د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    السجن لمتعاون مشترك في عدد من قروبات المليشيا المتمردة منها الإعلام الحربي ويأجوج ومأجوج    الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    المرِّيخ يَخسر (سُوء تَغذية).. الهِلال يَخسر (تَواطؤاً)!!    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانقاذ: الانتماء والتملك، فالضياع ثم السقوط .. بقلم الدكتورة: سعاد مصطفي الحاج موسي
نشر في سودانيل يوم 25 - 04 - 2019

تقول إحدي الحكايات الدارفورية أنه كان هنالك رجلٌ طاعن في السن اعتاد الذهاب نهاية كل اسبوع لزيارة أحد أقاربه في الطرف الآخر من القرية حتي صار طقساً اجتماعياً يحرص علي أدائه بإنتظام. وفي أحد أيام الخريف وهو يقوم بالزيارة سالكاً الطريق نفسه، إذا به يري مجموعة من الناس جالسين تحت ظل شجرة وارفة بالقرب من منزل صديقه آدم فيما يبدو علي أنه تجمع لعزاء فتوجه نحوهم، كما يفعل أهل القري عادةً عند سماع خبر أو رؤية ما ينم علي أنه تجمع لعزاء، وفي رأسه تتقافز الكثير من الأسئلة عن شخصية المتوفي الذي لم يستطع معرفته. ترحم علي الفقيد "بشيل الفاتحة" ثم جلس قبالة أحد الحضور واستفسر عن المرحوم فقيل له إنه شايب آدم. ذُهل الرجل لبرهة، ثم قال: الدوام لله، جائز الموت، وأردف قائلاً: أنا كنت هنا قبل يومين وتحدثت مع شايب آدم وكان في صحة جيدة، فهل لدغه أحد هوام الأرض من الثعابين والعقارب التي خرجت من جحورها هذه الأيام بسبب الأمطار والسيول وصارت تؤذي الناس كثيراً؟ فقيل له لا، لم يمت بسبب بذلك ولكن بسبب وقوعه في إحدي الآبار القديمة المدفونة والتي تظهر أحياناً في الخريف بفعل الأمطار الغزيرة. أطرق العجوز هُنيهَةً وهو ينظر الي الأرض ملياً ثم رفع رأسه بحزنٍ وأسف قائلا بلهجة دارفورية خالصة: "صحي جايز الموت، الموت كَمًا جايز، أكْ وكِتْ أنِيْ ماشي ورَفَعْتَ رِجْلي الواحد دي وَوَلا لِقيْتَ مَحَلْ نُخُتِيْ، البُوَديني نَرْفَعَا التاني شنو كَمًا القدر واليوم!"
يحكي بعض الناس هذه الحكاية كطُرفةٍ أو نُكتةٍ مسليَةٍ ولم يُلْتفَتْ الي ما تكتنِز من بصيرة ورؤي حصيفة بل أنها تمثل إحدى مقولات الكبار الذين هم بيوت الحكمة ومصادر المأثور من القول يصنعونه بنظرتهم الثاقبة للامور وبملاحظاتهم الثرة التي تتراكم لعقود من الزمان ثم يصيغونه ويطلقونه بتلقائية محببة كلماتٍ بسيطةٍ جزلةٍ لتملأ فراغاً معرفياً تُسعِف تعبيراتِنا واستخداماتنا اللغوية عند الحيرة، فنُدرجها في قاموسنا المحلي وذاكرتنا الثقافية لنتواثرها عنهم جيلا بعد جيل نستقي منها الدروس ونتعلم منها مبادئ التفكير والسلوك السليمين. وهذه المقولة في تقديري تنطبق علي الانقاذ ورحلته في الحكم، سطواً، بدايةً ونهاية.
