السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حول قضايا الإصلاح الاقتصادي: قضية التضخم النقدي وثقافة الانفلات المالي والنقدي .. بقلم: د. حسب الرسول عباس البشير
نشر في سودانيل يوم 22 - 10 - 2018

إستشاري مالي واقتصادي
أمدرمان – الدوحة
أبدأ هذه المقالة وبين يدي سلسلة زمنية لمعدل التضخم في السودان منذ العام 1960 وحتى 2017 مصدرها أحدى إصدارات البنك الدولي الإحصائية (سودان ميتاداتا 2017). وكذلك بين يدي قائمة الدول العشرين الأعلى من حيث معدل معدلات التضخم النقدي في العالم لعام 2017 والتي أصدرها الموقع الدولي ستاتيستا ( Statista: The statistical Portal: www.statista.com) . وقد تصدرت القائمة كما هو متوقع فنزويلا بمعدل تضخم بلغ حوالي 650% سنويا أما قائمة الدول العشر الأولى فكانت كما يلي:
1- فنزويلا 650%
2- جمهورية جنوب السودان 182
3- جمهورية الكنغو الديمقراطية 42
4- ليبيا 33
5- أنجولا 31
6- السودان 27
7- الارجنتين 27
8- مصر 24
9- سورينام 22
10- اليمن 20
و السودان هنا في الموقع السادس وتشارك معه، من الدول العربية، اليمن ومصر. هذا فضلا عن أن معدلات التضخم في السودان في الأعوام التي تلت العام 2017 ظلت تتصاعد حتى وصلت قرابة 70% بينما قدرتها بعض المصادر الخارجية بنسبة 150% وفقا للتقديرات المبنية على علاقة أسعار الصرف الرسمية والحرة.
ومن ناحية أخرى فقد قمت بأعداد الجدول التالي والذي يوضح تأريخ إنجازنا، وللدقة فانه يوضح تأريخ فشلنا، في الانضباط المالي والنقدي الذي كان من نتائجه عجزنا عن تحقيق معدلات تضخم ذات أرقام آحادية – تقل عن عشرة بالمائة- ألا نادرا.
البيان معدل الدين الحكومي متوسط معدل التضخم
1980 الى 1989 14.6% من الناتج المحلي 36.2% سنويا
1990 الى 1999 3.9% 80.4
2000 الى 2009 4.8 8.7
2010 الى 2017 9.8 25%
فمتوسط معدل التضخم خلال الفترة من 1960 والى تاريخه قد بلغ 28.3 بالمائة. وهذا يعني أننا أصبحنا حالة مستعصية ( أو كما يقال بالإنجليزية (Chronic case) من حالات إدمان التضخم مما يستدعي النظر الى الامر بما تستدعيه معالجة الحالات المرضية المستعصية. والامر لدي يحتاج الى همة ونفرة قومية تشملنا جميعا حاكمين محكومين لأن الضغوط السياسة العديدة التي نقوم بها كمواطنين لتوجيه موارد الدولة لمناطقنا وأشخاصنا لا شك قد ساهمت في مفاقمة قضية التضخم عبر السنين.
وقبل الدخول في تفاصيل قضية توطن "ثقافة التضخم" في اقتصاد دولة ما بعد الاستقلال عندنا، وقبول معدلات التضخم غير المقبولة من قبل المجموعة السياسية والمجتمع كله يمكننا ملاحظة أن متوسط التضخم خلال الفترة من 1960 وحتى 2017 قد قارب 30% بينما كانت الفترة الوحيدة خلال الفترات الأربعة الموضحة بالجدول أعلاه والتي تمكنا فيها من كبح معدل التضخم عند الأرقام الآحادية (single digits)هي الفترة من العام 2000 الى العام 2009، وحتى ذلك المعدل نفسه خلال تلك الفترة قد كان برقم أقرب الى الأرقام غير الآحادية (8.7%).
