خلصنا من قبل إلى أن صدمة الالتقاء بالغرب تسببت في إحداث ربكة في الوعي الفكري والاجتماعي والسياسي العربي والإسلامي، اختفت على إثرها مفاهيم واحتلت مكانها مفاهيم أخرى. وتحولت بعض النظريات والنظم، بفعل هجرتها من مكان مولدها ونشأتها، إلى مهاجر تختلف تجربتها التاريخية وظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية عن بيئة وظروف المنشأ، فتحولت إلى كائنات مفاهيمية مختلفة عن الأصل. ورأينا كيف تحولت الماركسية العقلانية النقدية إلى مسخ أيديولوجي ماركسي/ لينيني، ومن ثمَّ ضرب الفكر الرأسمالي بختم التصديق على هذه النسخة وأجازها كنسخة أصلية للماركسية، ثم أشرع مبضعه تقطيعاً وتشريحاً، ليؤكد فساد بنيَة الجسد المسجى بين يديه، وحتمية موته بسبب الفساد الخِلقي الذي يسكنه منذ مراحله الجنينيَّة. ثم رأينا كيف لعبت ربكة الوعي العربي والاسلامي المتأثرة بكل هذه "الجوطة" دورها في تشكيل تصورات وسيناريوهات الخروج من أزمة التخلف والانحطاط، التي كشف عريها لقائها العنيف وغير الودي مع الغرب، والذي تسبب في رضة نفسية وجرح نرجسي عميق في الذات العربية والاسلامية، تجده واضحاً بشكل عفوي في صدق تعبيره عن الدهشة، في وصف الجبرتي لغزو نابليون لمصر. وتجده بصورة أكثر عقلانية وواقعية وهدوءً عند رافع الطهطاوي في "تلخيص الإبريز في وصف باريس". (2) وحين نلتفت إلى الجانب الآخر، جهة اليسار العربي والإسلامي سنجد أن الربكة، من حيث تأثيراتها عليه، لم تكن أقل عنها لجهة اليمين الأصولي المحافظ بشقيه – السلفي والتجديدي – ، كما ولن تجد ثمة مخرجات لها تختلف نوعياً عن مخرجات أزمة الوعي في العقل السلفي، والتي تتلخص – هذه المخرجات – في رؤى فكرية، وخيارات سياسية واقتصادية واجتماعية مشوهة للأصل الذي تدعي التعبير عنه والتحدث باسمه: الاسلام والماركسية. ويرجع السبب في موقف التيارين المتصارعين المرتبك هذا إلى أن: * الإسلام السياسي كان يحاول أن يفسح له مكاناً في الجدل الثقافي والاجتماعي المحتدم لقيادة عربة النهضة العربية والإسلامية، ولكن كانت تعوزه "عدة الشُغل" العصرية للانخراط في الجدل، فاضطر إلى اللجوء إلى اللينينية، وكانت هي الصيغة المطروحة للماركسية – السلاح الفكري والسياسي المكافئ – لمواجهة الغرب/ الرأسمالي المستعمر. * والتيار اليساري/ الشيوعي تتلخص عقدته في أن بذرته في الأصل غريبة سوفيتية المنشأ، وذات صبغة "مادية" والحادية مضادة للدين، يراد غرسها في بيئة تقليدية إسلامية تعاني من التخلف في كافة مناحي الحياة فيها، وتعاني من وطأة الاستعمار الذي يجثم ثقيلاً على صدر كرامتها وكبرياء هويتها. وثمة رواية تجسِّد هذه الربكة والحيرة حكاها الدكتور عبدالله علي ابراهيم على لسان المرحوم البروفسير أحمد خوجلي وهو من الرعيل الأول من مؤسسي الحركة الشيوعية في السودان قال فيها " ومما سألني عنه سلام(*) بإلحاح إن كانت الشيوعية ضد الدين. وكنت أقول له إن الشيوعية امرها سياسة لا دين. ودفعني ذلك للاهتمام بالموضوع وترصده