ففي الحكايةِ هنالك ظروف زمانية ومكانية، وأناس يمرون عبر طريقٍ محفوف بالمخاطر ومليئ بالمفاجآت الماكرة. ووسط الطريق بئر غامضة تعترض سير المارة ولا يتبينها إلا من رحم الله وأُوتي حكمة وبصيرة ليتخير بحذر وتؤدة مواطئ قدميه لتجاوز البئر اذا أراد الوصول سالماً. فكيف سار الانقاذ ورهطه في مغامرتهم لحكم السودان؟ وهل تحسسوا وعرفوا طبيعة الطريق فأعدوا له العدة والعتاد؟ هل أدركوا مكان البئر وحللوا وفهموا طبيعة خطورتها علي رحلتهم، أم اخذتهم العزة بالاستكبار وإدعاء المعرفة والقوة الحصرية حتي الثمالة ففقدوا المنطق والتفكير السليمين واندفعوا بعاطفة همجية مكابرين غير مبالين وغير مدركين بأنهم قد فقدوا البوصلة وأضاعوا وجهتهم. بل تشير الدلالات والبراهين الي أنهم لم يألوا جهداً في رسم خارطة طريق لهجمتهم في تلكم الليلة الابليسية لتعين تابعيهم علي معرفة الي أين هم سائرون، ولماذا وماذا، وكيف ومتي؟ هذه الأسئلة الاستراتيجية التي لا ينجح مشروعٌ، سياسياً، إقتصادياً، تنموياً كان أم اجتماعياً، ما لم تطرح وتُبحث وتُوفر لها اجاباتٍ شافية وافية تؤطر في خطط تصحيحية وتقييمات مرحلية واخري طارئة ملحقة بسيناريوهاتٍ أُخري بديلة تحسباً. فهكذا تَنْجَح وتُنَجّح الأفكار والمشاريع في دهاليز الامم المتحضرة لتُحقق إنجازات انسانية عارمة بينما يصطف الفاشلون علي طريق العرض في سذاجة وسلبية مستمتعين بالفُرْجة علي كرنفالات حضارات تلك الامم ومستهلكين لها، بل ويلفحهم شذي تعاطف وعطف اؤلئك القوم الانساني ينثرونها مدرارا عندما يهبون الي نجدة من كانت قسمتهم النزوح والتشرد والجوع والمرض بفعل اخوة لهم في الوطن، أو أُجبروا علي ركوب البحار وخوض الأهوال طلباً لديار من يسمِهم الإسلاميون كفاراً، مستجيرين لاجئين.
وداخل حدود تلك الديار تصدم الفارين من ديارهم ظلماً، قيم القوم اللا اسلامية، عندما يُطْعَموا من الجوع ويُؤَمّنوا من الخوف لتقع أعيينهم بعد قليلٍ، في كل مؤسسة ودور تطأها أقدامهم علي ملصقات تقول: عامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به، وأُخري تقول بأن هذه المؤسسة لا تقبل علي الإطلاق التمييز علي أساس الجنس أو اللون، أو العمر، أو الاثنية، أو الإعاقة، أو ......الخ، فيغمرهم في البدء احساس بأنهم في وطن غريب عليهم لأن وطنهم قد حوله الانقاذيون الاسلاميون الي مستشفي للأمراض العقلية والنفسية يمارس ويعاني فيه النخبيون من كل ما هو مرفوض أخلاقيا وأدبيا في الغرب اللا اسلامي. ولكن سرعان ما تتواري دهشتهم وتسكن نفوسهم بعد إذ يدركون بأنّ ثقافة القوم والتزامهم ومراعاتهم لحقوق الانسان تضعهم في مكانة متساوية دستوريا وقانونيا مع الخواجات في عقر دارهم، وأن كرامتهم التي انتهكت وانسانيتهم التي أُمتهنت بواسطة النخبة الاسلامية الترابية للانقاذ فاستماتوا في سبيل استردادها وقُهِروا وأُجبروا علي الهرب، هي في ديار المسيحيين مستظلة ومصونة بروح القانون، زد علي إنهم غير مطالبين بدفع الجزية وهم صاغرون!
