إبراهيم جابر يطمئن على موقف الإمداد الدوائى بالبلاد    قبائل وأحزاب سياسية خسرت بإتباع مشروع آل دقلو    النصر الشعديناب يعيد قيد أبرز نجومه ويدعم صفوفه استعداداً للموسم الجديد بالدامر    المريخ يواجه البوليس الرواندي وديا    ريجي كامب وتهئية العوامل النفسية والمعنوية لمعركة الجاموس…    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    فاجعة في السودان    ما حقيقة وصول الميليشيا محيط القيادة العامة بالفاشر؟..مصدر عسكري يوضّح    "المصباح" يكشف عن تطوّر مثير بشأن قيادات الميليشيا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخارجية: رئيس الوزراء يعود للبلاد بعد تجاوز وعكة صحية خلال زيارته للسعودية    الأمر لا يتعلق بالإسلاميين أو الشيوعيين أو غيرهم    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية تنفجر غضباً من تحسس النساء لرأسها أثناء إحيائها حفل غنائي: (دي باروكة دا ما شعري)    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    إحباط محاولة تهريب وقود ومواد تموينية إلى مناطق سيطرة الدعم السريع    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين يدي التغيير في السودان: (الدين/الدولة) – البحث عن تسوية!! .. بقلم: غسان علي عثمان
نشر في سودانيل يوم 18 - 04 - 2019

المفقود في سجالاتنا السياسية معنى واحد وأصيل، وهو تقعيد الحرية؛ بأشكالها كافة، وعدم تحديد دقيق لماهيتها..
الصراع السياسي في السودان منذ الستينيات هو صراع بين الدين والدولة..
يتمتع العقل السياسي السوداني بخاصية إنكار المسئولية عن مآلات الواقع وتفضيل السكون...
ما يعانيه مجتمعنا السياسي هو النقص الحاد في قيم الحوار، والتسامح، والاختلاف، والاعتراف المتبادل، والمصلحة المشتركة، والانفتاح، والتنافس الشريف، وإيثار الواجب..

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
في البحث عن الحكيم:
- في محاورة من محاوراته المفقودة والتي ينسبها البعض لفترة شبابه يحدثنا أرسطو (384 ق.م – 322 ق. م) عن دور العقلانية في بناء الحضارة، ودور البشر "الجدد" في اكتشاف وسائل للعيش تجمع شمل الناس، يقول: "لقد كان على هؤلاء البشر الجدد أن يعيدوا بناء الحضارة، فكان عليهم أن يكتشفوا من جديد الوسائل والطرق الضرورية للعيش، وأن يخترعوا مرة أخرى الفنون والصناعات التي تجعل الحياة ميسورة ومحبوبة، كما كان عليهم ثالثاً: أن يتجهوا بأنظارهم إلى نظام (المدينة) ليسنوا القوانين وينظموا الروابط لجمع شمل الناس فيها وضم أجزائها بعضها إلى بعض، وهذه العملية – عملية سن القوانين وجمع الشمل – هي التي سموها : الحكمة. ومن هذه الحكمة كان "الحكماء السبعة" الذي حددوا الفضائل التي بالاتصاف بها يكون الشخص مواطناً.(1).
- (إن كلّ معرفة علمية هي جواب عن سؤال، فإذا لم يكن هناك سؤال فلا وجود لمعرفة علمية) – غاستون باشلار..
هذه ورقة شاركت بها في ملتقى يبحث العلاقة بين الدين والدولة في فبراير 2017م، وقد نشرت من مجلة (الحداثة)، وإذ نعيد نشرها الآن وفي ظل الأوضاع التي تعيشها بلادنا فالسبب بأن العودة إلى هذه القضية نراها مُلحة وإن كانت تجلياتها لا تظهر بالشكل الواضح الآن، لكن نعتقد بأن خلاصة الأزمة السياسية تتعلق بهذه العلاقة الحرجة بين الدين والدولة، وسيكون (ديربي) الصراع السياسي في مقبل أيامنا..
"يخرج من كيد كل ظاهرة اجتماعية ضلت طريقتها واستعانت بالنخبة حد الشبع؛ تخرج طبقات جديدة تظل متخفية باستمتاع ومعلنة رفضها السلمي لكل أشكال التطبيع من رموز الظاهرة وآلياتها، في ذلك فإن المجتمعات المشحونة بالمنع واللاممكن والعيب وفنونه، تتشقق عنها أجيال جديدة، وأفكار حادة ولكن في صمت".
