مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    أفضل أصدقائي هم من العرب" :عالم الزلازل الهولندي يفاجئ متابعيه بتغريدة    توخيل: غدروا بالبايرن.. والحكم الكارثي اعتذر    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    تكريم مدير الجمارك السابق بالقضارف – صورة    أليس غريباً أن تجتمع كل هذه الكيانات في عاصمة أجنبية بعيداً عن مركز الوجع؟!    مكي المغربي: أفهم يا إبن الجزيرة العاق!    الطالباب.. رباك سلام...القرية دفعت ثمن حادثة لم تكن طرفاً فيها..!    بأشد عبارات الإدانة !    موريانيا خطوة مهمة في الطريق إلى المونديال،،    ضمن معسكره الاعدادي بالاسماعيلية..المريخ يكسب البلدية وفايد ودياً    السودان.. مجلسا السيادة والوزراء يجيزان قانون جهاز المخابرات العامة المعدل    ثنائية البديل خوسيلو تحرق بايرن ميونيخ وتعبر بريال مدريد لنهائي الأبطال    ريال مدريد يعبر لنهائي الابطال على حساب بايرن بثنائية رهيبة    ضياء الدين بلال يكتب: نصيحة.. لحميدتي (التاجر)00!    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل مصري حضره المئات.. شباب مصريون يرددون أغنية الفنان السوداني الراحل خوجلي عثمان والجمهور السوداني يشيد: (كلنا نتفق انكم غنيتوها بطريقة حلوة)    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    شاهد بالفيديو.. القيادية في الحرية والتغيير حنان حسن: (حصلت لي حاجات سمحة..أولاد قابلوني في أحد شوارع القاهرة وصوروني من وراء.. وانا قلت ليهم تعالوا صوروني من قدام عشان تحسوا بالانجاز)    شاهد بالصورة.. شاعر سوداني شاب يضع نفسه في "سيلفي" مع المذيعة الحسناء ريان الظاهر باستخدام "الفوتشوب" ويعرض نفسه لسخرية الجمهور    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    الخليفي يهاجم صحفيا بسبب إنريكي    أمير الكويت يعزى رئيس مجلس السياده فى وفاة نجله    كرتنا السودانية بين الأمس واليوم)    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حول قضايا الإصلاح الاقتصادي: قضية التضخم النقدي وثقافة الانفلات المالي والنقدي .. بقلم: د. حسب الرسول عباس البشير
نشر في سودانيل يوم 22 - 10 - 2018

إستشاري مالي واقتصادي
أمدرمان – الدوحة
أبدأ هذه المقالة وبين يدي سلسلة زمنية لمعدل التضخم في السودان منذ العام 1960 وحتى 2017 مصدرها أحدى إصدارات البنك الدولي الإحصائية (سودان ميتاداتا 2017). وكذلك بين يدي قائمة الدول العشرين الأعلى من حيث معدل معدلات التضخم النقدي في العالم لعام 2017 والتي أصدرها الموقع الدولي ستاتيستا ( Statista: The statistical Portal: www.statista.com) . وقد تصدرت القائمة كما هو متوقع فنزويلا بمعدل تضخم بلغ حوالي 650% سنويا أما قائمة الدول العشر الأولى فكانت كما يلي:
1- فنزويلا 650%
2- جمهورية جنوب السودان 182
3- جمهورية الكنغو الديمقراطية 42
4- ليبيا 33
5- أنجولا 31
6- السودان 27
7- الارجنتين 27
8- مصر 24
9- سورينام 22
10- اليمن 20
و السودان هنا في الموقع السادس وتشارك معه، من الدول العربية، اليمن ومصر. هذا فضلا عن أن معدلات التضخم في السودان في الأعوام التي تلت العام 2017 ظلت تتصاعد حتى وصلت قرابة 70% بينما قدرتها بعض المصادر الخارجية بنسبة 150% وفقا للتقديرات المبنية على علاقة أسعار الصرف الرسمية والحرة.