ولعل السبب الرئيسي في توطن وقبول معدلات التضخم العالية وما يمكن الاصطلاح على تسميته ( ثقافة التضخم ) يعود الى عدم التزام كافة الحكومات والمجموعات الحاكمة بفكرة أهمية دور الاستقرار الاقتصادي كشرط مسبق لتحقيق النمو والتنمية والعدالة الاجتماعية وتسيد النظرة قصيرة الأمد لقضايا التصحيح الاقتصادي وعدم وعي السياسيين، جمهورا وقادة، لإدراك خطورة التضخم وعدم ربط النتائج بالمقدمات والأسباب، حيث أنه وفي كل الأحوال فان السبب الرئيسي للتضخم هو الانفلات المالي في الانفاق الحكومي المؤدي الى الانفلات النقدي. وفي النهاية قبل الناس الامر كما القدر.
أدت هذه القدرية من الجمهور الى قبول سلوك الحكومات المنفلتة وأصبح الفشل في كبح التضخم لا يثير قلقا كبيرا حيث أن الجمهور تعود على المعدلات العالية من التضخم ولم يعرف غيرها إلا لماما. وعلى الرغم من العديد من المحاولات ( الخجولة والشكلية) لكبح جماح الضغوط المالية عبر السيطرة على عرض النقود تارة وعن طريق التشريع ولكن الامر في النهاية لم يشهد الا مزيدا من الانفلات. وأختفى من معيار نجاح الحكومات أو المجموعات أو وزراء المالية أو محافظي البنك المركزي مدى نجاحهم في السيطرة المالية والنقدية والانضباط. وأصبحت الحكومات تلقي بعجزها في هذا الامر علينا كشعب يستهلك أكثر مما ينتج، بينما العيب فيها هي وأصبحت كالتي تعظ الناس بما لا لم تفعل هي.
وتمثل فترة تولي المرحوم د. عبد الوهاب عثمان كرسي وزارة المالية والاقتصاد الوطني فترة تستحق التمعن فيها، فقد شهد له الجميع بالسعي لترسيخ ثقافة الانضباط المالي وبإيمانه بأهمية الدفاع عن قيمة هذا الانضباط حتى أن بعضهم قد عزى غيرته هذه كسبب دفعه لمغادرة كرسي الوزارة حين رأى ما يستدعي موقفه القوي ذاك على الرغم من النجاحات الواضحة التي حققها. فان قيادته للوزارة وبالرجوع الى إحصاءات التضخم للفترة من (1996 الى 2000) قد شهد تحسنا كبيرا في انخفاض التضخم حيث شهدت العشرية التي سبقت توليه للوزارة معدلات تضخم بلغت 70.6%. وفي العام 1996 تحديدا، وقد تولى الوزارة في ابريل منه حيث وصل معدل التضخم 133% ولكنه سرعان ما أنخفض الى %46.7 في 1997 ثم 17.1% في 1998 و16% في العام 1999 وهو العام الذي غادر فيه وزارة المالية . ومما يجدر الإشارة اليه ان الفترة التي تلت خروجه من الوزارة من يناير 2000 وحتى 2007، كانت قد شهدت تعاقب ثلاثة وزراء، قد شهدت استقرارا في معدلات التضخم حيث لم تتجاوز نسبة التضخم الأرقام الآحادية إلا في 2008 حيث بلغت %14.3. وربما كان لما أبداه المرحوم د. عبدالوهاب عثمان دوره في إرساء أسس مكنت من جاء بعده في الاهتداء بها والسير في طريق ما اختطه من سياسات وممارسات. وبالقطع فأن نجاح الوزير لا يجب أن يرد اليه بمفرده ولكن الدور القيادي للوزراء ورؤساء الوزارات والمؤسسات في نجاح التنفيذ لا يمكن إنكاره. والدكتور عبد الوهاب كان قد عرف عنه أنه رجل لم يكن يسعى الى الأضواء وكان أسبق الناس الى رد ما قد يكون قد تحقق من نجاح خلال فترة إستوزاره الى كل من ساهم معه من المجموعة الاقتصادية. وقد قصدنا من إبراز هذه النبذة أثبات أن الانضباط المالي أمر ممكن وليس مستحيلا غير أنه يتطلب وعيا بأهميته والتزاما صارما.