فقد فرح الناسُ وأحزابهم بقدوم الديمقراطية (1986– 1989) بعد حكم عسكري سلطوي دام ستة عشر عاما (1969-1986)، واغتبطوا بزوال نظام حكم النميري، ممنين النفس بقرب زوال قوانين سبتمبر التي ألقت بظلالها الكئيبة والمأساوية علي أفئدة الناس، وأرهقت وأقعدت حركة المجتمع وحراكها الاجتماعي والسياسي بما مست من أعراض الامة وإهانة المواطن وامتهان كرامته بما استحدثت وأفشت من قتل وبتر من خلاف، وجلدٍ بالسياط وسجنٍ وإساءة الي شرف الاُسر، ومطاردة الناس والتجسس عليهم بالقفز عليهم داخل بيوتهم، ومهاجمتهم واقتيادهم من أماكن الترفيه العامة الي محاكم العدالة الناجزة المكاشفية بدعوي ممارسة الرذيلة والشروع في الزنا. ونهايةً بإعدام المفكر الاسلامي الذي يعد عالمياً من أكثر المفكرين الاسلاميين انفتاحيةً وجرأةً علي طرح اصلاحات في الفكر الاسلامي وممارساته، الاستاذ محمود محمد طه، في يناير 1985 بتهمة الردة، تحت وابل هتاف الاسلاميين الكيزان وصرخاتهم الهستيرية بالتكبير والتهليل وزغاريد نساء الجبهة القومية الاسلامية التي أصابت طالبات جامعة الخرطوم وفرع القاهرة يومها، وعموم نساء السودان بالغثيان والقئ. بعد ثلاثة أشهر لاستشهاد الاستاذ محمود محمد طه قامت ثورة الشماشة في 6 أبريل 1985 لتطيح بالنميري ونظامه الاتحاد الاشتراكي لتقوم الديمقراطية بعدها بعام واحد فانزاحت القتامة والبؤس قليلاً عن حياة الناس وتنفسوا الصعداء الي حين، بينما أعناقهم تشرئب الي السلام والحرية والعدالة، وقد وضعوا ثقتهم في الأحزاب السياسية آملين في أمانتهم ومقدرتهم علي اخراج الوطن من وهدة انتهاكه المؤسسي لحقوق الانسان بفعْل قوانين سبتمبر.
قامت الديمقراطية في بدايتها علي نظام اتئلاف بين حزب الامة الذي فاز علي الأحزاب الاخري بالحصول علي أغلبية الأصوات في انتخابات 1986 بقيادة الصادق المهدي، والاتحادي اليمقراطي ممثلاً في شخص الميرغني، لينفض في 1989، مفسحاً المجال لائتلاف حزب الامة مع الجبهة الإسلامية القومية في نفس العام ليُنَصّب تبعاً لذلك الدكتور الترابي نائباً لرئيس الوزراء. ولكن سرعان ما استقال الترابي من منصبه وأنهي تحالف الاسلامييين مع حزب الامة عندما دخل الأخير في مفاوضات مع الحركة الشعبية علي إثرها اتفقا على وقف إطلاق النار يتبعه إلغاء قانون الشريعة وإلغاء حالة الطوارئ وكذلك ابطال الأحلاف العسكرية مع مصر وليبيا.
ويبدو أن الترابي قد آثر الخروج بعد فشله في اقناع حزب الامة في عدم وضع قوانين سبتمبر قيد المراهنة مع الحركة الشعبية لوقف الحرب وتحقيق السلام. بيد أن تواتر الأحداث اللاحقة يشير الي أن الترابي كان في الواقع قد بَيّت النية مع رهطه الاسلاميين علي الاستيلاء علي مقاليد الحكم، أو لنقل فتح السودان الذي خرج لتوه من غرفة الانعاش عقب خلاصه من الحكم المايوي للرئيس الأسبق جعفر نميري ولا يزال يتعافى مما علق به من مثالب قوانين الأسلمة وأضرارها. تمثل الترابي وأعوانه الاسلاميين وضع الأسد الذي أخذ يتتبع بحذرٍ شديد جدية ترعي بطمأنينة في الحقول ظناً منها أنها في مأمن من غدر الوحوش الكاسرة، فبقيت دون حماية أو مراقبة، بينما ليس ببعيدٍ يربضُ الوحش منتظراً اللحظة المواتية للانقضاض علي فريسته، أي علي الديمقراطية. وهكذا لم يمر وقت طويل وإذا بالجبهة الاسلامية تنفذ انقلاب الثلاثين من يونيو، بقيادة العميد عمر البشير، في دجي الليل البهيم، لتقوم حكومته التي أطلق عليها الانقاذ بحل البرلمان الديمقراطي والأحزاب السياسية ونقابات العمال، منهياً بذلك النظام الديمقراطي الذي بدأ لتوه يخطو في الاتجاه الصحيح لمخاطبة هموم المواطنين بما يعني إيقاف الحرب وإلغاء قوانين سبتمبر واطلاق حرية التعبير والتنظيم، اي حرية، سلام وعدالة، تلك القيم التي ينادي ويعتصم بها الثوار اليوم في كل شبرٍ من أرض السودان.