ومن ناحية أخرى فقد قمت بأعداد الجدول التالي والذي يوضح تأريخ إنجازنا، وللدقة فانه يوضح تأريخ فشلنا، في الانضباط المالي والنقدي الذي كان من نتائجه عجزنا عن تحقيق معدلات تضخم ذات أرقام آحادية – تقل عن عشرة بالمائة- ألا نادرا.
البيان معدل الدين الحكومي متوسط معدل التضخم
1980 الى 1989 14.6% من الناتج المحلي 36.2% سنويا
1990 الى 1999 3.9% 80.4
2000 الى 2009 4.8 8.7
2010 الى 2017 9.8 25%
فمتوسط معدل التضخم خلال الفترة من 1960 والى تاريخه قد بلغ 28.3 بالمائة. وهذا يعني أننا أصبحنا حالة مستعصية ( أو كما يقال بالإنجليزية (Chronic case) من حالات إدمان التضخم مما يستدعي النظر الى الامر بما تستدعيه معالجة الحالات المرضية المستعصية. والامر لدي يحتاج الى همة ونفرة قومية تشملنا جميعا حاكمين محكومين لأن الضغوط السياسة العديدة التي نقوم بها كمواطنين لتوجيه موارد الدولة لمناطقنا وأشخاصنا لا شك قد ساهمت في مفاقمة قضية التضخم عبر السنين.
وقبل الدخول في تفاصيل قضية توطن "ثقافة التضخم" في اقتصاد دولة ما بعد الاستقلال عندنا، وقبول معدلات التضخم غير المقبولة من قبل المجموعة السياسية والمجتمع كله يمكننا ملاحظة أن متوسط التضخم خلال الفترة من 1960 وحتى 2017 قد قارب 30% بينما كانت الفترة الوحيدة خلال الفترات الأربعة الموضحة بالجدول أعلاه والتي تمكنا فيها من كبح معدل التضخم عند الأرقام الآحادية (single digits)هي الفترة من العام 2000 الى العام 2009، وحتى ذلك المعدل نفسه خلال تلك الفترة قد كان برقم أقرب الى الأرقام غير الآحادية (8.7%).
ولعل السبب الرئيسي في توطن وقبول معدلات التضخم العالية وما يمكن الاصطلاح على تسميته ( ثقافة التضخم ) يعود الى عدم التزام كافة الحكومات والمجموعات الحاكمة بفكرة أهمية دور الاستقرار الاقتصادي كشرط مسبق لتحقيق النمو والتنمية والعدالة الاجتماعية وتسيد النظرة قصيرة الأمد لقضايا التصحيح الاقتصادي وعدم وعي السياسيين، جمهورا وقادة، لإدراك خطورة التضخم وعدم ربط النتائج بالمقدمات والأسباب، حيث أنه وفي كل الأحوال فان السبب الرئيسي للتضخم هو الانفلات المالي في الانفاق الحكومي المؤدي الى الانفلات النقدي. وفي النهاية قبل الناس الامر كما القدر.
أدت هذه القدرية من الجمهور الى قبول سلوك الحكومات المنفلتة وأصبح الفشل في كبح التضخم لا يثير قلقا كبيرا حيث أن الجمهور تعود على المعدلات العالية من التضخم ولم يعرف غيرها إلا لماما. وعلى الرغم من العديد من المحاولات ( الخجولة والشكلية) لكبح جماح الضغوط المالية عبر السيطرة على عرض النقود تارة وعن طريق التشريع ولكن الامر في النهاية لم يشهد الا مزيدا من الانفلات. وأختفى من معيار نجاح الحكومات أو المجموعات أو وزراء المالية أو محافظي البنك المركزي مدى نجاحهم في السيطرة المالية والنقدية والانضباط. وأصبحت الحكومات تلقي بعجزها في هذا الامر علينا كشعب يستهلك أكثر مما ينتج، بينما العيب فيها هي وأصبحت كالتي تعظ الناس بما لا لم تفعل هي.