"المغيبون عند النخب: ميلادات جديدة لشوارع في العتمة"- من مقالنا 2014م.
مرة أخرى ضد الثنائية:
والحديث عن تسوية لا يراد به القفز على المسألة إذ بات من غير الممكن تجاوز قضية الدين والدولة في سياق الحديث عن التشريع والقانون، وأن ما نعيشه يحتم النظر إلى مسألة الديني والمدني بشكل استيثاقي، فالذي يسعى إليه كل باحث لتلافي التجليات السالبة لعرض المسألة هكذا دون تحيز لطرف هو الوقوف خارج هيمنة المصطلح، وجبرية الجماعة السياسية. وما ننتوي الإشارة إليه في هذه الورقة التي عنونت عن قصد (البحث..تسوية) ظناً بإمكانية تأسيس المسألة، ونشير إلى الزوج (دين/دولة) بالمسألة عن عمد، لأنها قضية يمكن البرهنة عليها، كما أن سعينا يتصل بطرح السؤال، أكثر من تصدير الإجابة قولاً واحداً..
ولذا تأتي هذه الورقة تروم إفساح المجال أكثر لصالح السؤال.
حول الظاهرة الاجتماعية السودانية:
يكثر الحديث حول فشل تمتيع التعددية الثقافية في السودان هو ما جلب إليه مآسي اجتماعية واقتصادية، وهذا أمر بدوره خاضع للتأويل، أما ما نحتاجه فعلاً هو فهم الاجتماع السوداني، والذي بواسطته سنخفف أكثر من حدة الفعل السياسي لصالح معنى جدير بالحرية. وسؤال التسوية بين متناقضين، نقصد به أن ما نسميه بالديني والمدني يعبران عن ثنائية لا تنتجان إلا الصراع، فما يحكم العقل السياسي السوداني هو المنطق الثنائي، فصاحبه لا يحقق ذاته إلا من خلال نفي الآخر، ويمكن ممارسة النفي في المنطق ثنائي القيم بشكل لافت ومريح. وبخصوص مسألة الدين والدولة فالطرفان (من ينادي بتأسيس عرى الدولة على منهج ديني- والعكس) يرتكبان خطأً مزدوجاً، وذلك عبر الإدعاء بأن الطريق إلى دولة العدل والقيم المتساوية والحرية، لا يبدأ إلا عبر حل هذا التنازع بين الديني والمدني، وفي ذلك تغبيش، إن لم يكن تجاوز غير مبرر لحقيقة أن مسألة التعارض المزعوم بينهما لا تعبر سوى عن أطراف عليا من المشكلة، وحقوق طبعها خالصة للنخبة، فالطرفان مطالبان بإقامة دليل يقابل ويساوي الآخر، أو بتعريف الأصوليين "إقامة الدليل على خلاف ما أقام الدليل عليه الخصم"، وهذه من عيوب الوقوف على امتياز لا يعبر عن جملة الفاعلين الاجتماعيين في الظاهرة، وبطبيعة الحال ليست النخبة سوى تعبير من تعبيرات المجتمع وإن كان تعبيراً أعلى عن الظاهرة الاجتماعية..
وللمفارقة فإن الصراع حول طبيعة الدولة والاشتجار عند دسترتها عند يمين ويسار، لا يكشف لنا عن وجود علاقة قوية تجمعهما بل المتشاكسون فيها هم في الأصل يمثلان تياراً واحداً، فالذي يربط بينهما ليس القضية محل النزاع فقط، بل جوهر الوعي الذي ينطلقان منه، فالقائل بعلمانية الدولة سواء مع المنادي باشتراعها على هدى من الدين والتدين، كيف؟.. وهذا مضمون الفقرات القادمة..