حتى وجدت في كتاب للينين عبارة إن الدين أفيون الشعوب. فحملتها محملها في حيثيات التاريخ الأوربي الذي استغل فيه القياصرة والأباطرة الدين فملكوا الناس والمال باسمهم. ولم أر صلاح العبارة لنا كمسلمين الذين تطابقت كثير من افكارهم مع الاشتراكية. فلما رحنا مصر وجدنا كتباً عن مثل أبي ذر الغفاري واشتراكيته وغيره كثير". (1) ولذا اضطرت ظروف العمل الاجتماعي والسياسي الحب الشيوعي "للتنازل حبتين" عن ماديته اللينينية ومجاراة الطرح الديني والتقليدي، أو مهادنته هوناً ما. وكثيراً ما تصادفك تصريحات بعض الرموز الماركسية في السودان التي تطلقها لتؤكد بها إسلامها وصدق تدينها. وحتى عندما يكتب أصدقاء الشيوعيون عن مناقبهم الأخلاقية فإنهم يحيلون هذه الأخلاق إلى تدينهم الصادق، أو أنهم أقرب إلى الإسلام من "المتدينين القشة" ويعنون المتأسلمين السياسيين. وفي بيئة مثل هذه معبأة دائماً بعوامل العداء أو الخوف المستتر والمرشح دائماً لإمكانية إثارته، يكون "الشيوعي" دائماً في زاوية الدفاع عن النفس/المبادئ. ومثلما تلدغ العقرب رأسها في الحصار المربك عن طريق الخطأ، يلجا الفكر اليساري، والشيوعي إلى البحث في التراث عن ما يؤكد شرعية اطروحاته اجتماعياً وثقافياً، فيلدغ فكرته في أم رأسها. وكما هو واضح لك الآن، ان سلوك هذا الطريق سينزع تلقائياً من الأطروحة الماركسية "دسم" بُعدها النقدي كفكر بديل، لتشارك الفريق السلفي المنافس ملعبه، واللعب بنفس خطته، وأسلوب لعبه، ويتشاركان الرقصة ذاتها. لقد أمدتني مقالة للكاتب الماركسي أحمد القاضي نُشرت بموقع الحوار المتمدن – سأعتمد عليها فيما يلي – بتفاصيل تاريخية لهذه الفكرة – التي في الأصل كانت امستقرة عندي كقناعة منذ أمد بعيد – ، وقف فيها عند أبرز محطات أسلمة الماركسية، بانتزاعها من فضائها النقدي، وإدخالها قسراً بيت الطاعة الإسلامي، حتى تبدو، ولو ظاهرياً، لائقة، ومتسقة، ومتصالحة مع البيئة التقليدية المتخلفة، ضاربة – هذه المحاولات – عرض الحائط بكل اختلافات وتناقضات النسقين: النقدي/ العقلاني، والأصولي، السلفي/ المحافظ. فما هي الظروف التاريخية التي قادت إلى هذا المسار؟ وكيف كان المسار؟ وما هي أبرز محطاته؟ (3) فقد كان من الواضح أن الأحزاب الشيوعية التي ظهرت في بعض البلدان العربية والاسلامية، كانت تواجه عقبتين يحتاج تجاوزهما إلى صبر وعمل دؤوب. * أولهما: ان الطبقة التي انشئ الحزب من اجلها وقامت على اكتاف نخب من البرجوازية الصغيرة في هذه الدول لا وجود لها، او مازالت في حالة جنينية. إلا أن الشعار اللاواقعي الذي أطلقه ستالين في إحدى مؤتمراته والقائل ب (إمكانية الانتقال إلى الاشتراكية بدون المرور بمرحلة الرأسمالية!) وضعت هذه الأحزاب الشيوعية أمام اختبار تكويني صعب، سيلازمها إلى أن تتهيأ الظروف الاقتصادية والاجتماعية اللازمة. * أما العقبة الثانية، وهي الأكبر، فكانت عقبة الدين. فقد وصمت هذه الأحزاب منذ البداية بانها احزاب الحادية، وخاصة بعد انتشار المقولة الماركسية