ولما كانت هوية الانقلابيين غير معروفة آنئذٍ، ظن الناس أنه إنقلاب عسكري كالانقلابات السابقة التي قوّض بها الانقلابييون الأنظمة الديمقراطية في السودان في 1958 و 1969، ولم يرد في ظن أو فكر المواطن أدني شك أو شبهة لاحتمال تورط الجبهة الاسلامية في الانقلاب، خاصة بعد أن قامت الحكومة الجديدة بعدد من الاعتقالات الواسعة شملت الدكتور حسن الترابي نفسه لايهام الناس ببراءة الذئب من دم ابن يعقوب. وبالفعل، فقد انطلي الأمر علي المواطن ليتضح فيما بعد أن الشيخ الترابي كان هو مهندس الانقلاب ورأسه المدبر. أعلن البشير عبر الاذاعة وصول الإنقاذ لإنقاذ المجتمع مما أسماه فوضي ممارسة الديمقراطية الماثلة مدعياً أنها هددت الشريعة والتوجه الاسلامي، وتم ايداع الترابي السجن عشية ذلك اليوم. صُعِق الناس بما أُرْتُكِبَ من جرم في حق النظام الديمقراطي واجهاضه وهو في بداية عتباته، وفي خلدهم دارت الكثير من الأسئلة عن ماهية الغاصبون وهم يدركون جيداً ويتساءلون أن من أين للعسكر المقدرات السياسية والفكرية والعلمية والثقافية لحكم الوطن مستصحبين في ذاكرتهم ما اختبروه في الماضي من عسير المحن والاحن وما تعلموه من الدروس والعبر من خلال حكم العسكر. لم يطل الانتظار طويلاً فسرعان ما انقشعت الظلمة ليخرج الترابي وهو ينفش ريشه وينفضه من غبار مكيفات السجن الفاخر ليميط اللثام، مقهقهاً، عن الكذبة التي ظن أنه استغفل بها الناس، وليضع حجر الأساس لعهدٍ مليئٍ بالدم والدموع والفقر والمرض والجوع والجهل والذل والقهر، عهد الانهيار الأكبر في تاريخ السودان.
كشف الشيخ الترابي تلك الكذبة، مقرونةً بقهقهته الساخرة المعهودة، دون أسفٍ أو إعتذارٍ لجمهور الشعب السوداني وكأني به تلميذٌ ينجحُ في حل طلاسِم أحد الألغاز التي احتار أقرانُه في تفسيرها فيصفقون له إعجاباً فيبتسم هازئاً من سذاجتهم لأنه قد تلقي التفسير مكتوبا من تحت الطاولة. وبينما يفعل الشيخ الترابي ذلك بصفته عرابُ الإنقاذ، فهو يدرك تماماً أن الكذبَ يعتبر سلوكاً بغيضاً وناشزاً للصغار والكبار في كل المجتمعات الانسانية، ومدمراً لها، ولكنه مفارقةً للمألوف قد سبق وأقرّ، في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، استخدامه في سبيل الدعوة ولمصلحة الاسلام السياسي مما أثار نقاشاً وخلافاً حاداً بين طلاب جامعة الخرطوم علي منصة قهوة النشاط وقتها. إلاّ أن الشيخ لم يجرؤ علي تبني نفس الحجة والاتيان بفقه يخالف ما يدين به من أن "آية المنافق ثلاثة: اذا حدث كذب واذا أُؤتمن خانَ واذا أوعد أخلفَ"، وأنه وصحبه بحكم ذلك منافقون مع الإصرار وسبق الترصد مصيرهم كما بينت الآية القرآنية (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)، وأن المنافقين كانوا إخوان الشياطين وقد وُصِف الشيطان بأنه لربه كفورا.