علاقة النقيض بوجوده:
إن الطرفان يملكان تفسيرهما الخاص بكينونة الإنسان والقانون، فالطرف المنادي بالفصل بين الديني والمدني تحركه دوافعه بل لنقل قناعاته حول ماهية الدولة، إذ هي جهاز لإدارة شئون الناس، كل الناس، والدين شأن شخصي غير مسموح له بتخطي عتبة الذات، وهذا أمر يحتاج إلى تفسير كونه يرهن الجميع إلى مطلق القانون، رغم الململة الحادثة الآن حول حرية الفرد وجبر القانون، كون العالم بات ينفر من فكرة تنميط الحرية عبر جعلها مرادفاً لتطبيق القانون، يحدث هذا في مقابل قيم تريد وتعمل لأجل موطنة الإنسان، أي جعله حكومياً كونه خاضع لسلطة التشريع هكذا دون اعتبار لخصوصيته، والرؤى باتت تتكاثر ضد قانونية القيم باعتبارها غير جديرة بتثبيت الحق لكل إنسان (2)، والطرف الآخر يتجه أكثر لمحاصرة ما يطلق عليه الهجمة التحررية على مضمون قيم المجتمع.
فالعلاقة (=العلاقة بين البنى) في تجلياتها كافة إما أن تكون (علاقة تشابه = اشتراك الطرفان في فهم ماهية الدولة) أو علاقة (معية) نسبة الدولة إلى طرف دون إمكانية تجاوز الأخر، إذ الانتصار لأحد الطرفين يعني وجود الأخر ليستمد منه منطق وجوده، (لا علاقة للديني بالمدني، أو الديني يؤسس الثاني)، ولو مثلنا للأمر بتصوير الفرضيتين (ديني/مدني) فهذا يعني أنهما متساويان كونهما يقعان في تصنيف (فرضية) وهي تفسير مؤقت يحتاج بالمرار إلى تفسير نهائي عبر التجريب، وإن انطبق هذا التعريف عن المدني في الظاهرة، فإنه حتماً سيواجه بصعوبات جمة ليس أقلها المصادمة والقفز على فكرة الإيمان والذي هو مكمل طبيعي لحياة البشرية ودونه تكون عملية إدارة الحياة في غاية الصعوبة.
البنى الاجتماعية – وإشكالية التطور:
البنى الدينية وهيمنة اللامعقول:
فالحقيقة أن المدني لا يساوي الديني في الظاهرة الاجتماعية السودانية، إذ يلعب الوجدان الروحي عند السودانيين في مساحات ليست فقط تنتمي إلى الدين بشكله الرسمي، بل أبعد من ذلك حيث يختمر الوعي السوداني داخل تجاويف العرفاني والغنوصي والهرمسي (لنأخذ فقط كتاب الطبقات) الذي يعد تعبيراً عن منابت الوعي الشعبي فينا. كما أن الدولة تحتكم في تأسيسها على بنى اجتماعية واعية بلحظتها التاريخية، وقادرة على تلقين التماسك لفاعليها، يحدث هذا بنجاح في التجربة الغربية التي متنت من وجود الديني وليس صحيحاً ما يروج له بأن العقل الغربي (مع تحفظنا على المصطلح) أبعد الدين من دائرة الفاعلية. وفي أحوالنا السودانية نعتقد أن من الأسباب التي هزمت فكرة بناء الدولة هو ضعف البنى الاجتماعية، وعدم اكتمال نضجها، ذلك حتى في تديننا، فإسلام السودانيين (إسلام خاص) إذ تشبع بالبيئة التي احتضنته، وتحتل فيه الأسطورة واللامعقول (وهي من مسببات ضعف القدرة على تمتين فكرة الدولة) المركز الصدر، فقد كان لهؤلاء الرجال (الفقرا) وسط شعب ليست لديه أي خلفية ثقافية – السلطة الكاملة لقيادته نحو الخرافات التي تؤمن بها الجماهير ودمجها في شخصيتهم (الفقرا). إن الأحوال السياسية المضطربة للبلاد وبعدها عن أي اتصال مع المراكز الإسلامية الأخرى عدا الحجاز، تلك المراكز التي كانت بدوره راكدة في تلك الفترة لم تؤد إلى تطور مدارس تعليمية/ثقافية محلية تضع حداً للتطرف. وهكذا كان الإسلام الذي تطور بهذه الطريقة قد تشرب بشكل قوي بالنزعات الإفريقية والتي كانت عواملها المميزة عاطفية وخرافية..(3)
وعند طبقات ود ضيف نكتشف أشكال التدين في أول دولة نسميها بالإسلامية (دولة سنار) يقول: (أعلم أن الفنج ملكت أرض النوبة، وتغلبت عليها في أول القرن العاشر: سنة عشرة بعد التسعماية (1504م) ولم يشتهر في تلك البلاد مدرسة علم ولا قرآن، ويقال أن الرجل يطلق المرأة ويتزوجها غيره في نهارها من غير عدة).(4).