الشهيرة (الدين افيون الشعوب) انتشار النار في الهشيم. وازدادت عقبة الدين وعورة بعد دخول امريكا في الخط، إثر تحول الاتحاد السوفيتي الى قوة عالمية كبرى عقب الحرب العالمية الثانية، حيث انهمكت امريكا في تنفيذ استراتيجيتها القائمة على حصار الاتحاد السوفيتي ومنع اي انتشار لنفوذه في بلدان غرب أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، واعتبرت تلك الاستراتيجية جميع الاحزاب الشيوعية في مختلف القارات ادوات للاتحاد السوفيتي تساعد على انتشار نفوذه، فاتجهت الى محاصرة هذه الاحزاب وعزلها مستخدمة الوسائل التي تناسب كل مجتمع. ففي المجتمعات الاسلامية الناطقة بالعربية تحالفت امريكا مع الحركات الاسلامية (ولا تزال تراهن عليها إلى اليوم) لإدراكها ان المفتاح الى العقل الاسلامي المغيب هو الدين ولا شيء غير الدين. وبلغ هذا التحالف ذروته في نهاية السبعينات وأوائل الثمانينات بإعلان الجهاد ضد قوات الغزو السوفيتي لأفغانستان. وكانت الحرب ترتكز على المقولات التالية: * الاحزاب الشيوعية تعمل على نشر الالحاد والتفسخ والانحلال * ومؤسس الماركسية يهودي * وفي الاتحاد السوفيتي اغلقوا المساجد والكنائس وحولوها الى مخازن * والاحزاب الشيوعية ستفعل نفس الشيء اذا استلمت السلطة في البلدان الاسلامية. كانت بيئة المجتمعات العربية والإسلامية مهيأة للتأثر بهذه الدعايات السياسية، ولذا لجأ الماركسيون في البلدان الاسلامية لمواجهة عقبة الدين لدفع هذه التهم عنهم وتمرير بضاعتهم الماركسية في مجتمعات زراعية متخلفة غارقة في غيبيات هي مرجعيتها في كل كبيرة وصغيرة. ومن هذه الدفوعات إعلانهم في برامجهم انهم يحترمون الاديان وحرية العقيدة، وفي نفس الوقت تحاشي التطرق لما هو سلبي، سواء في الدين أو في التدين، أو التطرق لأي من موضوعات الدين، او اثارة اية نقاشات فلسفية حول الدين في أدبياتهم، إلاَّ ما اتفقت عليه العامة، وركزوا في أدبياتهم الدينية على الجانب السياسي واحلام جنة الاشتراكية الموعودة. اما الحيلة الاخطر التي لجأوا إليها فقد كانت محاولة مقاربة الماركسية والاسلام، لإثبات ان الماركسية ليست غريبة على المجتمعات الاسلامية وليست بالنبت الشيطاني، وان بذورها توجد كامنة في تربة تاريخ مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وما على آثاريو الفكر سوى الحفر والتنقيب في طبقات التاريخ الإسلامي للعثور عليها. وانهمك الماركسيون في نبش التراث الاسلامي لاستخراج ما يفيد انه توأم الفكر الماركسي، بل هو السابق تاريخياً للماركسية، وبالتالي فإن "الماركسية مننا وفينا"، واخذوا يستدعون شخصيات ورموز اسلامية من فجر الاسلام بزعم انها كانت اشتراكية في فكرها وسلوكها. (4) ولعل اول من ولج هذا الدرب في ثلاثينات القرن الماضي، كما يقول القاضي، هو الباحث الفلسطيني بندلي جوزي بكتابه (من تاريخ الحركات الفكرية في الاسلام). وهو من اسرة مسيحية ارثوذوكسية تعلم في المدرسة الارسالية التبشيرية الروسية بالقدس وتم ابتعاثه