موضوع قرض المرحوم الشريف الهندي الذي حصل عليه من البنك بقيمة ثلاثين الف جنيه عام 1958 اي بعد الاستقلال بعامين وقبل اشهر من الانقلاب العسكري ، ورد الهندي على الصحف التي اتهمته بالهرب بالقرض. هذا الموضوع وصلني اكثر من مرة ، كنت اقرأه دون اكتراث ، ربما خلال اليومين الماضين وصلني اكثر من ست مرات ووجدته اليوم على الفيس... ويبدو ان تداوله يعبر عن ذلك الزمن الجميل حيث رد الهندي ردا مفحما على الصحيفة التي اتهمته بالهرب. اليوم قررت ان اقرأ الموضوع لأفهم وجه البطولة في هذا الرد... فنحن شعب مدمن على تقديس الاوثان البشرية ، ولا ادل على ذلك من تلك الفديوهات التي تصور جانبا من الرجال يشربون ماء وضوء غيرهم من البشر وربما حتى ابوالهم ان وجدوها. غير ان هذا غير مهم فكل انسان حر في بناء تكوينه الروحاني والفكري. قرأت موضوع سلفية (قرض) الشريف الهندي واول ما لفت انتباهي هو مبلغ القرض البنكي وهو ثلاثين الف جنيه... ثلاثين الف جنيه عام 1958 ... حين كان الجنيه السوداني يساوي ثلاثة دولارات أمريكية حسوما... ثلاثين الف جنيه في ذلك العهد كان مبلغا مهولا ربما يساوي الآن ثلاثين مليار جنيه. والسؤال الذي تبادر الى ذهني مباشرة ؛ وهو سؤال منطقي ؛ كيف تم منحه هذا القرض؟ وما هي الضمانات التي قدمها الشريف للبنك في ذلك الزمان. نعم الشريف لم يولد لدى اب فقير بل رجل دين ممن لا يمكن ان نسألهم عن مصادر اموالهم... فالرجال الصالحون حتى الآن من شيوخ الطرق الصوفية هم اغنى من بالسودان... لكن هذا لا يجيب عن السؤال الهام: كيف تم منح الهندي قرضا بثلاثين الف جنيه قبل ستين عاما ، وربما لم يكن حتى الرئيس الامريكي في ذلك الوقت يملك مبلغا كهذا. لا يوجد بنك يمنح قرضا بهذا الحجم المهول الا بضمانات ضخمة. وفي الحقيقة اذا تم منح زبال هذا المبلغ فسيتمكن من القيام باستثمارت مهولة وسيتمكن من رد المبلغ في وقته. قبل اسابيع تناقلت الاسافير قرضا ملياريا ايضا تم منحه لشخصية نافذة ، ويبدو ان هذا الامر ميراث سوداني اصيل عبر كل الحقب السياسية. لقد اهتممت ايضا برد الشريف على اتهامه بالهرب ؛ هذا الرد الذي يتم تداوله كرد بطولي ؛ في الواقع لم اجد فيه اي بطولة.. بل وجدت فيه تهديدا مبطنا بكشف آخرين... بالاضافة الى انه اتسم بالتحايل فلم يذكر سيرة القرض لا من قريب ولا من بعيد ، بل اصر على انه لم يهرب بالقرض وانه ليس من اولئك الذين يهربون ثم تحدث عن سيرة عمه كمجاهد في المهدية ولم اجد رابطا واضحا بين المسألتين سوى التمويه المتقن جدا عبر التفريع الى قضايا جانبية غير منتجة كما يسميها القانونيون. حقيقة لم استطع اكتشاف وجه البطولة لا في اقتراض مبلغ بهذا الحجم المهول بدون ضمانات . ولا في رد الشريف على اتهامه بالهرب. نحن جيل لم نشهد هؤلاء العظماء من المناضلين السياسيين.. وربما يكون تقييمنا للاعمال البطولية مختلفا ؛ فالعمل البطولي بالنسبة لجيلنا هذا -أو هكذا احسب- هو طرح مشروع قومي يحقق كل مصالح الشعب ، ويدفع بعجلة تطور الدولة وسلامها الاجتماعي الى الامام. ربما هذا المفهوم مختلف عن ذاك الذي ساد قديما ، حينما كان مفهوم تحدث المحجوب بالانجليزية او امتلاكه لشهادتي قانون وهندسة يعتبر بطولة... او ان الشريف او الميرغني من احفاد الرسول (ص) ، كل ذلك بالنسبة لجيلنا هذا اشياء شخصية جدا وشديدة الخصوصية ولا تفيد الا صاحبها وبالتالي لا تمثل اي بطولة... وليست معيارا للحكم ببطولة احد. انتهى هذا الامر وربما الاجيال اللاحقة لنا تجاوزت حتى مفاهيمنا نحن ؛ حيث لم تعد تعترف اساسا ببطولة لسياسي تحديدا ؛ بعد ان اصبح رئيس الدولة او المسؤول موظف تحت الشعب وليس فوقه. وحيث ان الدول الدموقراطية المحترمة انهت مسألة تمجيد الزعماء وتقديسهم ، بل ان هناك دولا لا نعرف حتى رئيسها او رئيس وزرائها. الاجيال الجديدة هذه لا تؤمن بالبطولات ولا بالزعامات اساسا .. ناهيك عن ان تقدسهم لمزايا شخصية وشديدة الخصوصية. لا يمكننا اليوم ان نحاكم الماضي بمعايير الحاضر... لكن يجب ايضا الا يتم استدعاء الماضي ليشوه معايير الحاضر ، لأن في ذلك رجعية بائسة وتقهقر الى الخلف... ربما على السياسيين اليوم فهم ان الواقع تغير... وهو واقع فقد براءته وطهره الذي كان يجعل من خطاب كخطاب الشريف شيئا عظيما. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.