لذا كانت عملية الاستيعاب في السودان متقدمة مع خلوها من عيوب العملية الطبيعية التي كانت من جهة تحولاً للثقافة الإسلامية – التي فيها العوامل الدينية أقل حسماً من النظام، وكانت من جهة أخرى عملية امتصاص العناصر الدينية الثقافية الأرواحية المحلية وإلباسها الأشكال والصياغات الإسلامية، وتوجهها نحو الاستشراف العالمي، لذا فقد حدثت بشكل بطئ عملية استيعاب متبادلة، إذ كانت العناصر الأرواحية (الكلمات القادمة مهمة لبحثنا) "تشبثت بعناد شديد خلال الامتصاص داخل النظام الإسلامي"(5). وأيضاً الحالة السودانية ليست فريدة أو مبتدعة فيما يتصل بتداخل ثقافي بين الوافد والمحلي من المعرفة، يقول: " إن دين الشعوب المسلمة في كل مكان مليء بالعادات غير الإسلامية والخرافات التي امتصتها، ولكن هذه العادات اضعفت بالتأكيد تماسكه الديني – الاجتماعي، وهو كنظام له قوة داخلية غير عادية لاستيعاب العوامل الأجنبية التي أغنت مفاهميه الأصلية الساذجة، كما يحتفظ في الوقت ذاته بإرادته الداخلية للقوة والوحدة العنصرية والاستشراف الكوني".(6).
إن المجتمعات التي تعيش بناها تراجعاً في النضج السياسي والثقافي طريقها وعر لبناء الدولة، إذن المطلوب هو تطوير هذه البنى أولاً ثم السعي لاحتواءها داخل منظومة يتفق عليها الجميع، فمن الصعب تحقيق تطوراً في عدم وجود الحد الأدنى من الوعي.
جوهر أزمة الدولة:
يتمتع العقل السياسي السوداني بخاصية إنكار المسئولية عن مآلات الواقع وتفضيل السكون، ولا يفوت أن الكثير منا يملك تفسيره الخاص لواقع البلاد، ولعل هذه هي الأزمة فتعدد التفاسير دليل فساد المعرفة التي نملك عن هذا السودان، لأنه في حالة الجهل المركب الذي نعانيه بصدد تشخيص الواقع ومآلاته، ستظل نظرتنا جزئية وموجهة كما أنها غير بريئة بطبيعة الحال. كما إن الفشل سيلاحق الخطاب السياسي طويلاً.
والمفقود في سجالاتنا السياسية معنى واحد وأصيل، وهو تقعيد الحرية؛ بأشكالها كافة، وعدم تحديد دقيق لماهيتها، ونعني بالحرية، الحرية الفردية وهي حرية قول وإبداء وجهات النظر الخاصة، والرأي واختيار مكان العيش والعمل وماشابه، أو الحرية بوصفها الحرية هي إمكانية الفرد دون أي جبر أو ضغط خارجي على إتخاذ قرار أو تحديد خيار من عدة إمكانيات موجودة..الخ، والحرية في مجملها وجوهرها جانب سياسي هي تحرير الإنسان من بنيات اجتماعية غير متطورة، فما نعانيه في مجتمعنا السياسي هو النقص الحاد في القيم الديموقراطية الكبرى المؤسسة للنظام السياسي والاجتماعي الحديث: قيم الحوار، والتسامح، والاختلاف، والاعتراف المتبادل، والمصلحة المشتركة، والانفتاح، والتنافس الشريف، وإيثار الواجب ، وهذه جميعها ما يحمي لعبة الديموقراطية وانقسام الحقل السياسي الى سلطة ومعارضة من المغامرات المحتملة من أي جانب. إن أي فريق سياسي في بلادنا العربية حاكماً كان أو محكوماً لا ينظر الى خصمه شريكاً في الحياة السياسية بل مُشركاً في حقه هو في السياسة والسلطة (7). وكما أنه لا وجود في بلادنا لمشروع مجتمعي واحد يقع عليه التوافق والإجماع بين القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية كافة على اختلافٍ بينها في المنابت والمشارب والأفكار والمصالح والبرامج، ويكون الاختلاف بينها حينه وازعاً للمنافسة المدنية الحضارية لتحقيق ذلك المشروع أو لصناعة صيغ منه وصور أفضل، ويكون التنافس على السلطة حالئِذٍ تنافساً مشروعاً وبعيداً تماماً عن منطق الإقصاء والإلغاء بعده عن منطقة الهواجس والمخاوف في النفس.