الى روسيا القيصرية لدراسة اللاهوت في العام 1891 وتحصل على الماجستير في اللغة العربية. وبعد انتصار الثورة الاشتراكية وقيام الاتحاد السوفيتي عين استاذً للآداب بجامعة باكو... وفي كتابه هذا يتقصى بندلي العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تضافرت لخلق واقع ظالم جائر وفاسد في العصرين الاموي والعباسي أرهق كاهل الامم المغلوبة المضطهدة وادى الى نهوض ثلاث حركات مسلحة يسميها بالحركات الاشتراكية، وهي حركة بابك والاسماعيلية والقرامطة، ويذهب الى حد القول بان القرامطة اقاموا في البحرين (دولة شيوعية) كما يسميها بالحرف الواحد، ويسميها أحياناً ب (الجمهورية العربية الاشتراكية) ليثبت ان الشيوعية ليست بالغريبة على التراث العربي الاسلامي، بل قام بإسباغ المفاهيم الثورية والتحررية والاشتراكية على الاسلام كله، وليس فقط على تلك الحركات، واكثر من هذا، يعتبر النبي قائداً لثورة اجتماعية تحررية اشتراكية ضد اثرياء قريش التف حولها الفقراء والارقاء. لعل الدكتور بندلي جوزي قد بدا له انه يكتب على ضوء منهج المادية التاريخية ولكنه كان بعيدً حتى عن الموضوعية والدقة التاريخية ناهيكم عن المادية التاريخية (1). أما عن الماركسي اللبناني الراحل الدكتور حسين مروة، فيقول القاضي أن من يقرأ كتبه لا يخالجه أي شك " في انه ظل اميناً ووفياً للحوزة الدينية في النجف بالعراق التي توجه اليها في مقتبل شبابه ومكث في حلقاتها الدينية اربع عشرة سنة....ويتراءى لي انه كان يقوم بنفس العمل الذي يقوم به الدكتور الجيولوجي زغلول النجار ولكن بطريقة اخرى. فاذا كان النجار يلوي عنق الآيات لإيهام قرائه او مستمعيه بان القرآن قد سبق كوبرنيكس وجاليلو ونيوتن وانشتاين وستيفن هوكنغ وغيرهم بالقوانين الفلكية والفيزيائية والكيمائية والطبية المختزنة فيه، فان الدكتور مروة يجعل عظام ماركس تتحرك في قبره وهو يحوّل منهج المادية التاريخية الى اداة سحرية يطوعها ليعطي للغيبيات والميتافيزيقيات معانٍ عقلانية ومادية. وبهذه الاداة السحرية العجيبة يكون ظهور الاسلام في مفهوم مروة ضرورة تاريخية، وهو في نظره دين للحرية والمساواة بين البشر والاجناس. ومثله مثل بندلي جوزي لا فرق عنده بين المرحلة المكية والمرحلة اليثريبية التي اتجهت فيها الدعوة المحمدية الى الغزوات والمذابح والنهب والسلب والسبي. وحركات الردة التي انتشرت في سائر الجزيرة العربية بعد موت محمد كرد فعل لدكتاتوريته وفرضه لدينه بحد السيف، واجباره للقبائل على دفع الزكاة، هي – أي حركات الردة – في مفهوم الدكتور مروة (ثورة مضادة) و(وذات مضمون رجعي لأنها في جوهرها العام تناهض الجانب التقدمي من الحركة الاسلامية) على حد قوله. اما حروب الاستعمار الاستيطاني المسمية بالفتوحات التي حولت شعوب العراق وفارس ومصر والشام وشمال افريقيا الى اقنان كادحين في بلدانهم واراضيهم الزراعية التي وضع المحتلون العرب يدهم عليها قهرا وقسرا لا يراها الدكتور مروة احتلالا ولا استيطانا. فالفتوحات