لا بد من التأكيد على أن التضخم كظاهرة اقتصادية هو " دائما وفي كل مكان ظاهرة نقدية" كما يقول ميلتون فريدمان ، عالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد أن العام 1976، تأكيدا للرابط الوثيق بين التضخم والانفلات النقدي، والذي ينتج بدوره من زيادة عرض النقود غير المبرر بمنطق من زيادة الإنتاج أو الارتفاع الطبيعي والمقبول في معدل التضخم. وبغض النظر عن قناعات واضعي السياسة النقدية عندنا في السودان بتنظير فريدمان أو غيرهم من المنظرين الكينزيين حول ظاهرة التضخم ومسبباتها فانهم في النهاية مسؤولين عن فهم العلاقات الاقتصادية والديناميات الثابتة والمتغيرة في الاقتصاد والتي تؤثر على معدلات التضخم.
ولا بد لنا عند النظر في تصميم إطر الهندسة الاقتصادية والتشريعية للعلاقة بين السلطة المالية والنقدية من وضع الأسس التي تجعل حوكمة السياسات النقدية بما يحقق الاستقرار النقدي أمرا حتميا علما بأن مراعاة ذلك أصبحت من الممارسات التي أنعقد عليها اجماع كوني. أما إذا أصبح البنك المركزي تابعا لوزارة المالية والممول التلقائي لتفلت لسياساتها المالية فإننا سنشهد انفلاتا نقديا دون كابح كما نرى حاليا في بلادنا. ولعل التجارب الكونية قد أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن ترك الحبل على القارب لوزراء المالية والمشرعين للتمادي في الانفاق الحكومي الممول بطباعة النقد قد أدى دائما وسيظل يؤدي الى تعميق ثقافة التضخم. وما تجربة زيمبابوي ببعيدة عن الاذهان حيث أدت تبعية السياسة النقدية للسياسات المالية الى التضخم المفرط (hyper-inflation)، حيث وصل معدل التضخم الى 79.6 مليون بالمائة في منتصف نوفمبر 2008 وقبيل انهيار العملة تماما، وهو مما أجبر الحكومة على إلغاء العملة الوطنية واستبدالها بالدولار الأمريكي والراند الجنوب افريقي ومما عنى إلغاء أهم مكونات السيادة الوطنية وفقدان السياسة النقدية، وقد ظل هذا الوضع قائما منذ 2009 وحتى تاريخه.
ومن مخاطر التضخم أنه يمثل ضريبة عامة على كافة السلع والخدمات ولكنها غير مشرعة أو معلنة، ولكن أثرها الأكبر والاعمق يكون على ذوي الدخل المحدود والثابت من موظفي الحكومة والقطاع الخاص وغيرهم ذوي الأجور التعاقدية على كافة المستويات مما يعمق أثر الفقر والافقار، حيث يعاني هؤلاء من انخفاض القيمة الحقيقية لأجورهم في الوقت الذي ترتفع فيه أسعار جميع السلع والخدمات.
ومن ناحية أخرى فان التضخم يؤدي الى دفع الناس لمزيد من الاستهلاك نسبة لأنه يؤدي الى تدني وتدهور القيمة الحقيقية للمدخرات والوفورات وبالتالي فهو يؤدي الى تشجيع الاستهلاك وقمع وتثبيط الحافز على الادخار. ولعلنا نلحظ أن الحكومة قد وعدت مؤخرا حاملي الأسهم الحكومية المزمع ادراجها لتمويل مشتريات الذهب المسماة "بريق" بعائد يفوق 30% سنويا، ولكن هل سيؤدي ذلك الى اقبال الناس على شراء هذه السندات؟؟ لا أظن ذلك ولن أكون بالطبع في موقف الناصح الأمين لمن يرغب في شراء مثل هذه السندات بشرائها، حيث أن العائد المالي " الحقيقي" لكل الاستثمارات مالية كانت أم عينية هو تعريفا يساوي (العائد الاسمي ناقصا معدل التضخم). والعائد "الإسمي" في هذه الحالة المقدر بحوالي %35 والذي يتوقع الحصول عليه سنويا عند شراء سندات "بريق" بينما أن معدل التضخم قد قارب 70% في أكتوبر 2018 وهو ما يعني أن العائد الحقيقي للاستثمار في هذه السندات هو سالب 35%. فكيف يمكن أن تحل هذه المعضلة؟؟؟. وهي في شكلها الاعم قضية موازنة حوافز الادخار مع نفقات تمويل الاستثمار.