كما أن أزماتنا الكبرى ليست في الاقتصاد أو التنمية بقدر ما هي متعلقة بإنسان هذه التنمية، فأكبر رأسمال يمكن المراهنة عليه هو الإنسان، لذا من الضرورة السعي لإصلاح الخطاب السياسي، وأن يتمتع ب(العقلانية) والتي يشرحها بلقزيز بأن تقوم السياسة على مقتضى العقل لا الهوى والمزاج (الاستراتيجية في العمل)، أن تكون السياسة برامجية، أن يخاطب الخطاب السياسي عقل الناس (الجماهير) لا وجدانها ومشاعرها.. وكذلك الواقعية الإيجابية، (تغيير الواقع لا الركون إليه) وهي تحقيق التوازن بين الممكن الواقعي (البرنامج السياسي) والواجب العمل الفكري والمرجعية الأخلاقية). والتاريخية: أن تتشبع السياسية بحس النظر والتتبع للتطور الاجتماعي والسياسي والثقافي. فهل نملك إجراء هذه العملية الجراحية لننقذ ما تبقى من مهامنا السياسية.
ومجتمعنا السياسي الذي قلنا من قبل أنه يحتاج إلى القيم الديموقراطية الكبرى: الحوار، في قيمته أن يفتح الباب لاكتشاف الذات والآخر، الحوار المؤدي إلى التفاهم، الحوار الذي يؤسس للتسامح، والاختلاف، والاعتراف المتبادل، وفي فائدته كذلك إعادة الاعتبار للأخلاق في العمل السياسي، والحوار بطبيعته يمنح الجميع وضع إسترتيجية واضحة لبناء المصلحة المشتركة، وعلى القوى السياسية الانفتاح على بعضها، وأن يسمح لأطراف متباينة في المعرفة والسلوك والآداب أن تتصل ببعضها البعض، والتي حتماً ستفتح أبواب جديدة للعلاقة بينها، ولن يحدث ذلك إلا إذا وفرنا فرص للتنافس الشريف بين الجماعات السياسية، بل وداخل هذه الأحزاب ذاتها.
عند منطقين – الدولة والدين:
والحقيقة المسافة ليست بذات البعد بين فكرة الدولة الدينية والدولة المدنية، هذا لو أردنا الدقة، وهنا فوضعهما بصورة التقابل لا يعكس حقيقة المسألة، والديني والمدني لا يمكنهما التجانس بسبب عدم انطباق شرط التجانس عليهما، وهو أن منطق أحدهما لا ينتمي إلى الآخر. منطق الدولة يبنغي ألا يخضع لسلطان مسبق إذ هي فرضية تجريبية، محكومة بالملاحظة والاستقراء (سلطات متشابكة بل تعاقبية – تشريعي يختبره التنفيذي ويتحاكمان فيه إلى القضائي)، أما الديني نتيجته لا بد ضرورية، ولها ما بعهدها (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ- الآية 24- سورة البقرة)، فالدين خاضع لتحليل متعالي، أي صور قبلية يؤلفها عقل ديني. وهذا يفيد بعدم تقابل المسألتين كون أحدهما أسبق على الآخر.