في مفهومه عملية حضارية كبرى. ويصل الدكتور حسين مروة الى حد تزييف التاريخ عندما يقول ان اهل الشام رحبوا بالفتح الاسلامي كرها للبيزنطيين، وان الفاتحين عاملوا سكان تلك البلاد المغلوبة بالحسنى ولم يجبروهم على الاسلام. وبالاطلاع على كتابه (تراثنا كيف نعرفه) لن تجده، وانت تقرأ مثلا ما كتبه عن المتنبي والحركة الشعوبية وغيرها، سوى قومي عروبي متحمس. فالشعوبية عنده شعوبيتان: شعوبية معتدلة كانت تطالب بالمساواة، واخرى شوفينية عنصرية ترى انها افضل من العرب. ولو كان منصفا لأقر بان الشعوبية التي وصفها بالشوفينية كانت ردا طبيعيا لشوفينية العرب وعنصريتهم وتعاليهم على الشعوب المغلوبة وتسخيرها لخدمة الفاتحين واتخاذ ابنائها موالي. ومما يلفت النظر انه في هذا الكتاب يبرئ ابا العلاء المعري من تهمة (الكفر) و(الزندقة) استنادا الى اشارات ايمانية في ديوان (سقط الزند) كما يقول، وكأن في ذلك اعلاء لشأن المعري!. و( سقط الزند ) هو نتاج مرحلة الشباب بينما (اللزوميات) الذي يعود الى مرحلة الكهولة يشكل عصير تجربته الحياتية والفكرية ويمتلئ بالشك والاسئلة الوجودية، ومن البديهي ان يعتد بأفكاره ومواقفه التي ختم بها حياته. هذا غيض من فيض ما اسماه الدكتور حسين مروة بدراسة التراث على ضوء منهج المادية التاريخية...وفي نهاية المطاف لا مادية ولا تاريخية (2). (5) ومن المعالم البارزة في محاولة الماركسيين خلال العقود الاربعة او الخمسة المنصرمة لتوطين الماركسية في البلاد الاسلامية الناطقة بالعربية عن طريق الخرافات الدينية، كتب الماركسي المصري الراحل عبد الرحمن الشرقاوي الاسلامية. وقد اسرف الشرقاوي في هذا الاتجاه والف سلسلة من الكتب في تمجيد الاسلام ورموزه مضفيا عليهم كل القيم الانسانية والاشتراكية والثورية النبيلة، محاولاً تأكيد أن القيم الماركسية تلتقي مع القيم الاسلامية. ومن تلك الكتب (محمد رسول الحرية) و(علي امام المتقين) و(الحسين ثائرا) و (الحسين شهيدآ) و(عمر الفاروق) وغير ذلك. وهذه الكتب، كما يذهب القاضي، ليست مناقضة للتاريخ ومجافية له فحسب، بل وتفتقر الى منهج البحث التاريخي الموضوعي النقدي. اما منهج المادية التاريخية الذي كان من المفترض ان يكون منهج الكاتب الماركسي لا نجد له اثراً، حيث غابت العقلية النقدية. وهذا النهج اللا تاريخي، اللا موضوعي، اللا ماركسي، هو نهجه في جميع كتبه التي اراد منها المقاربة بين الماركسية وبين الاسلام للإيحاء بان الماركسية ليست غريبة على المجتمعات الاسلامية. ولو وقفنا لنعقد مقارنة سريعة بينه وبين الشيخ المعمم الذي جاء من قلب المؤسسة الازهرية خليل عبد الكريم، سنجد بونا واسعا وشاسعا. فالشيخ خليل الذي قضى ما لا يقل عن ثلاثة عقود في كنف تنظيم الاخوان المسلمين، واتجه في الثلث الاخير من عمره نحو العقلانية والنور كتب اربعة عشر كتابا تنويريا بمنهج تاريخي نقدي تحليلي، استحضر فيه تأثير البيئة والاحوال الاقتصادية والاجتماعية في تشكيل الديانة الاسلامية التي هي