأكون معك ...
فأكون فيك !
المدخل :
مهرجان الغمام ، هي ليلة الشعر في وجهه النوبي ، الصبية النوبية العفية ، حين نقبلها لا ترد العناق ولا القبلة ! والصوت ، قد تبعثره الرياح ، فيا ليلة العشق النوبي ، كوني وإنفتحي لأغنيك ، أغنية خصوصية تنادي الرياح التي سكنت في الخيول ، فأنت فينا قمرا مزهرا ونجما ، هكذا حدثتنا المدائن القديمة والصبيات الجميلات عند النهر ، فقد يأتي الصوت إلينا ولا يصل الموت في هذا الزمان المسخ ، الزمان الذي نفتش عنه ثم لا نجده ! تلك قصائدك تضئ من حولنا ، معلقة علي صهوات الخيول والبرق ... فالمسافات بيننا جد قصيرة والبعاد طويل طويل ، فلا نلتقي إلا عبر القصائد والكلمات والرحيق النوبي المعتق ! يا أبو الشعراء* ، ذلك ما قد جعلنا في التنائي ، أهي " القبعات الحديدية "* ، أم " العيون الرصاصية " *، أم هو " الجزموت النهائي " * ، أم تري هو القبح السائد ذو الهيمنة وقد أسفر فينا فإنزوينا ؟ و يا أبو الشعراء ، كم وددنا تكون معنا فتحدثنا : عن الشعر والوطن و ... عن المرأة ، عن اللغة النوبية وإنتقال المفردة النوبية في ترحالها التاريخي إلي غرب الوطن ... قد كنت تقول لي : " أجدادي كانوا هناك " ، وكنت أضيف إليك أنا : " نعم ، و ... بقوا هناك ، فقد أستهواهم الجسد الشهواني لحبوباتنا الأفريقيات كمال قال عبدالله علي إبراهيم يوما " . وتحدثنا عن دخول العرب والإسلام للسودان ، وكيف كانت سيادة النوبة في وجه الوطن ، ثم – من بعد – سادت العرب ، وكيف ؟
وكيف تراجعت اللغة النوبية الجميلة ، و... النوبة كيف هم قد أصبحوا في الشتات ! ولكنت – أيضا وأيضا – ستحدثنا عن التراب والنهر والأغنية ، عن حي " أدونقه " * البتول حيث طفولتك وبراءاتك الأولي ولم ظلت تصاحبك – من بعد – كل حياتك ، و ... عن
الأرقينية * التي كانت – وظلت – ينبوع الهامك في الشعر والقصيدة ، أيكون حديثك إلينا هو تاريخ اللغة والشعر والعشق النوبي ، أم هي مرحلة ، مجرد مرحلة ما في مسار حياتنا ؟ لربما كان الأمر كله لا يعدو إلا أن يكون تاريخا ما ، حامضا ومالحا ، وجميلا بهيا كما نراه ونعيشه ، لربما ! أم تري سيكون حديثك كما هي " حبيبتي الملح والأصدقاء " * ، و ... ولا أزال أتذكر جيدا " بائع اللبن " * ، ذلك الرجل فارع الطول الذي يفتح الباب عليه وهو واقف كما الوطن في مواجهة سيدة البيت الجميلة !