والمشكل متعلق بتصدير المفهوم وتعليبه ليصبح صالحاً للتدوال والاستهلاك، إذ أن المعالجات المتصلة بفكرة الدولة تحتاج إلى الخروج من ربقة الأحادي، وفسح المجال لصالح تعددية القيم، وهنا لا نضع الدولة مقابل الدين، فالدين مكون اجتماعي رئيس، والدولة شكل كلياني يعبر عن مجمل الظاهرة الاجتماعية، فالمطلوب في النظر إلى الدولة التعامل معها ببعدها المتعدد، نفعل ذلك لأجل الوصول إلى حالة من التسوية، ومصداقها التعايش الإيجابي بين مكونات الظاهرة. وبمعنى أدق أدى الاحتراب المفاهيمي بين دعاة شكل الدولة في صيغة الثنائية المطروحة إلى عنف سياسي يتطور بحسب معطيات الظرف، لذا فكرة التسوية بينهما واجبة من باب إعطاء معنى جديد للدولة ونواميسها، لأنه من غير المحفز حقيقة إغلاق الدائرة قبل اكتمال خطوط انتصافها..
مخاوف متبادلة: بين الشريعة والانفلات الأخلاقي:
يحتفظ طرفا المعادلة في زوج الدين والدولة بتبادل للمخاوف، فالطرف المتسلح بمعالم الدولة الحديثة بات يخشى أكثر فأكثر عودة محاكم التفتيش الأخلاقي، فيصوب همه نحو حفظ الحريات الفردية بل الارتفاع بها محل المقدس، كون الإنسان هو مطلوب الوجود، وخوفه هنا من تحكيم نسخة يسميها رجعية من الشريعة الإسلامية، وباستطاعتنا فهم هذا الهاجس، هجس التغول على الحريات، ولذا فأسنانه حادة في مقابل أي ملمح من تطبيق الشريعة الإسلامية، وواقع الحال أنه لا أحد يملك تصوراً لتطبيق الشريعة لا من ينادي بذلك ولا من يقف ضدها، فالمنادون بتطبيق الشريعة تعتريهم مخاوف أنه في حال تم التخلص من الديني في التشريع فإن ذلك لا محال يفتح الباب نحو انفلات أخلاقي يتسبب في كثير من الإيذاء لمشاعر المتدينين، والحقيقة أيضاً أن الطرفان مخطئان، فالداعي لحمل الشريعة بعيداً معتقد القانون يريد مصادرة حق مجموع واسع من السودانيين، يفعل ذلك دون أن يمنحهم البديل، وهو بذلك يكرس لهيمنته وديكتاتوريته المتسلحة بقيم الدولة الحديثة، يفعل ذلك دون وجود الحديثة نفسها. أما مخاوف الطرف الآخر من زحزحة الديني في الدستور فهو كذلك لا يملك تصوره لفكرة التطبيق الأمثل للشريعة بما لا يتعارض وقيم الديموقراطية والتعددية التي يجعلها شعاراً لحكمه، والطرفان لا يثقان في شعبهما، أو يملكان نسخة قديمة من التنوير في جهة والتراث الإسلامي في جهته أخرى، والحل ببساطة هو العمل على استيعاب المتغيرات الاجتماعية التي ما عاد من السهولة حملها حملاً على مشروعية هذا أو ذاك، إذن ما الحل؟ لا ندعي امتلاكاً لحل ناجع لهذه المسألة، لكن الطريق يبدأ بالثقة في قيم الشعب وفي رشده وقدرته الذاتية على تمييز الخير من الشر، فالاحتكام لا بد له أن يتحرك من موقع الاعتراف بخصوصية المجتمع وموقعه في التشريع، أن نثق أكثر في قيم السودانيين، وأن نصيغ قوانينا على أساس من مراعاة القيم التي يتفق عليها الكثير، وهنا يطرح السؤال عن مصدر تلقي هذا الاجماع من قبل الشعب، وذلك مهمة صعبة أيضاً. إن الحل في حريات تنهل من معينها الخاص، فحتى أعتى الديموقراطيات تملك أسوارها، فالمطلوب من الطرفان تأمين أسوارهما بما يتوافق والقيم الكلية لشعبهما، والسبيل إلى ذلك هو إعادة بناء الذات السودانية، واحترام الخصوصية.
