بالصورة والفيديو.. بعد أن علنت خطبتها.. شاهد تصريحات وئام شوقي السابقة عن الزواج: (أنا رافضة المؤسسة كلها وما بعرس راجل) وساخرون: (البنات الكانوا بباروها وبسمعوا كلامها طمنونا عليكم)    رواندا تتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لاستقبال ما يصل إلى 250 مهاجرًا    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    شاهد بالفيديو.. السيدة المصرية التي عانقت جارتها السودانية لحظة وداعها تنهار بالبكاء بعد فراقها وتصرح: (السودانيين ناس بتوع دين وعوضتني فقد أمي وسوف أسافر الخرطوم وألحق بها قريباً)    شاهد بالفيديو.. التيكتوكر السودانية خديجة أمريكا تظهر بإطلالة ملفتة وتزعم أنها "هندية" الجنسية    البرهان : لن نضع السلاح إلا باستئصال التمرد والعدوان الغاشم    وفد عسكري أوغندي قرب جوبا    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    مجاعة تهدد آلاف السودانيين في الفاشر    تجدّد إصابة إندريك "أحبط" إعارته لريال سوسيداد    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    لدى مخاطبته حفل تكريم رجل الاعمال شكينيبة بادي يشيد بجامعة النيل الازرق في دعم الاستقرار    شغل مؤسس    عثمان ميرغني يكتب: لا وقت للدموع..    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    الشان لا ترحم الأخطاء    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانقاذ: الانتماء والتملك، فالضياع ثم السقوط .. بقلم الدكتورة: سعاد مصطفي الحاج موسي
نشر في سودانيل يوم 25 - 04 - 2019

تقول إحدي الحكايات الدارفورية أنه كان هنالك رجلٌ طاعن في السن اعتاد الذهاب نهاية كل اسبوع لزيارة أحد أقاربه في الطرف الآخر من القرية حتي صار طقساً اجتماعياً يحرص علي أدائه بإنتظام. وفي أحد أيام الخريف وهو يقوم بالزيارة سالكاً الطريق نفسه، إذا به يري مجموعة من الناس جالسين تحت ظل شجرة وارفة بالقرب من منزل صديقه آدم فيما يبدو علي أنه تجمع لعزاء فتوجه نحوهم، كما يفعل أهل القري عادةً عند سماع خبر أو رؤية ما ينم علي أنه تجمع لعزاء، وفي رأسه تتقافز الكثير من الأسئلة عن شخصية المتوفي الذي لم يستطع معرفته. ترحم علي الفقيد "بشيل الفاتحة" ثم جلس قبالة أحد الحضور واستفسر عن المرحوم فقيل له إنه شايب آدم. ذُهل الرجل لبرهة، ثم قال: الدوام لله، جائز الموت، وأردف قائلاً: أنا كنت هنا قبل يومين وتحدثت مع شايب آدم وكان في صحة جيدة، فهل لدغه أحد هوام الأرض من الثعابين والعقارب التي خرجت من جحورها هذه الأيام بسبب الأمطار والسيول وصارت تؤذي الناس كثيراً؟ فقيل له لا، لم يمت بسبب بذلك ولكن بسبب وقوعه في إحدي الآبار القديمة المدفونة والتي تظهر أحياناً في الخريف بفعل الأمطار الغزيرة. أطرق العجوز هُنيهَةً وهو ينظر الي الأرض ملياً ثم رفع رأسه بحزنٍ وأسف قائلا بلهجة دارفورية خالصة: "صحي جايز الموت، الموت كَمًا جايز، أكْ وكِتْ أنِيْ ماشي ورَفَعْتَ رِجْلي الواحد دي وَوَلا لِقيْتَ مَحَلْ نُخُتِيْ، البُوَديني نَرْفَعَا التاني شنو كَمًا القدر واليوم!"