وتمثل فترة تولي المرحوم د. عبد الوهاب عثمان كرسي وزارة المالية والاقتصاد الوطني فترة تستحق التمعن فيها، فقد شهد له الجميع بالسعي لترسيخ ثقافة الانضباط المالي وبإيمانه بأهمية الدفاع عن قيمة هذا الانضباط حتى أن بعضهم قد عزى غيرته هذه كسبب دفعه لمغادرة كرسي الوزارة حين رأى ما يستدعي موقفه القوي ذاك على الرغم من النجاحات الواضحة التي حققها. فان قيادته للوزارة وبالرجوع الى إحصاءات التضخم للفترة من (1996 الى 2000) قد شهد تحسنا كبيرا في انخفاض التضخم حيث شهدت العشرية التي سبقت توليه للوزارة معدلات تضخم بلغت 70.6%. وفي العام 1996 تحديدا، وقد تولى الوزارة في ابريل منه حيث وصل معدل التضخم 133% ولكنه سرعان ما أنخفض الى %46.7 في 1997 ثم 17.1% في 1998 و16% في العام 1999 وهو العام الذي غادر فيه وزارة المالية . ومما يجدر الإشارة اليه ان الفترة التي تلت خروجه من الوزارة من يناير 2000 وحتى 2007، كانت قد شهدت تعاقب ثلاثة وزراء، قد شهدت استقرارا في معدلات التضخم حيث لم تتجاوز نسبة التضخم الأرقام الآحادية إلا في 2008 حيث بلغت %14.3. وربما كان لما أبداه المرحوم د. عبدالوهاب عثمان دوره في إرساء أسس مكنت من جاء بعده في الاهتداء بها والسير في طريق ما اختطه من سياسات وممارسات. وبالقطع فأن نجاح الوزير لا يجب أن يرد اليه بمفرده ولكن الدور القيادي للوزراء ورؤساء الوزارات والمؤسسات في نجاح التنفيذ لا يمكن إنكاره. والدكتور عبد الوهاب كان قد عرف عنه أنه رجل لم يكن يسعى الى الأضواء وكان أسبق الناس الى رد ما قد يكون قد تحقق من نجاح خلال فترة إستوزاره الى كل من ساهم معه من المجموعة الاقتصادية. وقد قصدنا من إبراز هذه النبذة أثبات أن الانضباط المالي أمر ممكن وليس مستحيلا غير أنه يتطلب وعيا بأهميته والتزاما صارما.
لا بد من التأكيد على أن التضخم كظاهرة اقتصادية هو " دائما وفي كل مكان ظاهرة نقدية" كما يقول ميلتون فريدمان ، عالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد أن العام 1976، تأكيدا للرابط الوثيق بين التضخم والانفلات النقدي، والذي ينتج بدوره من زيادة عرض النقود غير المبرر بمنطق من زيادة الإنتاج أو الارتفاع الطبيعي والمقبول في معدل التضخم. وبغض النظر عن قناعات واضعي السياسة النقدية عندنا في السودان بتنظير فريدمان أو غيرهم من المنظرين الكينزيين حول ظاهرة التضخم ومسبباتها فانهم في النهاية مسؤولين عن فهم العلاقات الاقتصادية والديناميات الثابتة والمتغيرة في الاقتصاد والتي تؤثر على معدلات التضخم.