إن الحل ولتشجيع الادخار وجذب موارد المجتمع والاستفادة منها في تمويل استثماراته المنتجة لا يمكن أن يكون بأن نقصر استثماراتنا على تلك التي يفوق عائدها الاسمي 70 أو 80% حتى يتمكن أصحاب الموارد الاستثمارية من تحصيل عائد حقيقي على تلك الاستثمارات، لان وجود مثل تلك الاستثمارات عالية العائد محدود جدا. كما أن ارتفاع العائد المطلوب من أصحاب الودائع يؤدي الى ارتفاع نفقات التمويل وبالتالي أنخفاض الاستثمار أو توقفه، و إنما يكمن الحل في أن تتمكن الحكومة من خفض معدلات التضخم، والذي يؤدي بدوره الى خفض العائد المطلوب من المدخرين من جهة وحفز المستثمرين من الجهة الاخرى. ويفيد هذا التحليل بأن عمليات الادخار والاستثمار وبالتالي النمو والتنمية لا مكان لهما في ظل الأجواء التضخمية المنفلتة كتلك التي نعاني منها حاليا. ولذلك فقد تعلمت معظم الدول النامية هذه الدروس بحيث صارت تحرص على الحفاظ على معدلات التضخم عند الرقم الآحادي التي لا تتجاوز 5% الا بقليل تفهما لهذا الأثر البالغ للتضخم على الادخار والاستثمار والانتاج، وصار الرقم الآحادي للتضخم من مؤشرات كفاءة الإدارة الاقتصادية، وصارت الدول تجد مكافآتها على نجاحها في خفض التضخم بمقدرتها في جذب الموارد المالية وتحقيق الاستقرار من المانحين والمستثمرين في داخل القطر وخارجه . وصار فشل الدولة في كبح الانفلات الانفاقي المالي المؤدي الى الانفلات النقدي من الدلائل الواضحة على عدم الجدية السياسية.
أما وقد حاولنا توثيق الانفلات التضخمي ومسبباته وآثاره على معدلات الادخار و الاستثمار والاستقرار وعدالة توزيع الدخل فلا مفر من أن تحاول الدولة الجادة في العودة الى طريق الإصلاح لمعالجة الامر. ومعالجة الامر تتطلب بداية النظر في كل مسببات المشكلة والتي هي في جوهرها بسبب الحكومة، بجسبانها الجهة الوحيدة التي يمكن أن تنفق غير ما تملك بإصدارها للنقد. أما بقية مكونات القطاع الخاص والمجتمع فأنها مقيدة بمحدودية مواردها ولا إمكانية لها للصرف خارج مواردها الا بالاقتراض، والاقتراض المسؤول، والذي يمكن أن تكون عواقب الفشل في خدمته دخول السجون.
وفي حال الاقتصاد غير النقدي القائم على مبدأ المقايضات والتبادل السلعي فان قضية التضخم النقدي تظل غير واردة، لذلك يقول فريدمان مقولته ألمشار اليها أعلاه أن التضخم في أي مكان وزمان ظاهرة نقدية.
وبافتراض ان الفهم العام لاستحالة النمو والتنمية في جو تضخمي أمر مستحيل وتوفر الرغبة الحقيقية في الإصلاح فان الامر يتطلب ببساطة من الحكومة أن تراعي الاتي:
- أولا: أن تلزم نفسها، وبصرامة، بالإنفاق في حدود مواردها الحقيقية التي تتمثل في الضرائب والتدفقات العائدة اليها من استثماراتها في مجالات البترول والتعدين وأي استثمارات أخرى وذلك على الرغم من سهولة الصرف بما يفوق الموارد بل وجاذبيته إذا لم يعي الناس العواقب.
- ثانيا: أن تفهم الحكومة أن التمويل بالاقتراض أيضا تمويل من موارد لا تملكها الدولة في الحال وانها لا بد أن تعلم أن التمويل بالاقتراض في نهاية الامر لا بد أن يدفع من موارد حقيقية يجب توفرها ساعة السداد او بتدوير الدين والقاء العبء على استهلاك الغد، أي اننا الاقتراض خاصة طويل الأمد قد نستهلك على حساب الأجيال القادمة. ويجب مراعاة أن للدين نفقات إضافية هي نفقات استكتاب سنداته ونفقات الطرح الإدارية وخدمة الدين نفسها.