يحكي بعض الناس هذه الحكاية كطُرفةٍ أو نُكتةٍ مسليَةٍ ولم يُلْتفَتْ الي ما تكتنِز من بصيرة ورؤي حصيفة بل أنها تمثل إحدى مقولات الكبار الذين هم بيوت الحكمة ومصادر المأثور من القول يصنعونه بنظرتهم الثاقبة للامور وبملاحظاتهم الثرة التي تتراكم لعقود من الزمان ثم يصيغونه ويطلقونه بتلقائية محببة كلماتٍ بسيطةٍ جزلةٍ لتملأ فراغاً معرفياً تُسعِف تعبيراتِنا واستخداماتنا اللغوية عند الحيرة، فنُدرجها في قاموسنا المحلي وذاكرتنا الثقافية لنتواثرها عنهم جيلا بعد جيل نستقي منها الدروس ونتعلم منها مبادئ التفكير والسلوك السليمين. وهذه المقولة في تقديري تنطبق علي الانقاذ ورحلته في الحكم، سطواً، بدايةً ونهاية.
ففي الحكايةِ هنالك ظروف زمانية ومكانية، وأناس يمرون عبر طريقٍ محفوف بالمخاطر ومليئ بالمفاجآت الماكرة. ووسط الطريق بئر غامضة تعترض سير المارة ولا يتبينها إلا من رحم الله وأُوتي حكمة وبصيرة ليتخير بحذر وتؤدة مواطئ قدميه لتجاوز البئر اذا أراد الوصول سالماً. فكيف سار الانقاذ ورهطه في مغامرتهم لحكم السودان؟ وهل تحسسوا وعرفوا طبيعة الطريق فأعدوا له العدة والعتاد؟ هل أدركوا مكان البئر وحللوا وفهموا طبيعة خطورتها علي رحلتهم، أم اخذتهم العزة بالاستكبار وإدعاء المعرفة والقوة الحصرية حتي الثمالة ففقدوا المنطق والتفكير السليمين واندفعوا بعاطفة همجية مكابرين غير مبالين وغير مدركين بأنهم قد فقدوا البوصلة وأضاعوا وجهتهم. بل تشير الدلالات والبراهين الي أنهم لم يألوا جهداً في رسم خارطة طريق لهجمتهم في تلكم الليلة الابليسية لتعين تابعيهم علي معرفة الي أين هم سائرون، ولماذا وماذا، وكيف ومتي؟ هذه الأسئلة الاستراتيجية التي لا ينجح مشروعٌ، سياسياً، إقتصادياً، تنموياً كان أم اجتماعياً، ما لم تطرح وتُبحث وتُوفر لها اجاباتٍ شافية وافية تؤطر في خطط تصحيحية وتقييمات مرحلية واخري طارئة ملحقة بسيناريوهاتٍ أُخري بديلة تحسباً. فهكذا تَنْجَح وتُنَجّح الأفكار والمشاريع في دهاليز الامم المتحضرة لتُحقق إنجازات انسانية عارمة بينما يصطف الفاشلون علي طريق العرض في سذاجة وسلبية مستمتعين بالفُرْجة علي كرنفالات حضارات تلك الامم ومستهلكين لها، بل ويلفحهم شذي تعاطف وعطف اؤلئك القوم الانساني ينثرونها مدرارا عندما يهبون الي نجدة من كانت قسمتهم النزوح والتشرد والجوع والمرض بفعل اخوة لهم في الوطن، أو أُجبروا علي ركوب البحار وخوض الأهوال طلباً لديار من يسمِهم الإسلاميون كفاراً، مستجيرين لاجئين.
وداخل حدود تلك الديار تصدم الفارين من ديارهم ظلماً، قيم القوم اللا اسلامية، عندما يُطْعَموا من الجوع ويُؤَمّنوا من الخوف لتقع أعيينهم بعد قليلٍ، في كل مؤسسة ودور تطأها أقدامهم علي ملصقات تقول: عامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به، وأُخري تقول بأن هذه المؤسسة لا تقبل علي الإطلاق التمييز علي أساس الجنس أو اللون، أو العمر، أو الاثنية، أو الإعاقة، أو ......الخ، فيغمرهم في البدء احساس بأنهم في وطن غريب عليهم لأن وطنهم قد حوله الانقاذيون الاسلاميون الي مستشفي للأمراض العقلية والنفسية يمارس ويعاني فيه النخبيون من كل ما هو مرفوض أخلاقيا وأدبيا في الغرب اللا اسلامي. ولكن سرعان ما تتواري دهشتهم وتسكن نفوسهم بعد إذ يدركون بأنّ ثقافة القوم والتزامهم ومراعاتهم لحقوق الانسان تضعهم في مكانة متساوية دستوريا وقانونيا مع الخواجات في عقر دارهم، وأن كرامتهم التي انتهكت وانسانيتهم التي أُمتهنت بواسطة النخبة الاسلامية الترابية للانقاذ فاستماتوا في سبيل استردادها وقُهِروا وأُجبروا علي الهرب، هي في ديار المسيحيين مستظلة ومصونة بروح القانون، زد علي إنهم غير مطالبين بدفع الجزية وهم صاغرون!