بورتريه للشاعر :
شبيه " أخناتون " ، طويل القامة جدا ، يبدو كنخلة باسقة تقف في مواجهة البحر ، والنوبيون يطلقون لفظة بحر يريدون به النيل ، نيلهم الذي هو ملامحهم وثقافتهم وماء حياتهم ، وينطقونها " بهر " . في ملامحه شئ من النيل ومن الجروف أيضا ، من النخل في أأفتراع شموخه وتعاليه والكثير من التاريخ . محددة جدا وواضحة جدا كل تقاطيع وتفاصيل جسده الفارع : الوجه لكأنه قد نحت من صخرة جرانيت ملساء وصلبة فتشي بوضوحه الجارح ، تماما مثلما تمثال ترهاقا الذي يحتفظ بنضارته كلها حتي يوم الناس هذا . له أنف طويل وناهض كمنقار طير جارح كبير ، أشبه ما يكون بأنف عبد الناصر وأمل دنقل ، يتقدم الوجه كله في شموخ متعال ، شعر رأسه ناعم كما السعدة * التي تنبت في جروف الشمال في حضن النيل العظيم ، مرسل بعفوية تامة إلي الوراء ، بلا أي اهتمام منه يتجه صوب الوراء ، لكن الرياح والمشاوير اليومية الكثيرة هي وحدها التي تمسك به فتأخذه حيث تشأ ، فتراه في كل يوم علي هيئة وحال . عيناه ، كأغوار " البهر " ذاك الذي في النوبة البكر ، زرقاء وعميقة ، لكنها موحية جدا وذات معاني وصور ، تري فيهما سحب الشتاء وصفاء الأيام وبراءة الأطفال ، فيهما حول خفيف حبيب ، مثلك ذلك الذي كان يطلبه ويلح عليه الشاعر العربي القديم :
( أن العيون التي في طرفها حول
قتلتنا ...
ثم لم يحيين قتلانا ) * ...
لكنه ، دائما ، يغمض اليسري ، اغماضة سريعة مترددة ولكنها متكررة ، فتبدو أصغر حجما من اليمني ، وأري مثل ذلك كثير منها لدي النوبة رجالا ونساء ، ولست أدري لذلك كله سببا ، أهو الطقس ، أهي الشمس في سطوعها المستمر ، أهو الغبار الرملي ، أم بسبب من البيئة نفسها وتأثيرات المكان والناس والأشياء والنبات والحيوان معا ! أصابع يديه طويلة أيضا ومعبرة جدا ، لكأنها بعضا من لسانه وإفصاحه ، تكاد تحس من جراء حركاتها وسكناتها أشعاره ودواخله نفسها ... يمشي بخطو واسع عجول فتكاد تظنه مهرولا ويود أن يلحق بموعد هام ينتظره ، أو لربما – بسبب من خجل حييي – يرغب أن يتواري سريعا عن الآخر ! يحب كل الناس ، حتي من نعدهم أعدائه فأنه يحبهم بتسامح غريب ، ويصادق الفقراء من بين الناس فيصورهم في أشعاره وقصائده ويري من خلالهم الدنيا ذاتها ، دنياه وعوالمه . يمشي أيضا كما السياب ، يرفع رأسه إلي أعلي ، إلي السماء وإلي فوق ، ويشمخ بأنفه عاليا عاليا بكبرياء كبيرة وإعتداد ، كبرياء الشاعر الكبير واعتداده بنفسه ، بذرة نامية في دواخله تمده بالوهج ، وهج الشعر وألقه وعنفوانه . يرتدي من الملابس أبسطها وأقلها سعرا فيبدو بسيطا وفقيرا في مظهره ، فتراه بالقميص العادي قصير الأكمام والبنطال ويتكرر عليه كثيرا نفس القميص وذات البنطال لأيام عديدة قادمة ، لكنه لجأ مؤخرا ليكون في الجلباب والعمامة المبعثرة علي رأسه ... بسيط كماء النهر والجدول ، وكما الرؤية يسعي بين الناس ، رؤية الطفل في براءته الأولي ، عاديا كما لغة الحديث اليومية ، لكن في دواخله تكمن الكثير من براكين الشعر والإبداع ، عصية علي التخفي فتطلع منه علي الورق شعرا و ... مسرحيات لأجل الفن والحياة ، لأجل الوطن وشعبه ، شعبه النوبي و شعبه السوداني في تنوعه المثير ، إنسان كبير ، وشاعر كبير !