ولا بد لنا عند النظر في تصميم إطر الهندسة الاقتصادية والتشريعية للعلاقة بين السلطة المالية والنقدية من وضع الأسس التي تجعل حوكمة السياسات النقدية بما يحقق الاستقرار النقدي أمرا حتميا علما بأن مراعاة ذلك أصبحت من الممارسات التي أنعقد عليها اجماع كوني. أما إذا أصبح البنك المركزي تابعا لوزارة المالية والممول التلقائي لتفلت لسياساتها المالية فإننا سنشهد انفلاتا نقديا دون كابح كما نرى حاليا في بلادنا. ولعل التجارب الكونية قد أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن ترك الحبل على القارب لوزراء المالية والمشرعين للتمادي في الانفاق الحكومي الممول بطباعة النقد قد أدى دائما وسيظل يؤدي الى تعميق ثقافة التضخم. وما تجربة زيمبابوي ببعيدة عن الاذهان حيث أدت تبعية السياسة النقدية للسياسات المالية الى التضخم المفرط (hyper-inflation)، حيث وصل معدل التضخم الى 79.6 مليون بالمائة في منتصف نوفمبر 2008 وقبيل انهيار العملة تماما، وهو مما أجبر الحكومة على إلغاء العملة الوطنية واستبدالها بالدولار الأمريكي والراند الجنوب افريقي ومما عنى إلغاء أهم مكونات السيادة الوطنية وفقدان السياسة النقدية، وقد ظل هذا الوضع قائما منذ 2009 وحتى تاريخه.
ومن مخاطر التضخم أنه يمثل ضريبة عامة على كافة السلع والخدمات ولكنها غير مشرعة أو معلنة، ولكن أثرها الأكبر والاعمق يكون على ذوي الدخل المحدود والثابت من موظفي الحكومة والقطاع الخاص وغيرهم ذوي الأجور التعاقدية على كافة المستويات مما يعمق أثر الفقر والافقار، حيث يعاني هؤلاء من انخفاض القيمة الحقيقية لأجورهم في الوقت الذي ترتفع فيه أسعار جميع السلع والخدمات.
ومن ناحية أخرى فان التضخم يؤدي الى دفع الناس لمزيد من الاستهلاك نسبة لأنه يؤدي الى تدني وتدهور القيمة الحقيقية للمدخرات والوفورات وبالتالي فهو يؤدي الى تشجيع الاستهلاك وقمع وتثبيط الحافز على الادخار. ولعلنا نلحظ أن الحكومة قد وعدت مؤخرا حاملي الأسهم الحكومية المزمع ادراجها لتمويل مشتريات الذهب المسماة "بريق" بعائد يفوق 30% سنويا، ولكن هل سيؤدي ذلك الى اقبال الناس على شراء هذه السندات؟؟ لا أظن ذلك ولن أكون بالطبع في موقف الناصح الأمين لمن يرغب في شراء مثل هذه السندات بشرائها، حيث أن العائد المالي " الحقيقي" لكل الاستثمارات مالية كانت أم عينية هو تعريفا يساوي (العائد الاسمي ناقصا معدل التضخم). والعائد "الإسمي" في هذه الحالة المقدر بحوالي %35 والذي يتوقع الحصول عليه سنويا عند شراء سندات "بريق" بينما أن معدل التضخم قد قارب 70% في أكتوبر 2018 وهو ما يعني أن العائد الحقيقي للاستثمار في هذه السندات هو سالب 35%. فكيف يمكن أن تحل هذه المعضلة؟؟؟. وهي في شكلها الاعم قضية موازنة حوافز الادخار مع نفقات تمويل الاستثمار.