فقد فرح الناسُ وأحزابهم بقدوم الديمقراطية (1986– 1989) بعد حكم عسكري سلطوي دام ستة عشر عاما (1969-1986)، واغتبطوا بزوال نظام حكم النميري، ممنين النفس بقرب زوال قوانين سبتمبر التي ألقت بظلالها الكئيبة والمأساوية علي أفئدة الناس، وأرهقت وأقعدت حركة المجتمع وحراكها الاجتماعي والسياسي بما مست من أعراض الامة وإهانة المواطن وامتهان كرامته بما استحدثت وأفشت من قتل وبتر من خلاف، وجلدٍ بالسياط وسجنٍ وإساءة الي شرف الاُسر، ومطاردة الناس والتجسس عليهم بالقفز عليهم داخل بيوتهم، ومهاجمتهم واقتيادهم من أماكن الترفيه العامة الي محاكم العدالة الناجزة المكاشفية بدعوي ممارسة الرذيلة والشروع في الزنا. ونهايةً بإعدام المفكر الاسلامي الذي يعد عالمياً من أكثر المفكرين الاسلاميين انفتاحيةً وجرأةً علي طرح اصلاحات في الفكر الاسلامي وممارساته، الاستاذ محمود محمد طه، في يناير 1985 بتهمة الردة، تحت وابل هتاف الاسلاميين الكيزان وصرخاتهم الهستيرية بالتكبير والتهليل وزغاريد نساء الجبهة القومية الاسلامية التي أصابت طالبات جامعة الخرطوم وفرع القاهرة يومها، وعموم نساء السودان بالغثيان والقئ. بعد ثلاثة أشهر لاستشهاد الاستاذ محمود محمد طه قامت ثورة الشماشة في 6 أبريل 1985 لتطيح بالنميري ونظامه الاتحاد الاشتراكي لتقوم الديمقراطية بعدها بعام واحد فانزاحت القتامة والبؤس قليلاً عن حياة الناس وتنفسوا الصعداء الي حين، بينما أعناقهم تشرئب الي السلام والحرية والعدالة، وقد وضعوا ثقتهم في الأحزاب السياسية آملين في أمانتهم ومقدرتهم علي اخراج الوطن من وهدة انتهاكه المؤسسي لحقوق الانسان بفعْل قوانين سبتمبر.
قامت الديمقراطية في بدايتها علي نظام اتئلاف بين حزب الامة الذي فاز علي الأحزاب الاخري بالحصول علي أغلبية الأصوات في انتخابات 1986 بقيادة الصادق المهدي، والاتحادي اليمقراطي ممثلاً في شخص الميرغني، لينفض في 1989، مفسحاً المجال لائتلاف حزب الامة مع الجبهة الإسلامية القومية في نفس العام ليُنَصّب تبعاً لذلك الدكتور الترابي نائباً لرئيس الوزراء. ولكن سرعان ما استقال الترابي من منصبه وأنهي تحالف الاسلامييين مع حزب الامة عندما دخل الأخير في مفاوضات مع الحركة الشعبية علي إثرها اتفقا على وقف إطلاق النار يتبعه إلغاء قانون الشريعة وإلغاء حالة الطوارئ وكذلك ابطال الأحلاف العسكرية مع مصر وليبيا.
