كان ذلك في بداية الحراك لهذه الثورة المجيدة في أواخر ديسمبر أو أوائل يناير لا أدري.. وقد دعا التجمع لمظاهرة تنطلق من السوق العربي وفي الواحدة من ظهيرة ذاك النهار الشتوي انطلقت الهتافات وبدأت المظاهرة.. وكعادتها في تلك الفترة.. تصدت قوى الأمن لها بالعنف المفرط والقمع الشديد.. وفي ذات الساعة تحركت من نيفاشا صوب برج البركة وغرب ابو جنزير.. فشاهدت لأول مرة ميدان الشيخ العتيق وقد تحول لموقف سيارات بالايجار.. مسور بحوائط سلكية تشف عما يجري خلفها (لاحقاً فطن رجال الأمن لهذا ونصبوا صيوانا يستر أفعالهم القذرة.. عن عيون المارة) ... فرأيت الميدان لأول مرة يتحول لمركز اعتقال.. يقاد إليه الصبية والفتيات ويجبرون على الجلوس ووجوههم صوب السور السلكي... وهي محنية تنظر إلى أرض الميدان... وكان القصد الواضح من ذلك الإهانة وكسر أرادة المقاومة والتدجين لهذا النفر العزيز من فتية وفتيات السودان الباسلات لتتم بعد ذلك عملية إعادتهم لقطيع الكبار .. الذي استسلم لقدره وأصبح يأكل من خشاش أرض مزرعة الحيوان التي حشرته الإنقاذ فيها... (إلا اللمم منهم) . ولكن يبدو أن تحديق الفتية والصبايا للأرض يحمل إلى دواخلهم معاني مختلفة.... يلخص مضمونها عبارة نشيد العلم أن هذه الأرض لنا.. وليعش سوداننا... رمزا للعزة والكبرياء ومعنا... للإباء والشموخ والشمم... عموما توغلت صوب السوق العربي فاعترض مسارنا رجال الأمن ومنعونا من الدخول عبر عمارة الذهب... ولفيت من مدخل مستوصف فتح الرحمن البشير إلى برج الضرائب فعمارة السلام وعند تقاطع الشارع الذي يمر غرب عمارة السلام وذاك الذي يمر جنوبها.... في الزاوية الجنوبية الغربية للتقاطع كانت ترتكز دورية للأمن تعتقل كل مشتبه يمر بالقرب منها وهم من الشباب ما دون الثلاثين.. ويفتشون السيارات ويفتشون موبايلاتهم.... وما عصمني من التفتيش إلا العمر..(.والعمر هنا يقف على الحياد من الحدث إن لم يكن متواطئ مع الحكومة... فكان الكبار يمنعون الصغار من المشاركة في المظاهرات بدعوى الخوف عليهم) يعني لا بنجدع ولا بنجيب الحجار... وأذكر هنا أن هناك أحد العناصر الأمنية وواضح من هيئته وتعامله أنه ضابط.... وأذكر أنهم رفعوا أحد الشباب في البوكس... وجاء هذا الرجل وهو طويل القامة... لونه داكن ويرتدي فل سوت... بدلة كاروهات وبنطلون أسود... فأقترب من الشاب المعتقل وقال له عبارة انتهت إلى مسمعي... على النحو الآتي :- دايرين تغيروا الحكومة... هسع انت ابشعيرات بنطلونك الناصل دا.... تقدر تغير النظام دا.....!!!! ؟ لا زال صدى هذه العبارة يرن في اذني وقد أفلح ساعتها في إثارة شكي في قدرة الشباب على تحدي النظام القامع الباطش ناهيك عن تغييره.... ومع كل يوم يمر يزداد الحراك ويسقط الشهيد تلو الآخر.. ويتراجع شكي إلى إن تبدد تماما في 6 /أبريل... والقيادة تزدحم بجموع المعتصمين... من الشباب من الجنسين... وأدركت أنهم فعلوا ما عجزنا عنه وأنهم صادقون عندما هتفوا.. نحن الجيل الراكب راس مابحكمنا رئيس رقاص ونحن الجيل الما بتغشا ونحن الجيل السقط بشة ووضعني كل هذا في مقارنات بين... جيل.. الشباب.. الثائر... و أجيالنا نحن من تقدم بنا العمر... ففي كلامهم... يختلفون.. مباشرون بسيطون صادقون... احد أوجه لغة الخطاب عندهم تعرف بالرندوك وهي مزيج من العامية السودانية والفصحى ونوع من لغة مشفرة نستخدمها في الصغر تعكس فيها حروف الكلمة الواحدة .. مثلاً.. لفظة منتهي تصبح منهتي.. وهي تعكس حالة كونهم حالمون وثائرون... فعكس بنية الكلمة... ثورة على الكلمات القديمة وهدمها وإعادة بنائها بشكل مختلف...وهي تعكس رمزيا احلامهم في مغادرة الواقع القائم وتأسيس جديد محله.. وهي حالة قديمة متجددة في وعي الأجيال السودانية المتعاقبة... وكلامهم.. ملخص ليس فيه اطناب في شكل برقيات مختصرة... وتجمع المهنيين يخاطب قطاع منهم في بياناته مستخدما هذه اللغة بين الحين والآخر.. وهذه البنية المختلفة للجملة.. ايضا تشير إلى طريقة فهم مختلف وتفسير ومعاني مفارقة لما هو سائد بحكم العادة... أيضا في ملابسهم وهندامهم ومظهرهم مختلفون... حيث أصبحت الحلاقات والملابس أقرب للأستيالات العالمية.. لنجوم السينما والمشاهير إذ نقلت الفضائيات إلينا العوالم الخارجية المسيطرة على المشهد الحضاري العالمي. بما يشمل من حريات وفردية وسعي للتميز والاختلاف والخروج على القطيع... ففي أمريكا مثلاً تنوع مذهل في الثقافات.. والكلام والملابس والسلوكيات.... ولهذا هم يقبلون الأختلاف ويتعاملون معه كأمر طبيعي وهذا هو أساس الحرية فعش ودع غيرك يعيش... وهنا الأختلاف مع الضابط الذى يرى أن الحياة بمعناها الانساني العميق.. كمشترك في التعبير والحب واقتسام المال والنفوذ لا تحتمل إلا أن يحوزها طرفا واحدا أو أطراف تتمايز عن غيرها بالملابس والشكل والجنس والدين... وأنا اليوم أتسائل عن الحالة النفسية والمعرفية والعاطفية الوجدانية لهذا الضابط وهو يرى ابنطلونا ناصل أبشعيرات وقد نجح في الإطاحة ببشة ورموز نظامه.. ولا زال يصر على تفكيك مؤسساته التي آوته وميزته ومنحته السلطان والمال على حساب الآخرين.. وقلبت دنياه.. وسخرت من ثوابت كان إلى أربعة أشهر خلت يظن أن الدنيا لا تستقيم بدونها... فالتحية لأصحاب البناطلين الناصلة العملوا الحركات وحرروا البلاد وحيروا العباد.. مش عباد لله وأنما عباد للعادة والمألوف الذي فيه ظالم مستبد يمتاز بالصلف والغرور أو من يمثله ( صاحبي الضابط) ومظلوم ذليل خاضع لقدره (أنا والكبار أمثالي) عمر البشاري عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.