- ثالثا: ويجب كذلك التنبه الى أثر الدين الحكومي في إزاحة القطاع الخاص وحرمانه من موارد الادخار المتاحة له وتفادي الاقتراض لتمويل الاستهلاك ما أمكن ذلك.
- رابعا: ولكي تلزم الحكومة نفسها بتحقيق الاستقرار في معدلات التضخم والذي لا يمكن تحقيق اقصى معدلات النمو الاقتصادي الا بعد توفيره ينبغي مراعاة الآثار السلبية للانفاق الحكومي وسبل تمويل هذا الانفاق على المؤشرات النقدية وعدم اغماض العين واهمال الاثار السلبية للعجوزات المالية الممولة نقديا وهو أمر يتطلب جهدا من المشرعين ومن التنفيذيين بل من كافة طبقات المجتمع، وتنسيقا بين السلطتين المالية والنقدية.
- خامسا: يجب أن تعي الحكومة أن المقياس الحقيقي لالتزامها بالاستقرار المالي والنقدي يتطلب منها أن تضع الأهداف المعقولة للانفاق العام ومعدلات التضخم المترتبة على ذلك وتلتزم بها وتكون مستعدة للمساءلة والتنحي في حال فشلها.
- ملاحظة أخيرة وهي تتعلق بالنظام المصرفي وأثر سياسات التضخم عليه. ففي ظل ارتفاع التضخم يتجه معظم المتعاملين الى تقليل الأرصدة النقدية الموجودة في محافظ ثرواتهم ( خاصة أذا كان العائد الاسمي منها رقما كبيرا سالبا كما هو الحال في السودان) والاتجاه لتخزين النقد في كل ما من شأنه أن يحفظ ثرواتهم من التآكل مثل المعادن والعقارات والسلع التي لا يحتاجونها إلا لغرض الحفاظ على قيمة مدخراتهم. ويؤدي مثل هذا السلوك الطبيعي من المتعاملين وأصحاب الأموال الى تشوهات تتمثل في التوظيف غير المنتج للمدخرات، وهو أمر ظللنا نعاني منه دون أن نتخذ من الإجراءات الكفيلة بعلاجه وذلك بسبب تفشي ثقافة التضخم النقدي. وقد أدت الإجراءات الأخيرة الخاصة بعجز المصارف من تمكين مودعيها والمتعاملين الاستفادة من ارصدتهم النقدية الى مفاقمة ظاهرة التوظيف غير المنتج للمدخرات.
- أدي كل ما جاء أعلاه الى تسرب وهروب المودعين من المصارف وفقدان ثقتهم فيها وأحدث ما يعرف في أدبيات التمويل بالوساطة السالبة disintermediation والتي تتمثل في انهيار دور المصارف كمؤسسات للوساطة المالية بين المدخرين والمستثمرين. ولا يمكن حل هذه المشكلة الا اذا ابتدعنا من الحوافز الكفيلة بجذب المتعاملين الى العودة الى المصارف وإعادة تقتهم فيها وتنمية الوساطة المالية، علما بأن تعميق الوساطة المالية وتطوير نظمها الرسمية وشبه الرسمية هو رأسمال مجتمعي تم اكتسابه عبر سنين طويلة من المثابرة واكتساب الثقة ، ولكننا أحدثنا فيه دون دراية رتقا نأمل أن نتمكن من معالجته. ولا ننسى أن عملية الائتمان، التي هي من ركائز وعصب الازدهار الاقتصادي، تعتمد في نهاية الامر على تدفق موارد المدخرات للمصارف والتي تعتمد على توفر الثقة فيها. فكيف ستتمكن هذه المصارف من إدارة الائتمان اذا عزف الناس عنها؟ . إن الاقتصاد السوداني ظل يعاني من ظاهرة وجود موارد مالية وعينية ضخمة من المدخرات خارج النظام المصرفي الرسمي داخل وخارج البلاد، وهذا من المظاهر السالبة لأن المدخرات التي لا تجد سبيلها الى مؤسسات الاستثمار ومن ثم لا تجد سبيلها الى المستثمرين وتظل خارج الدورة الإنتاجية لا تؤدي دورها المطلوب في النمو والتنمية. وسنعود لهذه القضية في مساهماتنا المستقبلية "حول قضايا الإصلاح الاقتصادي" مستقبلا.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
//////////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.