ويبدو أن الترابي قد آثر الخروج بعد فشله في اقناع حزب الامة في عدم وضع قوانين سبتمبر قيد المراهنة مع الحركة الشعبية لوقف الحرب وتحقيق السلام. بيد أن تواتر الأحداث اللاحقة يشير الي أن الترابي كان في الواقع قد بَيّت النية مع رهطه الاسلاميين علي الاستيلاء علي مقاليد الحكم، أو لنقل فتح السودان الذي خرج لتوه من غرفة الانعاش عقب خلاصه من الحكم المايوي للرئيس الأسبق جعفر نميري ولا يزال يتعافى مما علق به من مثالب قوانين الأسلمة وأضرارها. تمثل الترابي وأعوانه الاسلاميين وضع الأسد الذي أخذ يتتبع بحذرٍ شديد جدية ترعي بطمأنينة في الحقول ظناً منها أنها في مأمن من غدر الوحوش الكاسرة، فبقيت دون حماية أو مراقبة، بينما ليس ببعيدٍ يربضُ الوحش منتظراً اللحظة المواتية للانقضاض علي فريسته، أي علي الديمقراطية. وهكذا لم يمر وقت طويل وإذا بالجبهة الاسلامية تنفذ انقلاب الثلاثين من يونيو، بقيادة العميد عمر البشير، في دجي الليل البهيم، لتقوم حكومته التي أطلق عليها الانقاذ بحل البرلمان الديمقراطي والأحزاب السياسية ونقابات العمال، منهياً بذلك النظام الديمقراطي الذي بدأ لتوه يخطو في الاتجاه الصحيح لمخاطبة هموم المواطنين بما يعني إيقاف الحرب وإلغاء قوانين سبتمبر واطلاق حرية التعبير والتنظيم، اي حرية، سلام وعدالة، تلك القيم التي ينادي ويعتصم بها الثوار اليوم في كل شبرٍ من أرض السودان.
ولما كانت هوية الانقلابيين غير معروفة آنئذٍ، ظن الناس أنه إنقلاب عسكري كالانقلابات السابقة التي قوّض بها الانقلابييون الأنظمة الديمقراطية في السودان في 1958 و 1969، ولم يرد في ظن أو فكر المواطن أدني شك أو شبهة لاحتمال تورط الجبهة الاسلامية في الانقلاب، خاصة بعد أن قامت الحكومة الجديدة بعدد من الاعتقالات الواسعة شملت الدكتور حسن الترابي نفسه لايهام الناس ببراءة الذئب من دم ابن يعقوب. وبالفعل، فقد انطلي الأمر علي المواطن ليتضح فيما بعد أن الشيخ الترابي كان هو مهندس الانقلاب ورأسه المدبر. أعلن البشير عبر الاذاعة وصول الإنقاذ لإنقاذ المجتمع مما أسماه فوضي ممارسة الديمقراطية الماثلة مدعياً أنها هددت الشريعة والتوجه الاسلامي، وتم ايداع الترابي السجن عشية ذلك اليوم. صُعِق الناس بما أُرْتُكِبَ من جرم في حق النظام الديمقراطي واجهاضه وهو في بداية عتباته، وفي خلدهم دارت الكثير من الأسئلة عن ماهية الغاصبون وهم يدركون جيداً ويتساءلون أن من أين للعسكر المقدرات السياسية والفكرية والعلمية والثقافية لحكم الوطن مستصحبين في ذاكرتهم ما اختبروه في الماضي من عسير المحن والاحن وما تعلموه من الدروس والعبر من خلال حكم العسكر. لم يطل الانتظار طويلاً فسرعان ما انقشعت الظلمة ليخرج الترابي وهو ينفش ريشه وينفضه من غبار مكيفات السجن الفاخر ليميط اللثام، مقهقهاً، عن الكذبة التي ظن أنه استغفل بها الناس، وليضع حجر الأساس لعهدٍ مليئٍ بالدم والدموع والفقر والمرض والجوع والجهل والذل والقهر، عهد الانهيار الأكبر في تاريخ السودان.
كشف الشيخ الترابي تلك الكذبة، مقرونةً بقهقهته الساخرة المعهودة، دون أسفٍ أو إعتذارٍ لجمهور الشعب السوداني وكأني به تلميذٌ ينجحُ في حل طلاسِم أحد الألغاز التي احتار أقرانُه في تفسيرها فيصفقون له إعجاباً فيبتسم هازئاً من سذاجتهم لأنه قد تلقي التفسير مكتوبا من تحت الطاولة. وبينما يفعل الشيخ الترابي ذلك بصفته عرابُ الإنقاذ، فهو يدرك تماماً أن الكذبَ يعتبر سلوكاً بغيضاً وناشزاً للصغار والكبار في كل المجتمعات الانسانية، ومدمراً لها، ولكنه مفارقةً للمألوف قد سبق وأقرّ، في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، استخدامه في سبيل الدعوة ولمصلحة الاسلام السياسي مما أثار نقاشاً وخلافاً حاداً بين طلاب جامعة الخرطوم علي منصة قهوة النشاط وقتها. إلاّ أن الشيخ لم يجرؤ علي تبني نفس الحجة والاتيان بفقه يخالف ما يدين به من أن "آية المنافق ثلاثة: اذا حدث كذب واذا أُؤتمن خانَ واذا أوعد أخلفَ"، وأنه وصحبه بحكم ذلك منافقون مع الإصرار وسبق الترصد مصيرهم كما بينت الآية القرآنية (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)، وأن المنافقين كانوا إخوان الشياطين وقد وُصِف الشيطان بأنه لربه كفورا.