في مقام الخلاصات:
يبقى السؤال، ما المقصود بالتسوية؟ هل نقول بتجاوز النقاش والتحليل في الثنائي – دين/دولة! بالطبع هذا غير ممكن بل وغير ديموقراطي، حسناً، هل نعني بها، المعنى اللغوي، إيجاد حل، حل وسط، إن المقصود لدينا، هو نحفظ لكل من (الديني والمدني) مجالهما والاعتراف بكونهما مكملان لبعضهما، وهذا الحفاظ لن يتأتى إلا عبر تأسيس منهجي للمقولات، وعدم الركون والاستسلام للمنطق الثنائي الذي شرحنا عيوبه، إنها لمهمة جد صعبة، مهمة صناعة حدود مرنة في إطار الظاهرة تسمح لكل طرف أن يتصل بالآخر دون المرور بمنطقة الخطر والتضاد، وهذا جوهر مبدأ التسوية التي ننادي، وما نحتاجه من فكرة التسوية بينهما وبالطبع لا إقصاء طرف لصالح آخر.
وعلينا الاعتراف بضرورة ضبط اللحظة التي يعيشها العقل الاجتماعي السوداني؛ اللحظة المفارقة للذات المعتمدة كلياً على توفيقية غير مرنة، بل ومتحطبة للدرجة التي يصعب فكها قطعة فوق أخرى، إن أزمة المعرفة الاجتماعية ليست في لا ارتباطها بفلسفة هادية وموجهة، بل هو عقل غارق في التوهان وفضيلته السكوت، ولبناء الدولة ينبغي السعي لفتح المجال أولاً أمام مكونات المجتمع بكافة أشكالها سعياً وراء التوازن الحضاري، وعدم حصر القضية على مقتصر تديين الدولة أو علمنتها، لأن الأمر ليس بهذا اليسر، بمعنى أن المطلوب هو تدبير شأن الناس بعيداً عن الدين، أو أن يكفي فقط عرضهم على منقولات التراث فيصنعون لهم دولة ويبنون مجتمعاً. الطريق يبدأ بتثبيت معنى التسامح بين المكونات بحيث يصبح موقف كل طرف هو استعداده لتقبل الآخر أياً كانت صدمة الاختلاف معه، وهذا التسامح سينتج ظاهرتنا الاجتماعية أكثر تماسك، ولترتيب الأولويات فإن أمامنا في البدء بعد تصنيع التسامح وقوننته اجتماعياً، ليس النظر في الدستور، فالدستور لا يحمل صفة خلاصية تخصه، بل الفاعل الاجتماعي هو المطالب باحترام ما يؤمن به، فكيف يمكن أن نطالب شعب ما بالاحتكام إلى الدستور دون أن يكون على إيماناً عميقاً به؟.
وجدول الأولويات التي نزعم وجوب النظر إليها والعمل على تحليلها تحليلاً موضوعياً يسمح من بعد ببناء دولة المواطنة هو:
- العلاقة المضطربة بين السياسة والتعصب الأيديولوجي.
- تفكيك العنصرية الكامنة والمدخرة بفعل عوامل ثقافية واجتماعية والتي تمنع سيادة القانون.
- النظر في موقع الهيمنة وثقل مقولات التاريخ الاجتماعي بلحظاته الحرجة، والحاجة هنا إلى ميثاق اعترافي بأننا نعيش للمستقبل.
- الاعتراف بضعف البنيات الاجتماعية وعدم قدرتها على تجاوب حر مع مكونات الدولة الحديثة، وفي ذلك إصلاح التعليم.
- الإصلاح الحزبي ويبدأ من إعادة النظر في الفاعل السياسي ليس كونه يمتلك قدرات تعبوية بقدر ما يهتدي بمشروعية فكرية.
وفي الوقت الذي نصل فيه إلى مجتمع قائم على العدل سنراه تلقائياً قادر على توفير التسامح حتى للجميع، وهذا جوهر العدل وبناء العدل يبدأ بالعدل في فتح الأبواب للجميع يسهم بما يملك، فالمجتمع صورة كبرى للوعي الفردي.
الإحالات:
(1) الدكتور عابد الجابري في كتابه قضايا في الفكر المعاصر ص 15 بالرجوع لVernant, Ibid.,p.133.
(2) راجع في ذلك، غوستاف لوبون – روح السياسة – ترجمة: عادل زعيتر- صفحة (39). الناشر، مؤسسة هنداوي.
(3) الإسلام في السودان- سبنسر تيرمنجهام- ترجمة فؤاد محمد عكود – المشروع القومي للترجمة – 2001- ص 112م
(4) مرجع سابق - صفحة 320
(5) الإسلام في السودان - ،صفحة 111
(6) سابق - صفحة 110.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.