عن الشاعر أيضا وقصيدته :
كنت ، في زمان سابق ، قد كتبت شيئا عن قصيدة كمال ، لمناسبة الأوبريت النوبي الكبير " دهب ودهيبه " ، وهي التي أعدها نقطة التحول الحقيقية في توجه كمال كليا تقريبا لكتابة المسرحية الشعرية ، كتبت أقول : لم أجد مدخلا أرحب وأفضل من قصيدة " نوبيا "
للشاعر النوبي محمد علي أحمد* تصلح لتقديم اضاءة موحية وعميقة عن وجدانيات وجوهر قصائد كمال عبد الحليم ، أعني مجموعات قصائده في مخطوطة ديوانه الذي لم يطبع بعد ، النوبية منها وغير النوبية ، فقصائده وأشعاره جميعها تجد فيها ظلالا وانفاسا ورائحة ، هي علي التأكيد ، ظلال وانفاس ورائحة النوبيا ، وفي ظني أن شاعريته – في جوهرها العميق – نوبية خالصة ، وأن توهج شاعريته ونبضها الحي يصدران من هذا النبع بالذات ، الينبوع النبوي ، تقول القصيدة :
( الجبل ، الباخرة ، الموية
الباخرة ، الجبل ، الموية
الجبل ، الموية
الباخرة ، الموية
الموية ، الموية ، الموية !
... ... ...
الموية الشلت رحم الأرض
ال كان ولاد
الموية الغطت
كل حضارات الأجداد !
أمات كنجي وو دنياد
وو أقر كنجي وو دنياد !
... ... ...
دغيم الموية
دبيره الموية
أرقين الموية
اشكيت الموية
... ... ...
الجبل ، الباخرة ، الموية
الباخرة ، الجبل ، الموية
الجبل ... الموية
الباخرة ... الموية .
... ... ...
الموية ... الموية ... الموية
ياحليل بلدينا ... واااي الليل ! ) .
الموية ... الموية ، هو ماء نهر النيل الذي كان قد سبق وحمل الباخرة ، وهو نفسه الذي غطي وجه الحضارة النوبية العريقة وجسدها في وادي حلفا وقراها ، والتكرار في القصيدة متعمد مقصود ، توجعات مؤلمة في الروح كنشيد نازف لهذا الجرح العصي علي الإندمال والشفاء لآماد طويلة قادمة في الحقب والأزمان . وأتت الأمكنة التي هي بعضا من القري النوبية من حول حلفا ، وقد أغرقتها المياه ( دغيم / دبيرة / أرقين / اشكيت ) صرخة تفجع نازفة وحادة في أفق مفتوح في وجه الزمان " الشين " ، الراهن ولربما الآتي أيضا ! وقد عرف النوبيون بإعتزازهم الجرئ بتاريخهم وحضارتهم ، لا يتخلون عنها البتة ولا تغيب عن رؤاهم ووجدانهم وهم في بلبال الحياة وضجيجها وقسوتها . التصق التاريخ والحضارة لديهم بتكوينهم الفكري والنفسي ويكاد هذا الإلتئام الحميم يطفح علي سيماؤهم وملامحهم جميعها . أما التراث الثقافي النوبي ، وأما اللغة النوبية فإنهما قد إمتازا بمقدرات فائقة الغني والثراء في الفصاحة والإبانة والقول ، في الغناء والموسيقي و ... الشعر . النوبة قوم ترجع جذورهم هنا في السودان إلي القرن الأول قبل الميلاد ، قطنوا إلي حيث ضفاف النيل في ما بين مروي القديمة وبين انحناءة مجري النيل في الدبة ودنقلا ... وأدخلوا معهم اللغة النوبية لأول مرة إلي مناطق النيل ، فأصبح لفظ نوبي يؤشر إلي دلالات جغرافية وعرقية ولغوية وحضارية واحدة بعينها ، وفي الروح النوبية ، تماما كما في الأرض والتراب ، توجد الجذوة حية ، عفية تنشد السقيا والطلوع ، وسيكون لكمال ، في قصيدته ، ومن بعد في مسرحياته الشعرية ، ملامح ومهمات الطلوع التي تسهم وتدعم بقدر كبير في بعث الروح النوبية صوب نهوضها الآتي .