إن الحل ولتشجيع الادخار وجذب موارد المجتمع والاستفادة منها في تمويل استثماراته المنتجة لا يمكن أن يكون بأن نقصر استثماراتنا على تلك التي يفوق عائدها الاسمي 70 أو 80% حتى يتمكن أصحاب الموارد الاستثمارية من تحصيل عائد حقيقي على تلك الاستثمارات، لان وجود مثل تلك الاستثمارات عالية العائد محدود جدا. كما أن ارتفاع العائد المطلوب من أصحاب الودائع يؤدي الى ارتفاع نفقات التمويل وبالتالي أنخفاض الاستثمار أو توقفه، و إنما يكمن الحل في أن تتمكن الحكومة من خفض معدلات التضخم، والذي يؤدي بدوره الى خفض العائد المطلوب من المدخرين من جهة وحفز المستثمرين من الجهة الاخرى. ويفيد هذا التحليل بأن عمليات الادخار والاستثمار وبالتالي النمو والتنمية لا مكان لهما في ظل الأجواء التضخمية المنفلتة كتلك التي نعاني منها حاليا. ولذلك فقد تعلمت معظم الدول النامية هذه الدروس بحيث صارت تحرص على الحفاظ على معدلات التضخم عند الرقم الآحادي التي لا تتجاوز 5% الا بقليل تفهما لهذا الأثر البالغ للتضخم على الادخار والاستثمار والانتاج، وصار الرقم الآحادي للتضخم من مؤشرات كفاءة الإدارة الاقتصادية، وصارت الدول تجد مكافآتها على نجاحها في خفض التضخم بمقدرتها في جذب الموارد المالية وتحقيق الاستقرار من المانحين والمستثمرين في داخل القطر وخارجه . وصار فشل الدولة في كبح الانفلات الانفاقي المالي المؤدي الى الانفلات النقدي من الدلائل الواضحة على عدم الجدية السياسية.
أما وقد حاولنا توثيق الانفلات التضخمي ومسبباته وآثاره على معدلات الادخار و الاستثمار والاستقرار وعدالة توزيع الدخل فلا مفر من أن تحاول الدولة الجادة في العودة الى طريق الإصلاح لمعالجة الامر. ومعالجة الامر تتطلب بداية النظر في كل مسببات المشكلة والتي هي في جوهرها بسبب الحكومة، بجسبانها الجهة الوحيدة التي يمكن أن تنفق غير ما تملك بإصدارها للنقد. أما بقية مكونات القطاع الخاص والمجتمع فأنها مقيدة بمحدودية مواردها ولا إمكانية لها للصرف خارج مواردها الا بالاقتراض، والاقتراض المسؤول، والذي يمكن أن تكون عواقب الفشل في خدمته دخول السجون.
وفي حال الاقتصاد غير النقدي القائم على مبدأ المقايضات والتبادل السلعي فان قضية التضخم النقدي تظل غير واردة، لذلك يقول فريدمان مقولته ألمشار اليها أعلاه أن التضخم في أي مكان وزمان ظاهرة نقدية.
وبافتراض ان الفهم العام لاستحالة النمو والتنمية في جو تضخمي أمر مستحيل وتوفر الرغبة الحقيقية في الإصلاح فان الامر يتطلب ببساطة من الحكومة أن تراعي الاتي:
- أولا: أن تلزم نفسها، وبصرامة، بالإنفاق في حدود مواردها الحقيقية التي تتمثل في الضرائب والتدفقات العائدة اليها من استثماراتها في مجالات البترول والتعدين وأي استثمارات أخرى وذلك على الرغم من سهولة الصرف بما يفوق الموارد بل وجاذبيته إذا لم يعي الناس العواقب.
- ثانيا: أن تفهم الحكومة أن التمويل بالاقتراض أيضا تمويل من موارد لا تملكها الدولة في الحال وانها لا بد أن تعلم أن التمويل بالاقتراض في نهاية الامر لا بد أن يدفع من موارد حقيقية يجب توفرها ساعة السداد او بتدوير الدين والقاء العبء على استهلاك الغد، أي اننا الاقتراض خاصة طويل الأمد قد نستهلك على حساب الأجيال القادمة. ويجب مراعاة أن للدين نفقات إضافية هي نفقات استكتاب سنداته ونفقات الطرح الإدارية وخدمة الدين نفسها.
- ثالثا: ويجب كذلك التنبه الى أثر الدين الحكومي في إزاحة القطاع الخاص وحرمانه من موارد الادخار المتاحة له وتفادي الاقتراض لتمويل الاستهلاك ما أمكن ذلك.