مما يبدو أن نشوة النصر قد شوّشَتْ علي الترابي وأعوانه الاسلاميين، فغام عليهم "أنً المكرَ السئِ لا يحيق إلاّ بأهله" ولعله قد تغافل عمداً عن تلك الجزئية في الأدب الاسلامي، أو قل استبعدها قصداً ولم يجرؤ علي استدعائها الي منابر وعظه الديني إلاّ عندما تنكر له من مَكّنَهم علي كرسيِ الحكم وكذّبَ وتآمر من أجلهم فلم يجدوا له في الآخر مقعدا يليق به يجلسونه عليه في لوج فردوسهم السوداني العالي، إلاّ تلكم الغرفة التي تتوسط السجن والتي كان قد دخلها في السابق حبيساً محتفلاً ومبتهجاً بكذبته التي حاول بها إبعاد الشبهات عن نفسه وعن جبهته الاسلامية ونفي تَلَطُخ أيديهم بدم إجهاض الديمقراطية الوليدة ووأدها (ما أصلو الشينة منكورة)، ليعود اليها هذه المرة محتضناً خيبته بل ومُعاقَباً ليستظل منفرداً بيحموم كذبته علي الامة السودانية، بما يعني أن السحر قد انقلب شراً علي الساحر. حقاً لا يكذب المرء حين يكذب وهو مؤمن، فلعل الشيخ لم يكن مؤمناً وقت تآمره وهندسته لتلك الخيانة والتي انقلبت عليه زقوماً وزمهريرا، ولعله قد أرسل النظر واسترسل فلم يجد في معرض بحثه عن سؤدد السلطة ووجاهتها إلاّ نَصَباً. ولكن حتى في سجنه، لم يجد ما يعينه علي أن يرتد علي آثاره قصصا في مراجعة أمينة مع النفس والندم علي ما اقترف من جُرْمٍ في حق الشعب السوداني من إزهاقٍ للأرواح وتهتك في عقده الاجتماعي وإنفراط في سلمه وأمنه وإقعاد لمسيرة تطوره لثلاثة عقودٍ عددا.
لا يوجد في الفقه الإسلامي ما يري في الديمقراطية إلاّ مناقضةً للإسلام، ولذلك يعد إنقلاب الإسلاميين علي الديمقراطية، باختلاف الأزمنة والسياقات، بمثابة فتح اسلاميٍ لبلدٍ ومجتمعٍ لا يُحكم بالإسلام، ويتبع ذلك أن الانقلاب الذي نفذته الجبهة الإسلامية في السودان، في يونيو 1989، يطابق نظرياً نهج الغزوات الإسلامية التي كانت تقوم علي مبدأ الهجوم علي القوافل التجارية، كغزوة بدر، أو الهجوم علي الناس في ديارهم وهم نيام أو غافلون، مثل غزوة خيبر، والفتوحات مثل فتح مصر وغيرها. وما يتم تحصيله من الغزوات والفتوحات إنما هي في حكم الغنائم حلال للمجاهدين مستحقاً لمجهاداتهم. لذا فإن السودان كله للإسلاميين، "المغفلين النافعين" منهم والمنافقين، كان بمثابة فتح للإسلام منصورا، وغنيمةً باردةً كما تُجيز المذاهب الأربعة والتفاسير السنية في مدوناتها التاريخية التي لا تزال تقرر مصائر الناس منذ ما ينيف علي الألف وخمسمائة عام. واعتماداً علي مفهوم الفتح والغنائم دخل السودان عهد التردي السياسي والاجتماعي والاقتصادي بفعل آلة الانقاذ التي دمرت المجتمع وبنياته المادية والانسانية.
ونواصل .....
سعاد مصطفي الحاج موسي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.