مما يبدو أن نشوة النصر قد شوّشَتْ علي الترابي وأعوانه الاسلاميين، فغام عليهم "أنً المكرَ السئِ لا يحيق إلاّ بأهله" ولعله قد تغافل عمداً عن تلك الجزئية في الأدب الاسلامي، أو قل استبعدها قصداً ولم يجرؤ علي استدعائها الي منابر وعظه الديني إلاّ عندما تنكر له من مَكّنَهم علي كرسيِ الحكم وكذّبَ وتآمر من أجلهم فلم يجدوا له في الآخر مقعدا يليق به يجلسونه عليه في لوج فردوسهم السوداني العالي، إلاّ تلكم الغرفة التي تتوسط السجن والتي كان قد دخلها في السابق حبيساً محتفلاً ومبتهجاً بكذبته التي حاول بها إبعاد الشبهات عن نفسه وعن جبهته الاسلامية ونفي تَلَطُخ أيديهم بدم إجهاض الديمقراطية الوليدة ووأدها (ما أصلو الشينة منكورة)، ليعود اليها هذه المرة محتضناً خيبته بل ومُعاقَباً ليستظل منفرداً بيحموم كذبته علي الامة السودانية، بما يعني أن السحر قد انقلب شراً علي الساحر. حقاً لا يكذب المرء حين يكذب وهو مؤمن، فلعل الشيخ لم يكن مؤمناً وقت تآمره وهندسته لتلك الخيانة والتي انقلبت عليه زقوماً وزمهريرا، ولعله قد أرسل النظر واسترسل فلم يجد في معرض بحثه عن سؤدد السلطة ووجاهتها إلاّ نَصَباً. ولكن حتى في سجنه، لم يجد ما يعينه علي أن يرتد علي آثاره قصصا في مراجعة أمينة مع النفس والندم علي ما اقترف من جُرْمٍ في حق الشعب السوداني من إزهاقٍ للأرواح وتهتك في عقده الاجتماعي وإنفراط في سلمه وأمنه وإقعاد لمسيرة تطوره لثلاثة عقودٍ عددا.
لا يوجد في الفقه الإسلامي ما يري في الديمقراطية إلاّ مناقضةً للإسلام، ولذلك يعد إنقلاب الإسلاميين علي الديمقراطية، باختلاف الأزمنة والسياقات، بمثابة فتح اسلاميٍ لبلدٍ ومجتمعٍ لا يُحكم بالإسلام، ويتبع ذلك أن الانقلاب الذي نفذته الجبهة الإسلامية في السودان، في يونيو 1989، يطابق نظرياً نهج الغزوات الإسلامية التي كانت تقوم علي مبدأ الهجوم علي القوافل التجارية، كغزوة بدر، أو الهجوم علي الناس في ديارهم وهم نيام أو غافلون، مثل غزوة خيبر، والفتوحات مثل فتح مصر وغيرها. وما يتم تحصيله من الغزوات والفتوحات إنما هي في حكم الغنائم حلال للمجاهدين مستحقاً لمجهاداتهم. لذا فإن السودان كله للإسلاميين، "المغفلين النافعين" منهم والمنافقين، كان بمثابة فتح للإسلام منصورا، وغنيمةً باردةً كما تُجيز المذاهب الأربعة والتفاسير السنية في مدوناتها التاريخية التي لا تزال تقرر مصائر الناس منذ ما ينيف علي الألف وخمسمائة عام. واعتماداً علي مفهوم الفتح والغنائم دخل السودان عهد التردي السياسي والاجتماعي والاقتصادي بفعل آلة الانقاذ التي دمرت المجتمع وبنياته المادية والانسانية.
ونواصل .....
سعاد مصطفي الحاج موسي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.