- رابعا: ولكي تلزم الحكومة نفسها بتحقيق الاستقرار في معدلات التضخم والذي لا يمكن تحقيق اقصى معدلات النمو الاقتصادي الا بعد توفيره ينبغي مراعاة الآثار السلبية للانفاق الحكومي وسبل تمويل هذا الانفاق على المؤشرات النقدية وعدم اغماض العين واهمال الاثار السلبية للعجوزات المالية الممولة نقديا وهو أمر يتطلب جهدا من المشرعين ومن التنفيذيين بل من كافة طبقات المجتمع، وتنسيقا بين السلطتين المالية والنقدية.
- خامسا: يجب أن تعي الحكومة أن المقياس الحقيقي لالتزامها بالاستقرار المالي والنقدي يتطلب منها أن تضع الأهداف المعقولة للانفاق العام ومعدلات التضخم المترتبة على ذلك وتلتزم بها وتكون مستعدة للمساءلة والتنحي في حال فشلها.
- ملاحظة أخيرة وهي تتعلق بالنظام المصرفي وأثر سياسات التضخم عليه. ففي ظل ارتفاع التضخم يتجه معظم المتعاملين الى تقليل الأرصدة النقدية الموجودة في محافظ ثرواتهم ( خاصة أذا كان العائد الاسمي منها رقما كبيرا سالبا كما هو الحال في السودان) والاتجاه لتخزين النقد في كل ما من شأنه أن يحفظ ثرواتهم من التآكل مثل المعادن والعقارات والسلع التي لا يحتاجونها إلا لغرض الحفاظ على قيمة مدخراتهم. ويؤدي مثل هذا السلوك الطبيعي من المتعاملين وأصحاب الأموال الى تشوهات تتمثل في التوظيف غير المنتج للمدخرات، وهو أمر ظللنا نعاني منه دون أن نتخذ من الإجراءات الكفيلة بعلاجه وذلك بسبب تفشي ثقافة التضخم النقدي. وقد أدت الإجراءات الأخيرة الخاصة بعجز المصارف من تمكين مودعيها والمتعاملين الاستفادة من ارصدتهم النقدية الى مفاقمة ظاهرة التوظيف غير المنتج للمدخرات.
- أدي كل ما جاء أعلاه الى تسرب وهروب المودعين من المصارف وفقدان ثقتهم فيها وأحدث ما يعرف في أدبيات التمويل بالوساطة السالبة disintermediation والتي تتمثل في انهيار دور المصارف كمؤسسات للوساطة المالية بين المدخرين والمستثمرين. ولا يمكن حل هذه المشكلة الا اذا ابتدعنا من الحوافز الكفيلة بجذب المتعاملين الى العودة الى المصارف وإعادة تقتهم فيها وتنمية الوساطة المالية، علما بأن تعميق الوساطة المالية وتطوير نظمها الرسمية وشبه الرسمية هو رأسمال مجتمعي تم اكتسابه عبر سنين طويلة من المثابرة واكتساب الثقة ، ولكننا أحدثنا فيه دون دراية رتقا نأمل أن نتمكن من معالجته. ولا ننسى أن عملية الائتمان، التي هي من ركائز وعصب الازدهار الاقتصادي، تعتمد في نهاية الامر على تدفق موارد المدخرات للمصارف والتي تعتمد على توفر الثقة فيها. فكيف ستتمكن هذه المصارف من إدارة الائتمان اذا عزف الناس عنها؟ . إن الاقتصاد السوداني ظل يعاني من ظاهرة وجود موارد مالية وعينية ضخمة من المدخرات خارج النظام المصرفي الرسمي داخل وخارج البلاد، وهذا من المظاهر السالبة لأن المدخرات التي لا تجد سبيلها الى مؤسسات الاستثمار ومن ثم لا تجد سبيلها الى المستثمرين وتظل خارج الدورة الإنتاجية لا تؤدي دورها المطلوب في النمو والتنمية. وسنعود لهذه القضية في مساهماتنا المستقبلية "حول قضايا الإصلاح الاقتصادي" مستقبلا.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
//////////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.