منتوج الصحراء. اذن الفرق كبير بين الماركسي الذي ساهم في تغييب وتزييف الوعي وبين الإخواني الاسلامي السابق الذي ساهم في التنوير مساهمة كبيرة ممسكا بمبضعه لتشريح الاسلام برموزه ونصه المقدس. فلا غرو اذا كان الشرقاوي يوصف الآن لدى الاسلاميين والسلفيين بالكاتب الاسلامي، بينما يوصف خليل عبد الكريم ب (الزنديق) و(الكافر) و(الشيخ الاحمر). وربما يفاجئ البعض ان الماركسي عبد الرحمن الشرقاوي كتب كتابآ بنفس النسق التمجيدي عن (شيخ الاسلام) ابن تيمية بعنوان (ابن تيمية.. الشيخ المعذب) .." بفتح الذال "...فتأمل!.... فلو طلب من الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحسن البنا وابي الاعلاء المودودي وسيد قطب وبن لادن ان يكتبوا كتاباً عن (ابن تيمية) لما كتبوا افضل مما كتب عنه عبد الرحمن الشرقاوي تمجيدا له وتعظيما لتعاليمه وفتاويه، وكما هو معروف ان أُس منهج ابن تيمية يقوم على تغليب النقل على العقل اذا تعارضا، وذلك الى جانب دعاويه لإحياء فريضة الجهاد على الطريقة المحمدية ضد الكفار واعوانهم من المسلمين والمبدلين. فكتابات الشرقاوي الاسلامية تشي بكاتب اسلامي سلفي ضل طريقه الى الماركسية! ويسأل القاضي: ماذا كانت النتيجة بعد تلك العقود من محاولة تجيير التراث الاسلامي لصالح الماركسية؟ هل تم توطين الماركسية في المجتمعات الاسلامية؟ وهل وجدت فيها قبولا؟ وهل تمكنت الاحزاب الماركسية من ان تصبح قوة اجتماعية حقيقية لها حضورها ووزنها، أم أن ذلك كله كان ضرباً من حلب الثور؟!. فالماركسيون بدلا من ان يشرحوا ويبينوا للناس هذه الماركسية وفلسفتها وجدليتها انفقوا وقتهم في تلميع الاسلام وتصويره بأنه يتفق مع الماركسية، التي هي نتاج عصر الحداثة والانقلاب الصناعي. فالمسلم التقليدي مشحون اصلاً، بفعل نصوصه المقدسة، بالجهل والغرور العقائدي، ويعتبر ان الاسلام هو دين الله الذي جبَّ كل ما قبله، وانه دين الحرية والتسامح، وان نبيه هو اشرف الخلق، وان المسلمين هم افضل الامم طرآ، فكيف يكون الحال اذا جاء الماركسي وزاد من شحنه بالقول بان الدين الاسلامي هو دين الحرية والمساواة والانسانية والاشتراكية وان نبيه قائد ثورة تحررية كبرى وان ابا ذر هو امام الاشتراكيين؟. الا يزيد ذلك من غرور المسلم التقليدي وجهله ويجعله يقول: اذا كان الاسلام يحتوي على كل هذه القيم الانسانية والتحريرية والاشتراكية فما حاجة المسلمين الى الماركسية ؟! (3). هوامش * هو محمد السيد سلام الذي صار فيما بعد رئيساً لاتحاد نقابات عمال السودان، وكان حسب الرواية حديث عهد بالتنظيم الشيوعي (1) الدكتور عبد الله علي ابراهيم: " بروفسير أحمد خوجلي (2018): عن أربعينات نشأة حركة الطلبة واليسار"، موقع صحيفة سودانايل، بتاريخ: 20 آب/أغسطس 2018. (2) احمد القاضي، "توطين الماركسية بالخرافات الاسلامية"، موقع الحوار المتمدن، العدد: (3065)، بتاريخ 2010 / 7 / 16 (3) أحمد القاضي، سابق. (4) نفسه. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.