حدثت الهجرة النوبية الكبري العام 1963 ، وكانت في جميع وجوهها تهجيرا بالإكراه هذه المرة ، تهجيرا قسريا بسطوة قوانين الديكتاتورية وجبروتها الظالم . فأصبح ذلك العام عام السواد والسير في جماعات ، تكثر أو تقل ، وقد انفرط عقدها صوب الشتات في الواطن " الحدادي مدادي " علي قول محجوب شريف الذي نتمناه في العافية التي تلد ، باتجاه المجهول والزمان الخشن . شمل التهجير وقتذاك مواقع النوبة كلها ومواطنها الأصلية من غابر الأزمان ذات العراقة وعبق التاريخ الحي في شمال السودان وجنوب مصر ، وأمتدت آثار وتداعيات تلك الهجرة فأصابت الأفئدة والقلوب والوجدان الجماعي للنوبة كلها ، فكست اشارات الحزن ومرارات الفقدان الوجوه والسحنات والملامح ، وصبغت – بالسواد وعتمته الكثيفة المرة – الوجدان الثقافي للنوبة ، في الشعر والمسرح والأغاني والموسيقي و ... اللغة . يقول الشاعر النوبي المصري محي الدين صالح * :
( حنانيك يا نيلا غمرت بلادنا
كسيل طغي فانهار منه المنازل
أتسمنا يا نيل ، أم هان ودنا
فغاصت بقاع النهر " حلفا " و " قسطل " ؟
وأغرقت يا نيل النخيل ...
وأين ما نقدمه للضيف حين نجامل ؟ ) ...
ثم يمضي ليقول بالحسرات الكثار وألم موجع يطال منه الروح والذهن وأفق الثقافة لدي النوبة جمعاء :
( فأسلمت نفسي للرحيل وأنني
بأسرار ما حاكوه بالليل جاهل
وغادرت أرضي محبطا متشائما
أسائل نفسي ، أين ترجي الفضائل ؟
حنانيك يا نهرا أضيع جواره
وغرر فيه الأهل ظلما ليرحلوا !
أعدل يواري إرث أجدادنا هنا ...
ويهجر درب سار فيه الأوائل ؟؟ ) .
إن هذا الواقع القاسي ، بكل دلالاته وجروحه ونزيفه المستمر ، وبالشروخ العميقة التي أصابت الروح النوبية المبدعة ، أمتد ليطال فيبلغ الذهنية الثقافية النوبية في أعماقها الحية . ولكن سرعان ما تبدأ بذرتها العفية في النمو والإزدهار ، وتبدأ – في ذات الوقت – تكتسب حيويتها ودفئها ودورة حياتها الملهمة ، بدأت إذن ، الزهور والورود تطلع في الحديقة النوبية المزهرة . والجدير بالملاحظة هنا أن كمالا كان يحرر صفحة كاملة بصورة راتبة في اصدارة " أولوس الأدبية " بكسلا تحت عنوان ذو دلالة عميقة : " كتابات علي ورق الورد " ، تري هل كان ينظر وقتذاك ، بوجدان الشاعر النوبي وعقله ، إلي هذه الحديقة النوبية المزهرة في طلوعها ؟
الشاعر من دوحة الشعر إلي خشبة المسرح الشعري :
كمال هذا من بين الرعيل الباسل في تأسيس ونشأة " رابطة أولوس الآدبية " بكسلا ، وهو أيضا – باستثناء وهيط – للشاعر المؤسس الكبير الراحل كجراي ، فقد " بدلوا مواقع إبداعهم : الراحل مبارك أزرق أدار قلبه ومخيلته بعيدا عن القصة القصيرة التي أبدع فيها صوب المسرح ، وديشاب بشاعريته العبقرية غدا يعد في النابهين في الدراسات والبحوث اللغوية واللسانيات ، أحمد طه الجنرال ، لم يسير في إبداعه التشكيلي والشعري فغدا معروفا ككاتب مجيد وصحفي لامع ، كذلك – وياللمفارقة – فعلها أبو الشعراء إذ أكتفي بديوانه الوحيد " حبيبتي الملح والأصدقاء " وأتجه بكلياته صوب المسرح الشعري ، وعندما كنت أسأله ، وأينه الشعر ؟ يجيبني ضاحكا : " أهو كلووو شعر في شعر ! " ... وأظنني في التعجب والدهشة والسؤال عن دوافع تلك التحولات العميقة في إبداعهم ، وفي خاطري أن المسرح عندنا يعاني الآن اضمحلالا وضمورا ملحوظا في حياتنا الثقافية . وكنت قد تحسرت بالأمس القريب لواقعتان في شأن المسرح : الأولي حين أنبرت جماعات أدبية بالتعاون مع المركز الثقافي الألماني فاحتفلوا بأسطورة تاجوج في شأن مسرحتها ، كانوا جميعا في كنف مسرحية " تاجوج " لخالد أبو الروس ، فتعجبت حد الألم كيف لهم أن تجاهلوا " لغز تاجوج " لمبارك أزرق بتناولها الفذ غير المسبوق لهذه الأسطورة الجميلة ! الثاني كانت احتفاليات يوم " البقعة المسرحية " ، فإقتصرت علي ترديد وعرض ما يتكرر عرضه وتناوله لأكثر من عقدين ولم يشر أحدا لمبارك أزرق أو كمال عبد الحليم الذي كنت قد نشرت حوالي العام ... دراسة مطولة تنويها وتذكيرا بمسرحيته الرائدة " دهب ودهيبة " علي صفحات " الأيام الثقافي " ! مخطوطة كمال لديوان شعره " حبيبتي الملح والأصدقاء " بحوزتي ولا أزال أبحث عن ناشر لمجموعاته الأدبية الكاملة ، فله في المسرح : " دهب ودهيبة " ، و " موال عشان بلدي " مسرحية شعرية بالعامية في لوحات ، و " مؤانس الرئيس " مسرحية شعرية بالفصحي من فصل واحد .
مخطوطة ديوانه " حبيبتي الملح والأصدقاء " يحتوي علي ... قصيدة ، والوجه النوبي فيها لامعا ومضئ ...
كمال الآن ، ترك الوظيفة ، فقد كان يعمل كاتبا ( باشكاتب ) في قسم االهندسة بالسكة الحديد ، من بعد عمل لفترة ليست طويلة بالشركة العربية للإستثمار الزراعي في منطقة القضارف وما حولها ، الآن يمكث في القرية خمسة أرقين " في حلفا الجديدة ، يكون في الشعر المسرحي ويكونه ، بصحبة زوجته ورفيقة حياته فريال حسن عربي ، ولهما من البنات خمسة : شذي ، صافي ناز ، إيمان ،
نازك الملائكة ، آلاء ، والأولاد : الوضاح و عبد الحليم . التحية لأبو الشعراء وهو في رحلته المجيدة ليدخل الشعرية في المسرحية السودانوية و ... بظلالها النوبية السمحة يا مبارك بشير !
-----------------
* " أبو الشعراء " ، هكذا كان يناديه صديقه القاص والمسرحي الراحل مبارك أزرق وسار عليه أصدقائه .
* " أدونقة " أحد أحياء أرقين قرية الشاعر كمال ومسقط رأسه .
* " الأرقينية " نسبة إلي قرية الشاعر ويعني بها تلك الطفلة البريئة الجميلة وقد تعلق بها قلبه الطفل وقتذاك .
* " حبيبتي الملح والأصدقاء " قصيدة للشاعر تنبأ فيها بانتفاضة مارس / أبريل التي أطاحت بديكتاتورية نميري ، وجعلها عنوانا لمخطوطة ديوانه .
*" بائع اللبن " أحدي قصائده الجميلة في مجموعته الشعرية .
* " السعدة " هي النجيل الطويل الناعم الملمس ينمو علي ضفاف النيل وجروفه . كانت العبارة في أصل المسودة : ( كما الحرير الذي في شمال الوادي ) وجري تعديلها نزولا علي رأي القاص الراحل محمد علي المصري بمصنع سكر الجنيد .
* قصيدة " نوبيا للشاعر النوبي محمد علي أحمد نشرت في كتاب " في سيرة جمال كاتب سرة شرق " سلسلة دراسات ثقافية ودبلوماسية – مطبعة جامعة الخرطوم 1988 ص ( 78) .
* قصيدة الشاعر النوبي المصري محي الدين صالح نشرتها مجلة العربي الكويتية العدد ( 465) أغسطس 1997.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.